تبنت
الجمعية العامة للأمم المتحدة في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2022 قرارا يقضي بالطلب
إلى محكمة
العدل الدولية أن تصدر فتوى بشأن الآثار المترتبة على انتهاكات
إسرائيل
المستمرة لحق الشعب
الفلسطيني بتقرير المصير. والقرار
الذي تم التصويت عليه اعتُمِد بأغلبية 87 صوتا واعتراض 26 دولة وامتناع 53 دولة عن
التصويت. يناقش هذا المقال نقطة رئيسة، وهي هل الموقف الإسرائيلي برفض
اللجوء إلى محكمة العدل الدولية سوف يُقبل (كونه طلبا سياسيا إلى محكمة قانونية)؟ ثم يطرح سؤالاً آخر وهو: ما هي القيمة القانونية والعملية لهذا الرأي حال صدوره؟
ماهية
الفتوى التي ينبغي أن تصدرها محكمة العدل(1)؟
ومن خلال مشروع القرار الأول المعنون
"الممارسات الإسرائيلية التي تمس حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني في الأرض
الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية"، قررت الجمعية العامة في الفقرة
18، ووفقا للمادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة، أن تطلب إلى محكمة العدل
الدولية، عملا بالمادة 65 من النظام الأساسي للمحكمة، أن تصدر فتوى بشأن المسألتين
التاليتين، مع مراعاة قواعد ومبادئ
القانون الدولي، بما في ذلك ميثاق الأمم
المتحدة، والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان وقرارات مجلس
الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان ذات الصلة وفتوى المحكمة المؤرخة في 9
تموز/ يوليو 2004:
أولا: ما هي الآثار القانونية
الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن
احتلالها طويل الأمد للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 واستيطانها وضمها لها،
بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديموغرافي لمدينة القدس الشريف
وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعات وتدابير تمييزية في هذا الشأن؟
المحكمة هنا لا تفصل في نزاع كما هو الحال في اختصاصها القضائي، بل تعبّر عن رأي بصدد مسألة تعددت فيها الآراء واختلفت؛ فالمحكمة تقوم هنا بالوظيفة التي تقوم بها بعض الهيئات القانونية داخل الدولة، كإدارة قسم الفتوى في مجلس الدولة مثلاً.. وقد يبدو لظاهر الحال أن هذا الاختصاص لا يتوافق مع الوظيفة الأساسية للمحكمة، وهي الفصل في المنازعات التي تُرفع إليها. لكن حقيقة الأمر على خلاف ذلك، بمعنى أن هذا الاختصاص الإفتائي يدخل في صلب عمل المنظمة
ثانيا: كيف تؤثر سياسات إسرائيل وممارساتها المشار
إليها في الفقرة 18 (أ) -أي الفقرة السابقة- على الوضع القانوني للاحتلال، وما هي
الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة؟
كعادتها،
كان رد الفعل الإسرائيلي عنيفا؛ تارة بالقول إن هذه القضية هي قضية سياسية وهي
ليست من اختصاص محكمة العدل الدولية التي تنظر أصلا في القضايا القانونية، كما
اتخذت قرارا انتقاميا في 6 كانون الثاني/ يناير 2023، ضد السلطة الفلسطينية من
بينها إجراءات مالية لجعلها تدفع ثمن تحركها من أجل صدور هذا القرار. ولم يختلف الموقف الأمريكي أو الأوروبي من حيث الجوهر عن الموقف
الإسرائيلي الذي يقول إن من شأن هكذا خطوة أن تعرقل الجهود السياسية لإحلال السلام.
وقد عبّرت الدول الغربية عموما عن رفضها القرار من حيث المبدأ، عندما تم التصويت
عليه في الجمعية العامة في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2022.
