أفكَار

استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسية المحمدية.. رأي فلسفي

أبو يعرب المرزوقي: الحرابة عللها عجز الدولة ومن ثم فالأولى بالعقاب هو من عجز عن حماية الأمن. (الأناضول)
عجب بعض طلبتي لعنوان محاولة التفسير الفلسفية للقرآن الكريم التي كتبتها في ماليزيا، إذ عنونتها بـ"استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق السياسية المحمدية". وتساءلوا عن علاقتها بواقع الأمة.

ولعل البعض منهم بدأ يفهم العلاقة بعد الأحداث الجلل التي شرع فيها الشباب في الربيع، وما أكتبه حولها من كلام جله يتعلق ببعدي كل استراتيجية للعمل السلمي كانت أو للعمل الحربي.

فما كان حين بدأت العمل 2003 وأنهيت أجزاءه الخمسة 2005 مجرد أمل وحلم، هو اليوم حقيقة ماثلة للعيان؛ أي ما أسميه دائما باستئناف دور الأمة التاريخي.

والطليعة هي الشباب الذي ثار بجنسيه لتحقيق شروط الحرية والكرامة؛ أي التحرر من الاستبداد والفساد في الحكم الداخلي، ومن الاستضعاف والاستتباع  في الحكم الخارجي المهيمن علينا وعلى العالم.

فما المقصود بـ"استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق السياسة المحدية"؟ على أي تحدّ كان ذلك مشروع تفسير فلسفي للقرآن الكريم، بعد كتاب وحدة الفكرين الفلسفي والديني أو المشترك بينهما؟

التحدي الداخلي هو سهام المليشيات الخمس (الباطنية والصليبية والعلمانية والليبرالية ومظلتها أي القومية الفاشية)، والخارج موظفوهم من الأعداء.

والتحدي يتعلق ببعدي الاستراتيجا في السلم والحرب على حد سواء: بعد الصراع اللطيف أو الاجتهاد النظري، وبعد الصراع العنيف أو الجهاد العملي.

والاجتهاد النظري والجهاد العملي كلاهما يحصل في السلم حصوله في الحرب، فتكون المسألة متعلقة بأبعاد الاستراتيجيا الأربعة، وتوحدها الرسالة أصلها.

فالرسالة هي الأصل الذي يتفرع عنه أربعة أفنان، هي: الاجتهاد النظري 1 في السلم 2 وفي الحرب والجهاد العملي 3 في السلم 4 وفي الحرب. وذلك هو موضوع الاستراتيجيا بوصفها معرفة نظرية وتطبيقية.

والعلم هو "استراتيجية التوحيد القرآنية" والتطبيق هو "السياسة المحمدية". فكيف ذلك ولم الجمع بين هذين الوجهين في تفسير القرآن المتضمن للسنة؟

وقبل الجواب عن هذا السؤال العويص، فلأبدأ ببيان القصد بـ "فلسفي" وصفا للمحاولة. ولم اعتبرت القرآن استراتيجية توحيد بمعنى غير كلامي؛ أي لا يقتصر على توحيد الله أو هو بصورة أدق أشمل منه.

فوصف التفسير بكونه فلسفيا، يعني أنه لا يقصر الخطاب على التوجه إلى المؤمنين بالقرآن بل هو يتوجه إلى كل من يحتكم إلى العلاج العقلي والمنطقي لفهم علاقة التاريخ الإنساني بما بعده، أي بما يضفي عليه المعنى عند من يؤمن بالقرآن ومن يكفر به في آن؛ لأنه حوار دائم بين الرب والمربوب سواء كان الله أو الطبيعة في علاقته بالإنسان.

والتوحيد الذي تستهدفه الاستراتيجيا ليس المعنى الكلامي أي توحيد الله، بل أكثر من ذلك؛ أي توحيد أي شيء، وقبل ذلك الله طبعا. بما في ذلك توحيد "الأنا" لتجاوز الزوجية التي يعيشها بين كيانه العضوي وكيانه الروحي.

وصف التفسير بكونه فلسفيا؛ يعني أنه لا يقصر الخطاب على التوجه إلى المؤمنين بالقرآن، بل هو يتوجه إلى كل من يحتكم إلى العلاج العقلي والمنطقي لفهم علاقة التاريخ الإنساني بما بعده، أي بما يضفي عليه المعنى عند من يؤمن بالقرآن ومن يكفر به في آن؛ لأنه حوار دائم بين الرب والمربوب سواء كان الله أو الطبيعة في علاقته بالإنسان.
لكن القصد كان التركيز على توحيد الإنسانية حول القيم القرآنية عامة؛ باعتبار الرسالة خاتمة وكونية، وتوحيد الأمة فيها يؤدي دور القاعدة  الفعلية لتحقيق نموذج متعين من قيمه.

من هنا جاء الكلام على منطق السياسة المحمدية: فهو تطبيق لهذه الاستراتيجية بتوحيد الإنسانية، بدأ بقاعدة فعلية هي الأمة الإسلامية: وهي استراتيجية تجمع بين بعدي كل سياسة، أي التربية لتكوين الإنسان والحكم لتحقيق شروط التعايش بشرعية الدولة وشوكتها.

