للعالم الفقيه الأصولي، والفيلسوف المتكلم المجادل، تقي الدين أحمد بن تيمية، حضور طاغٍ في الأوساط الإسلامية، وبين الفينة والأخرى يتجدد الجدل حول آرائه وتقريراته واجتهاداته، إذ تتراوح المواقف بشأنه بين التقديس والتبخيس، بين من يراه رافع راية منظومة السلف الصالح، المقرر لعقائدهم، والمنافح عن منهجهم وفهمهم، وبين من يراه ضالا مبتدعا، منحرف التفكير، قد تلبس بمقولات المجسمة والمشبهة، ودافع عنها باستماتة منقطعة النظير.
دفاع عبد الله رشدي عن ابن تيمية وردود
أفعال
في هذا الإطار، نشر الداعية المصري، المثير
للجدل، الدكتور عبد الله رشدي، قبل عدة أيام كلاما للدكتور السوري محمد سعيد رمضان
البوطي، جاء فيه: "ونحن نعجب عندما نجد غلاة يكفرون ابن تيمية ـ رحمه الله ـ،
ويقولون إنه كان مجسدا (مجسما)، ولقد بحثت طويلا كي أجد الفكرة أو الكلمة التي
كتبها أو قالها ابن تيمية، والتي تدل على تجسيده فيما نقله عنه السبكي أو غيره، فلم
أجد كلاما في هذا قط".
كلمة الدكتور البوطي التي دافع فيها عن ابن
تيمية، وبرأه فيها من تهمة
التجسيم، جاءت عبر مشاركة قديمة له (قبل ما يقارب 20
سنة) في برنامج تلفزيوني لمناقشة تراث ابن تيمية، شارك فيها حينذاك، الداعية السلفي السوري عدنان
العرعور، والباحث والمحقق الأردني، حسن السقاف ومشايخ وباحثون آخرون.
إعادة نشر رشدي لكلام البوطي أثار ردود فعل
متباينة، بين مادح له، ومشيد بإنصافه لابن تيمية، ومن انتقده وهاجمه، متهما
إياه بالتقرب للسلفية، وطالبوه بالتثبت من عقيدة ابن تيمية في الصفات الإلهية،
وعدم متابعة ما قاله الدكتور البوطي في تبرئة ابن تيمية من تهمة التجسيم؛ لأن
البوطي، حسب قولهم، لم يطلع على كتب ابن تيمية التي صرح فيها بالتجسيم، ككتابه
"بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية".
ذلك الجدل المحتدم، وتلك المساجلات الساخنة،
تعيد تهمة ابن تيمية بالتجسيم إلى الواجهة، وهي تهمة قديمة اتهمه بها قديما علماء
ومشايخ، منهم العلامة الفقيه الشافعي، تقي الدين السبكي (683 - 756 هـ)، الذي قال فيه: "فإنه لما أحدث ابن
تيمية ما أحدث في أصول العقائد، ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن
كان متسترا بتبعية الكتاب والسنة مظهرا أنه داعٍ إلى الحق هادٍ إلى الجنة، فخرج عن
الاتّباع إلى الابتداع، وشذ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع، وقال بما يقتضي
الجسمية والتركيب في الذات المقدسة.".
هذا الجدل يأتي في سياق تراجع حضور التيارات
السلفية، وتقلص دوائر انتشارها وتأثيرها، وهي التي اتخذت من ابن تيمية مرجعا لها
له مكانته العالية في أوساطها، ولتراثه سطوة بالغة على منهجيتها وأفكارها الدينية،
في الوقت الذي حلّ فيه التيار الأشعري المذهبي الصوفي في صدارة المشهد الديني،
وأصبح هو الأعلى صوتا، والأكثر حضورا وتأثيرا، ما يعني أن التيار الأخير سيبذل ما
بوسعه، مستغلا الفرصة السانحة لتفكيك مقولات وأفكار المرجع الديني الأقوى والأشهر
عند السلفية، ألا وهو ابن تيمية.
من أين جاء اتهام ابن تيمية بالتجسيم؟
من أين جاءت تهمة ابن تيمية بالتجسيم؟ وهل
حقا كان مجسما كما يتهمه خصومه ومخالفوه؟ في إجابته وتوضيحه ذكر الباحث والداعية
الأشعري اللبناني، عبد الناصر حدارة أن "كثيرا من (الوهابية) الذين يتبعون
ابن تيمية ينكرون أنه مجسم، ويجادلون بغير علم، ومنهم من يعرف تجسيمه، ولكنه لا
يعتبر ذلك تجسيما، ومنهم من يحاول أن يحمل كلامه في التجسيم محامل بعيدة لينفي عنه
صريح التجسيم".