تتمتع محكمة العدل الدولية بوصفها الجهة القضائية
الرئيسة في الأمم المتحدة، المخولة بصلاحية النظر في هذه
القضية (ذكر الفتوى) وإصدار مثل هذه الفتوى، وذلك استناداً إلى نص المادة 96 من
ميثاق الأمم المتحدة والمادة 65 من النظام الأساس لمحكمة العدل الدولية، حيث تنص
الفقرة الأولى من المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة على أنه "لأيٍّ من
الجمعية العامة أو مجلس الأمن أن يطلب إلى محكمة العدل الدولية إفتاءه في أية
مسألة قانونية". وتنص أيضاً الفقرة الأولى من المادة 65 من النظام الأساسي
للمحكمة على أنّ "للمحكمة أن تفتي في أية مسألة قانونية بناءً على طلب أية
هيئة رخص لها ميثاق الأمم المتحدة باستفتائها، أو حصل الترخيص لها بذلك طبقا
لأحكام الميثاق المذكور".
والمقصود بالاختصاص الإفتائي هنا "قيام المحكمة
بإبداء الرأي القانوني في شأن أي مشكلة قانونية يُطلب إليها إبداء الرأي
فيها"؛ فالمحكمة هنا لا تفصل في نزاع كما هو الحال في اختصاصها القضائي، بل
تعبّر عن رأي بصدد مسألة تعددت فيها الآراء واختلفت؛ فالمحكمة تقوم هنا
بالوظيفة التي تقوم بها بعض الهيئات القانونية داخل الدولة، كإدارة قسم الفتوى في
مجلس الدولة مثلاً.. وقد يبدو لظاهر الحال أن هذا الاختصاص لا يتوافق مع الوظيفة
الأساسية للمحكمة، وهي الفصل في المنازعات التي تُرفع إليها. لكن حقيقة الأمر على
خلاف ذلك، بمعنى أن هذا الاختصاص الإفتائي يدخل في صلب عمل المنظمة؛ لأن طلب
الفتوى إنما يُبدى بسبب اختلاف الرأي في شأن المشكلة موضوع الفتوى، ما يجعل الأمر
قريب الشبه بوجود النزاع في شأنها.
وما ينبغي تأكيده في هذا الصدد، أن الفتوى الصادرة عن
المحكمة لا يمكن أن تكون إلا بصدد مسائل قانونية، وهو ما أكدته الفقرة الأولى من
المادة 96 من الميثاق، وبالتالي يمتنع على المحكمة إصدار الفتاوى التي تمس موضوعات
لها صفة سياسية. وقد أكدت محكمة العدل الدولية هذا الأمر، حيث ذكرت في فتواها
الصادرة بتاريخ 13 تموز/ يوليو لعام
1954 أنه "إذا كانت المسألة غير قانونية، فليس للمحكمة سلطة تقديرية بصددها،
وعليها أن ترفض إصدار الفتوى التي طُلبت منها".
وكانت هذه المسألة قد أُثيرت عند عرض قضية الجدار على
المحكمة عام 2003 حيث طعنت إسرائيل والولايات المتحدة، وتبعتهما بعض الدول
الأوروبية، بصلاحية محكمة العدل الدولية في بتّ قضية الجدار الفاصل، معتبرة القضية سياسية وليست قانونية. وهذا يعني أنه إن كانت قضية الجدار الفاصل قضية سياسية، فليس للمحكمة
الحق في تقديم الرأي الاستشاري.
وبالتالي فعلى المحكمة قبل بتّ محتوى الطلب أن تقرر ما يأتي:
أولاً، إذا كانت القضية
قانونية "بما أن تقديمها تم من قبل الجمعية العامة المخولة بذلك، فإن المحكمة
تفترض مبدئياً وجود صلاحية لها، لكن من الممكن أن تقرر المحكمة، بعد أن تلقت
النصوص المكتوبة من الدول والمؤسسات المعنية وسمعت المرافعات، عكس ذلك
تماماً".