فإذا جمعت هذه العناصر، فلكأنك قلت: الرسول تلقى استراتيجية لرسالة كونية (استراتيجية القرآن التوحيدية)، وطبقها بسياسة تحقق قاعدة فعلية ونموذجا من الغاية: لذلك فسياسته تجمع بين أخلاق السلم وفن العيش، وأخلاق الحرب وفن التعايش في آن.

لذلك، فالرسالة تتعلق بما وراء التاريخ، والتطبيق النبوي يتعلق بالتاريخ. والأول موضوع فلسفة الدين. والثاني موضوع فلسفة التاريخ: قيم مجردة وتطبيق يعينها. ذلك هو العنوان، فيكون القرآن في آن فلسفة دين وفلسفة تاريخ.

مثالان من الرياضيات القديمة والحديثة بالعلاقة بين النظرية وأداة بنائها من فني الجبر الهندسي قديما والهندسة الجبرية أو التحليلية حديثا. ولولا هذين الفنين، لما تم تجاوز اليونان في الرياضيات؛ لأن تحويمهم على الرياضيات الكلية الواصلة بين المتصل والمنفصل لم يبلغ ثمرته.

ففي الجبر الهندسي نبني شكلا ليعبر عن النظرية ببناء محدود لا يتجاوز الأبعاد الثلاثة. في الهندسة الجبرية، الأبعاد لا متناهية، لكنها لا تحقق الوصل التام الذي تطلبه الرياضيات الكلية، التي حلها انتقل من استنفاد الفضل إلى  التحليل الرياضي المعالج للتفاضل والتكامل.

لماذا؟ لأن العلاقة في الثانية ترجمة الشكل بالعدد، في حين أن العلاقة في الأولى ترجمة العدد بالشكل. والشكل معين ومحدود الأبعاد. والعدد مجرد ولامحدود الأبعاد. وكل نظرية الأعداد الحقيقية نتجت عن الوصل بين الأمرين،  فتم الجمع على الأقل فرضيا بالكلام على الترتيب طوبولوجيا بعد القيس.

الطريف في علاقة السياسة المحمدية بالاستراتيجيا القرآنية، هو التحرر من هذه المقابلة؛ لأنها تجمع بين علاجين يشبهان الهندستين.

أعني الهندسة البنائية التي هي أداة كل أصول أقليدس، والهندسة التحليلية التي مكنت من التحرر النسبي من محدودية الفضاء الطبيعي الحسي مثلث الأبعاد، وتعويضه بفضاء مجرد أبعاده غير محدودة.

بالتحرر من الفضاء المثلث، صار الفضاء مجردا وليس حسيا تماما، كما جعل الإسلام الأمة مفهوما مجردا متحررا من الإثنية بالأخوة البشرية ومن الطائفية والطبقية (التفاضل الوحيد بين البشر بالتقوى : الحجرات 13).

لذلك، فشلت أنواع التفسير السابقة، فلم يدركوا أن الرسالة الخاتمة تتضمن بعدين؛ إصلاح التحريفات السابقة، ووضع استراتيجية البديل لتحقيق قيم الرسالة في التاريخ الفعلي.

واستراتيجية البديل نظرية مصحوبة بتطبيق يعينها في أمة نواة هي نموذج التوحيد الكوني بقيم القرآن، الرسالة الخاتمة المذكرة بالدين الفطري والناقدة لتحريفاته.

وهذه الأديان المحرفة نوعان مزدوجان واصل متقدم عليهما بوصفه أصل التحريف للفطرة الأصلية: اثنان منزلان واثنان طبيعيان ثم الشرك.

الإسلام بديل المنزلين المحرفين اليهودية والمسيحية، والطبيعيين المحرفين الصابئية والمجوسية، وأصل التحريف هو الشرك: الحج 17.

ما استراتيجية القرآن التوحيدية، وما منطق السياسة المحمدية، ولم الجمع بينهما؟ ذلك هو هدف المحاولة، وثمراتها وصلتا بوضع الأمة.

وكان من الواجب أن أمهد للبحث بمقدمات أهمها:1 ـ طبيعة الأمر الديني.2 ـ طبيعة العلاقة بين القرآن والسنة. 3 ـ العلم المدرك لحدوده. ثم 4 ـ مفهوم الاستراتيجيا 5 ـ وأخيرا العلاقة بين الاستراتيجيا التوحيدية والسياسة عامة والسياسة المحمدية خاصة. وسأكتفي في هذا القسم الأول بالأخيرة.

فمحاولو الفصل بين الديني والسياسي في الإسلام لا يلعبون، هم مدركون بأن الاستراتيجيا القرآنية تقتضي ضرورة أن يكون لها دولة، وأن دولتها تسعى لتحقيق قيمها في التاريخ.

اليهودية نشأت تحت الاستعمار الفرعوني والمسيحية تحت الروماني. والصابئية المجوسية صنعتهما دولة ولم يصنعا دولة: تحريف السياسي للديني.