وبيّن حدارة في منشور له على الفيسبوك،
اطلعت
عربي21 عليه أن "المخلوقات التي خلقها الله عز وجل إما أجسام أو قائمة
بأجسام.. والجسم هو ما له أبعاد ثلاثة، الطول والعرض والعمق، وهو ما عرفه الراغب
الأصفهاني في مفرداته بقوله: "الجسم ماله طول وعرض وعمق".
وفي السياق ذاته، رأى أستاذ العقيدة والفلسفة
بجامعة الأزهر، الدكتور اليماني الفخراني أن "ابن تيمية مجسم لعدة أسباب،
منها أنه نفى المجاز اللغوي وهذا خطأ فادح، حمله على فتح باب حمل النصوص الموهمة
للتجسيم على ظاهرها، كما أوصى ابن تيمية بكتب المجسمة وكان معظما لها، خاصة كتابي
"نقض الدارمي لبشر المريسي"، و"الرد على الجهمية"، كلاهما
لعثمان بن سعيد الدارمي، وهما كتابان عمدة في التجسيم".
اليماني الفخراني.. أستاذ العقيدة بالأزهر
وأضاف الأكاديمي اليماني الماتريدي: "ويتضح
هذا من قول ابن القيم في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامي، وفيهما يقول ابن القيم: "وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوصي بهذين الكتابين أشد الوصية
ويعظمها جدا، وفيهما من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في
غيرهما" قلت: وهما رأس التجسيم" وفق قوله.
وواصل حديثه لـ
"عربي21" بالقول: "يهيئ ابن تيمية القارئ لقبول التجسيم، فيقول: "وأما لفظ (الجسم، والجوهر،
والمتحيز والجهة ونحو ذلك، فلم ينطق كتاب ولا سنة بذلك في حق الله لا نفيا ولا
إثباتا، وكذلك لم ينطق بذلك أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة
المسلمين من أهل البيت وغير أهل البيت، فلم ينطق أحد منهم بذلك في حق الله لا نفيا
ولا إثباتا"، أي إن الجسمية بالنسبة لله لا منفية ولا مثبتة عند ابن تيمية،
وهذا يعني أن 50% يثبت الجسمية لله تعالى و 50% ينفيها".
ووفقا لليماني، فإن ابن تيمية يرجح الجسمية
لله تعالى، وذلك في قوله: "أما الحجج الشرعية فظاهرة لم يدّع أحد من العقلاء
أن الكتاب والسنة ودلالتهما على الجسم نفسه أظهر من دلالتهما على ثبوته، بل عامة
الفضلاء المنصفين يعلمون أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على أن الله تعالى بجسم،
وجميع الطوائف من نفاة الجسم ومثبتيه متفقون على أن ظواهر الكتاب والسنة تدل على
إثبات الجسم"، كما في كتابه (بيان تلبيس الجهمية).
وينقل نصا آخر عن ابن تيمية للتدليل على أن ابن
تيمية يرجح الجسمية، يقول: "ومعلوم أن كون البارئ ليس جسما ليس هو مما تعرفه
الفطرة والبديهة ولا بمقدمات قريبة من الفطرة، ولا بمقدمات بينة في الفطرة؛ بل
بمقدمات فيها خفاء وطول، وليست مقدمات بينة، ولا متفقا على قبولها بين العقلاء، بل
كل طائفة من العقلاء بين أن من المقدمات التي نفت بها خصومها ذلك، ما هو فاسد معلوم
الفساد بالضرورة عند التأمل وترك التقليد".
وتابع نقله عن ابن تيمية: "وطوائف كثيرة
من أهل الكلام يقدحون في ذلك كله، ويقولون: بل قامت القواطع العقلية على نقيض هذا
المطلوب، وأن الموجود القائم بنفسه لا يكون إلا جسما، وما لا يكون جسما لا يكون
إلا معدوما، ومن المعلوم أن هذا أقرب إلى الفطرة والعقول من الأول".
تفنيد تهمة التجسيم والرد عليها
وللرد على تلك التهم وتفنيدها، خصص الباحث
إبراهيم بن محمد صديق ورقة بحثية بعنوان "مقصلة التجسيم.. الجزء الأول خصصه
لبيان موقف ابن تيمية من التجسيم، والجزء الثاني لدعاوى تجسيم ابن تيمية في
الميزان"، صدرت عن مركز سلف للبحوث والدراسات، أتى الباحث في ورقته على كل
تلك التهم وناقشها وفندها ورد عليها، وفق ما ذكره الباحث في مقدمة ورقته.
تشيع في أوساط من يتهمون ابن تيمية بالتجسيم، حكاية ذكرها ابن بطوطة في رحلته بشأن حادثة رآها هو من ابن تيمية، التي ذكرها
بقوله: "وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين ابن تيمية، كبير
الشأن، يتكلم في الفنون، إلا أن في عقله شيئا، وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم،
ويعظهم على المنبر، وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر
الجامع ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال؛ "إن الله ينزل إلى سماء الدنيا
كنزولي هذا"، ونزل درجة من درج المنبر".