قضية يمكن صياغتها قانونياً وتخلق مشكلات بحسب القانون الدولي، يمكن الإجابة عنها قانونياً، وبالتالي تكون القضية قانونية. إن تقليد المحكمة هذا ثُبِّت في الفتاوى الاستشارية الحديثة أيضاً؛ فقد أقرت المحكمة بأن قضية التهديد أو استعمال الأسلحة النووية ليست سياسية بحتة؛ إذ إن المطلوب هو البتُّ في قانونيتها في ضوء قواعد القانون الدولي ومبادئه
ثانياً، إذا قضت بأن
القضية قانونية أيضاً (ليس بالضرورة أن تكون القضية قانونية بحتة؛ لأنّ من الصعب
الفصل بنحو كامل بين ما هو قانوني وما هو سياسي، وخصوصاً في النظام الدولي
الحالي)، على المحكمة أن تحدّد العناصر القانونية في الطلب وتجيب عنها فقط؛ إذ ليس لها الحق -ولا المصلحة- في
الدخول في قضايا سياسية عالقة بين الدول. عملياً، أصدرت محكمة العدل الدولية من
قبل 24 رأياً استشارياً ولم ترفض حتى الآن البتّ في أية قضية بسبب كونها سياسية
بحتة. في الوقت نفسه لم تمارس المحكمة إلى الآن حقها في رفض تقديم رأي استشاري،
حتى إن بعض فقهاء القانون يرون أن ممارسة المحكمة قد ألغت حقاً يضمنه ميثاق الأمم
المتحدة والقانون الأساس للمحكمة. المرة الوحيدة التي رفضت المحكمة فيها تقديم
الرأي الاستشاري سنة 1996م، لم
يكن بسبب أن القضية سياسية أو لأن المحكمة مارست حقها في عدم بتّ تلك القضية، بل
كان بسبب "غياب الصلاحية"؛ إذ إن طلب منظمة الصحة الدولية (حول قانونية
استعمال الأسلحة النووية في النزاعات المسلحة) لم يكن ضمن صلاحياتها، والدليل على
ذلك هو أن الطلب نفسه قد
بُتَّ عندما قدمته الجمعية العامة للأمم المتحدة.
إذن هناك
شرط أساس، هو أن تكون القضية "قانونية". نلاحظ هنا أن ظاهرة الطعن في
قانونية القضية المعروضة أمام المحكمة ليست حديثة، بل رافق هذا الهاجس عمل المحكمة
منذ أيامها الأولى، وهذا طبيعي،
وخصوصاً عندما تكون القضية مرتبطة بمسألة عالقة بين الدول؛ إذ ليس بالضرورة أن
تكون القضية مجردة، وأن تُعاد صياغة الطلب
بطريقة قانونية مجردة؛ لأن العلاقات بين الدول مرتبطة بمصالح مختلفة، قد تعطي
للقضية -وإن كانت قانونية أصلاً- طابعاً سياسياً أيضاً.
وبحسب
المحكمة، أي قضية يمكن صياغتها قانونياً وتخلق مشكلات بحسب القانون الدولي، يمكن الإجابة عنها قانونياً، وبالتالي تكون القضية قانونية. إن تقليد المحكمة هذا ثُبِّت في الفتاوى
الاستشارية الحديثة أيضاً؛ فقد أقرت المحكمة بأن قضية التهديد أو استعمال الأسلحة
النووية ليست سياسية بحتة؛ إذ إن المطلوب هو البتُّ في قانونيتها في ضوء قواعد
القانون الدولي ومبادئه. وهذا
يعني أن المحكمة تدرس تلك القواعد والمبادئ وتطبّقها على تلك القضية، وبالتالي
يُجاب عن تلك القضية بحسب القانون الدولي. وأضافت
المحكمة أن كون القضية لها خلفية سياسية (وهذا طبيعي في العلاقات الدولية) لا يعني
بالضرورة أنها غير قانونية. بكلمات أخرى، قدّمت المحكمة رأياً استشارياً في كل مرة
يمكن تقديم الطلب قانونياً ويمكن الإجابة عنه بحسب القانون الدولي، بينما تقوم المحكمة باعتبار القضية سياسية عندما لا يوجد أي
أساس قانوني لها.
في الرأي الاستشاري(2) بخصوص العضوية في
الأمم المتحدة في 28 أيار/ مايو 1948 نقرأ: "لقد تم الجدال مطولاً حول كون
القضية قانونية أو سياسية؛ لقد رأت المحكمة أنّ من غير الممكن أن تُعتبر القضية
سياسية، إذ إن الطلب الذي تمت صياغته بشكل مجرد، يدعوها للقيام بمهمة قضائية، وهي
أن تقوم بتفسير ما تنص عليه المعاهدة. إن المحكمة غير معنية بالدوافع التي كانت
وراء الطلب ولا ترتبط بالآراء المختلفة الموجودة في مجلس الأمن".