الأديان الأربعة حرفها كون أصحابها بلا سيادة، فكان الدين أداة لا غاية، وذلك كله بين من سورة آل عمران والمائدة للدينين الباقيين من الأديان المنزلة (اليهودية والمسيحية). الإسلام العكس تماما: شعب حر نزل عليه دين يتجاوزه إلى البشرية كلها، وطولب بأن يضع لبنات القوة التاريخية التي تحقق قيم القرآن.

الإسلام العكس تماما: شعب حر نزل عليه دين يتجاوزه إلى البشرية كلها، وطولب بأن يضع لبنات القوة التاريخية التي تحقق قيم القرآن.
صحيح أن ذلك لن يحول دون إمكانية التحريف، لكنه يبقى على الأقل في الأذهان حائلا دونها؛ ما يجعل الأمة دائما فيها حماة الحصانة.

ومن عجائب هذه الدولة التي أسستها رسالة الإسلام، أنها لا تقول بدينية السلطة السياسية؛ أي إنها تنفي الحق الإلهي في الحكم لأشخاص معينين.

وتميز بين شروط قانونية القانون (يحددها الدستور) والقانون (تعينه السلطة الشرعية).

فنسبة الأمر للمستجيبين لربهم واعتبار إدارته هي شوراهم فيه، يجعل الحكم مبنيا على مبدأ الاختيار الحر لا على مبدا التعيين بوصية: أمرهم=أمر الجماعة. شورى بينهم=شورى بين الجماعة.

ما يعني أن دور القيم الدينية هو قيم التشريع أو قانون القانون الذي يبقى بمعزل عن إرادة الحاكم، لئلا يتحول بعكس ذلك  إلى قاض ومتقاض بأن يكون واضع قيم.

وإذن، فالنظام السياسي جمهوري طبيعة، وديموقراطي إدارة، لكنه خاضع لقيم متعالية عليه، هي قيم القرآن، وما أدوات تحقيق غاية الحكم الفقهي إلا عقوبة إضافية للظرف.

وهذه هي أهم معضلة جعلت الفقه يتحول إلى تجميد للتشريع الإسلامي؛ لأن الفقهاء خلطوا بين خصائص التشريع القيمية وأعيان أدواته: نوع العقوبة أداة والهدف منها غاية.

ولنضرب مثال العدل والأمانة شرطي الحكم في النساء 58، فهما ثابتا خلق الحاكم وصفة الحكم، وأدوات أداء الأمانة وتحقيق العدل فيهما متغيرة.

فنسبة الأحكام الفقهية إلى القرآن الكريم بالقياس إلى القانون الوضعي، هي نسبة  القانون في تنظيم الشؤون العامة إلى الدستور الذي هو قانون القانون. ولما كان الدستور من الله فهو مطلق الثبات والثبوت، وكان الله قد ميز بين قيم الحكم وأدواته، فذلك يعني أن هذه متناسبة مع ظرف الأمة.

كذلك فهم الخلفاء الراشدون الأمرَ، وليس فيه تعطيل للحكم بل تمكين له بالأدوات المناسبة التي يحددها المسلمون بحكم اختاروه بحرية ليكون ممثلا لإرادتها.

من عجائب هذه الدولة التي أسستها رسالة الإسلام، أنها لا تقول بدينية السلطة السياسية، أي إنها تنفي الحق الإلهي في الحكم لأشخاص معينين.
مثال ذلك في جاهلية بنيت على النهب والاغتصاب كانت حماية الملكية وأمنها، يقتضي حلا مناسبا لمنع السرقة والحرابة. والهدف قيام الدولة بوظيفتي الحماية والرعاية.

يكون حكم حماية الملكية تعويض المسروق وتعويض النظام العام بعقاب يعالج السارق وعلل الحرابة، بدل بتر اليد أو قطعها من خلاف.

فالحرابة عللها عجز الدولة، ومن ثم فالأولى بالعقاب هو من عجز عن حماية الأمن. وغالبا ما يكون المحتربون محميين من أجهزة الدولة.

فلنا في التهريب مثلا ـ المخدرات والأسلحة وحتى البضائع العادية ـ، دليل قاطع أن الكثير منها بمشاركة من أجهزة الاستبداد والفساد.

أعلم أن ذلك لا يعجب الكثير من الفقهاء الذين يتجاهلون أن التشريع هو لتحقيق شروط استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف.

تمييز الثابت والمتغير في القانون يحرره من أن يكون سببا لانحطاط الأمة دنيويا (استعمار الإنسان في الأرص) وأخرويا (الاستخلاف).

وهذا من أهم مقومات التناسق بين الاستراتيجيا التوحيدية ومنطق السياسية المحمدية، وهو شرط القول بصلوحيته المتجددة لكل مكان وزمان.

هدفي ليس عرض مضمون المحاولة، بل بيان صلتها بالوضع الراهن وكيفية استفادة خطاب المقاومة وجهادها، لتكون جديرة بتمثيل كونية الإسلام.

سنستأنف الكلام في الموضوع في قسم ثان إن شاء الله، لنحلل مضمون استراتيجيا القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية بصورة مختصرة.