يتابع ابن بطوطة سرد حكايته عن ابن تيمية: "فعارضه فقيه مالكي يُعرف بابن الزهراء، وأنكر ما تكلم به، فقامت العامة إلى
هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضربا كثيرا حتى سقطت عمامته، وظهر على رأسه
شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين مسلم قاضي الحنابلة،
فأمر بسجنه وعزره بعد ذلك".
توقف الباحثون عند تلك الحادثة، وتتبعوا
تاريخ دخول ابن بطوطة لدمشق وقارنوه بتاريخ سجن ابن تيمية في سجن القلعة، فظهر أن
ابن بطوطة لم يقابل ابن تيمية يقينا، ولم يحضر هذه الواقعة قطعا؛ لأن ابن بطوطة
صرح أنه دخل دمشق يوم الخميس التاسع من شهر رمضان سنة 726 هـ، وابن تيمية كان في
ذلك الوقت مسجونا في قلعة دمشق بإجماع المؤرخين من الموافقين والمخالفين، فابن
تيمية – كما يذكر الحافظ ابن كثير - اعتقل يوم الاثنين السادس من شعبان سنة 726 هـ".
وتساءل الباحث في معرض تفنيده لما وصفه
بأكبر مستنداتهم في اتهام ابن تيمية بالتجسيم، ألا وهو أن إثبات الصفات يفضي إلى
التجسيم "هل إثبات الصفات تجسيم؟ فالأشاعرة يرون أن إثبات الصفات الفعلية
وبعض الصفات الذاتية تجسيم، وابن تيمية ينازعهم في ذلك، ويبين في معرض كلامه أن
هذا المصطلح الخاص بالأشاعرة لا يلزمه ولا يلزم أهل السنة والجماعة، فابن تيمية
وأهل السنة يثبتون ما أثبته الله ورسوله ولا يقولون؛ إن هذا تجسيم أو ليس بتجسيم،
ولا يلزمهم التمسك بمصطلحات حادثة لم ترد في الكتاب والسنة".
وأردف: "ولا يصح لغيرهم من الأشاعرة ومن
معهم بأن يحكموا على إثبات صفات الله بأنه تجسيم؛ لأن هذا مجرد حكم منهم بلا دليل،
يقول ابن تيمية: "فما ثبت بالكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة هو حق، وإذا
لزم من ذلك أن يكون هو الذي يعنيه بعض المتكلمين بلفظ الجسم"، بل يقول لهم
تنزلا في مواضع؛ "إن كان هذا تجسيما فقولي حق، لأني أثبت ما ثبت في الكتاب
والسنة، ولا شأن لي بتسميتكم.".
ولفت إلى قاعدة أعملها ابن تيمية في مناقشته
للمتكلمين، ألا وهي أنه يلزمهم بإثباتهم لبعض الصفات التجسيم كذلك، فالأشاعرة
بإثباتهم للصفات السبع و العشرين، كالحياة والعلم والقدرة والإرادة والبصر
والكلام والسمع... يلزمهم التجسيم، إذ لا يعرف متصف بهذه الصفات إلا جسم، كما يقال
للمعتزلة وإثباتكم للأسماء تجسيم، إذ لا يعرف من يتسمى بهذه الأسماء إلا
جسم"، ما يعني أن ما يلزم ابن تيمية من إثبات الصفات، يلزمهم هم كذلك، فما
الفرق بين إثباتهم وإثبات ابن تيمية".
من جهته قال مدرس العلوم الشرعية في
بنغلادش، الأمين المدني في حواره مع
"عربي21" : "يجب علينا أن نتحلى
بالإنصاف والاعتدال، والعمل على توحيد المسلمين، والابتعاد عن الافتراق، ومع أنني
حنفي مذهبا، ماتريدي عقيدة، إلا أنني أُحب الإمام ابن تيمية، رحمه الله رحمة
واسعة، وغفر له ما وقع فيه من خطأ وزلات".
الأمين المدني، مدرس علوم شرعية في بنغلادش
وأوضح أن "منهجه في المسائل الظنية، هو
أنه (لا إنكار في مسائل الاختلاف) في العقيدة والفروع، إلا ما يكون سببا لتفريق
الأمة فأحترز منه دائما، وأنا أعلم أن المسلمين اختلفوا بشأن ابن تيمية اختلافا
كثيرا جرحا وتعديلا، لكنني أحبه ما يدفعني لتوجيه أقواله توجيها حسنا ما كان الأمر
ممكنا وسائغا، وإذا ما تعذر ذلك، فنبين وجه الخطأ فيه، ونكل أمره إلى الله تعالى".