وقد استُشهد بتلك الفقرة في الرأي الاستشاري المتعلق
بصلاحية الجمعية العامة لقبول عضوية دولة في الأمم المتحدة في 3 أيار/ مايو 1950،
وأضافت أن هذا يعني أنه "لا يوجد ما يمنع المحكمة من تقديم الرأي الاستشاري
للجمعية العامة".
محكمة العدل الدولية سوف تنظر في طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة كونه جاء وفق الأصول القانونية المتبعة بهذا الخصوص (سلامة الإجراءات)، ولكونه طلبا قانونيا (مضمون قانوني) كما أنها سوف تصدر رأيها الاستشاري بناء على معطيات كثيرة سوف تقدمها كل الأطراف المعنية والمهتمة (سواء كانت مع أم ضد) أمام هيئة القضاة وخلال فترة زمنية معقولة (سنة على الأقل). وبحسب تقديري فإن الرأي الاستشاري سوف يؤكد ما هو مؤكد
ونقرأ في الرأي الاستشاري بخصوص قضية الصحراء الغربية
في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1975، أنه "قد تمت صياغة الطلبين قانونياً بخصوص
مشكلات تثيرها في القانون الدولي. إذاً لا بد من قضايا قانونية، وأن تحتوي أيضاً
على مسائل مرتبطة بوقائع تاريخية.. وبالتالي تكون للمحكمة الصلاحية ببتّ ذلك
الطلب".
وفي الرأي الاستشاري الذي قدمته المحكمة في 20 كانون
الأول/ ديسمبر 1980 بخصوص تفسير الاتفاق بين منظمة الصحة العالمية ومصر لسنة 1951
نقرأ: "إن كان محتوى الطلب الذي تم تقديمه للمحكمة يدخل ضمن ممارستها
الطبيعية لسلطاتها القضائية، فإنها لن تنظر إلى الدوافع من وراء الطلب".
وفي الرأي الاستشاري الذي قدمته المحكمة في 15 كانون
الأول/ ديسمبر 1989 بخصوص حصانة الأمم المتحدة نقرأ: "إن القضية قانونية
عندما تتعلق بتفسير معاهدة دولية ولتحديد مجالات تطبيقها".
إذن، نخلص إلى القول إلى أن محكمة العدل الدولية سوف
تنظر في طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة كونه جاء وفق الأصول القانونية المتبعة
بهذا الخصوص (سلامة الإجراءات)، ولكونه طلبا قانونيا (مضمون قانوني) كما أنها سوف
تصدر رأيها الاستشاري بناء على معطيات كثيرة سوف تقدمها كل الأطراف المعنية
والمهتمة (سواء كانت مع أم ضد) أمام هيئة القضاة وخلال فترة زمنية معقولة (سنة على
الأقل). وبحسب تقديري فإن الرأي الاستشاري سوف يؤكد ما هو مؤكد؛ أن
الاحتلال غير قانوني، وإن إطالة أمده لا يعني تثبيت الوقائع على الأرض وكل ما بني على باطل فهو
باطل، وسوف يطالب بإزالة المستوطنات، وسوف يؤكد على حق الشعب الفلسطيني في تقرير
مصيره، وسوف يعزز ما جاء في الرأي الاستشاري الخاص بجدار الفصل العنصري عام 2004.
ويبقى السؤال المهم هو: ما هي القيمة القانونية والعملية لمثل هذا القرار حال
صدوره؟
__________
(1) انظر في موقع أخبار الأمم المتحدة على
الرابط التالي: https://news.un.org/ar/story/2022/12/1117202
(2) انظر في عرض هذه الفتاوى: ريد
مجيد محمد الربيعي، دور محكمة العدل الدولية في تفسير وتطبيق ميثاق الأمم المتحدة،
منشورات دار زهران، الأردن، 2001.