مقالات مختارة

العراق: مغارة حقوق الإنسان ثانية

جيتي
تحدثنا في الأسبوع الماضي عن التصريح  "الغريب " للسيد رئيس مجلس الوزراء، بأن تطبيق المبادئ الدولية لحقوق الإنسان قد "أَضحى " معيارا لبناء المؤسسات والتشريعات والسياسات في العراق! وأوضحنا كيف أن مسار حقوق الإنسان في العراق، لم يشهد أي تغيير جوهري بعد 2003؛ لأنه ليس ثمة إيمان حقيقي بهذه الحقوق، ولا أحد يحترمها أصلا!

في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، أصدر رئيس مجلس الوزراء إعلانا يطلب فيه من كل شخص تعرض للتعذيب، أن يُقدِّم شكواه إلى مستشاره لحقوق الإنسان مع الأدلة الثبوتية. ومع أن هناك  "مراوغة " في عبارة الأدلة الثبوتية في وقائع التعذيب أو التهديد به، لكن هذا الإعلان دفع أحد الذين تعرضوا للتعذيب إلى الإفصاح عن ما تعرض له من تعذيب.

فقد كشفت الواقعة عن تعرض المواطن  "حسن محمد "، من محافظة كركوك، الذي يعمل حارسا ليليا، إلى تعذيب شديد أفقده يديه الاثنتين، عندما منع أحد الأشخاص (الذي عرف نفسه بأنه منتسب في استخبارات الحشد الشعبي) من سرقة أحد المحلات؛ فقد ألقي القبض على الحارس بعد ذلك بستة أيام بعد مداهمة منزله، وأودع السجن لدى استخبارات الشرطة الاتحادية، حيث تناوب ضابطان، رفقة الشخص السارق نفسه، على تعذيبه على مدى 21 يوما من أجل إرغامه على الاعتراف بانتمائه إلى داعش. وهو ما قام به فعلا، لكنه أنكر هذا الاعتراف أمام القاضي وأبلغه أن هذا الاعتراف انتزع منه تحت التعذيب. وبعد المحاكمة، عادوا إلى تعذيبه لمدة 16 يوما أخرى، لإرغامه على عدم إنكار اعترافه أمام القاضي مرة أخرى، ثم بدأت الغرغرينا تنخر أصابعه ويديه بفعل التعذيب، فاضطرت إدارة السجن إلى نقله إلى المستشفى، حيث بترت معظم أصابعه وأجزاء من كفيه، وفي أثناء وجوده في المستشفى، زاره أحد المحققين وطلب منه التنازل عن شكواه مقابل الإفراج عنه، بعد ذلك حكم بالسجن مدة ست سنوات، من دون الالتفات لواقعة التعذيب، قبل أن تقوم محكمة التمييز بإسقاط التهمة والإفراج عنه. ثم وجد نفسه أمام تهمة أخرى تعود إلى العام 2016 وهي تهمة الإرهاب، فسجن لثلاثة أشهر أخرى، وفي أثناء وجوده في السجن، تعرض والده لضغوطات من ضباط التحقيق عبر وساطة شيوخ المنطقة، لعقد صلح عشائري مقابل عدم التعرض لابنه مرة أخرى، وهو ما تم فعلا حيث أفرج عنه بتاريخ 28 حزيران/ يونيو 2022!

الغريب هنا، هو ما حدث بعدما تجرأ هذا الشخص على الإبلاغ عن واقعة التعذيب التي كان ضحيتها، حيث أبلغه مستشار رئيس مجلس الوزراء لشؤون حقوق الإنسان، بأنهم سيخصصون له راتبا من الحماية الاجتماعية؛ وهي رشوة صريحة لا تأويل فيها، ولما أخبره بأن راتبا كهذا سيكون غير كاف، أبلغه بأنهم سيقومون بتسجيله ضمن  "ضحايا الإرهاب "، وهذا، في الواقع، تدليس صريح على قوانين الدولة. وفي النهاية، قال له السيد المستشار؛ إنه لا يمكن فعل شيء لأنه قد تنازل عن حقه الشخصي، وأن الضباط قد عوقبوا؛ في محاولة للتغطية على الجريمة. لكن حسن أكد له أن هذه المعلومات غير صحيحة، وأن أحدا منهم لم يعاقب، بل إن أحدهم نال ترقية.

في تقرير بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) حول حقوق الإنسان، الذي يغطي المدة بين 1 تموز/ يوليو 2019 حتى 30 نيسان/ أبريل 2021، نقرأ النص الآتي:

 "تثير النتائج مخاوف جدية من أن أغلب الشروط القانونية الأساسية والضمانات الإجرائية المنصوص عليها في القانون العراقي والدولي، تُنتهك على نحو منتظم "، وأنه  "لا يبدو أن الآليات المطبقة لتلقي شكاوى التعرض للتعذيب، تعمل على نحو فعال أو تعالج تلك القضايا "، لينتهي إلى أن  "عدم الامتثال للشروط القانونية والضمانات الإجرائية، لا تجعل تحقيق العدالة المنصفة والشفافة أمرا مستحيلا فقط، بل أيضا يفسح المجال لممارسات مقيتة كالتعذيب وسوء المعاملة بالانتشار، مما يديم دائرة متواصلة من الرضوخ والإنكار. إن التنفيذ الكامل للإطار القانوني الوقائي، من شانه أن يبني ثقة الجمهور في نظام العدالة الجنائية، وعلى نحو أعم، في شرعية الحكومة".

وينتهي تقرير آخر لبعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) المعنون  "حقوق الإنسان في تطبيق العدالة: الشروط القانونية والضمانات الإجرائية لمنع التعذيب والمعاملة السيئة"، الصادر في آب/أغسطس2021، إلى أن  "التعذيب حقيقة واقعية في أماكن الاحتجاز في جميع أنحاء العراق "، وإلى أن "المساءلة المحدودة " في قضايا التعذيب أو إساءة المعاملة تشير إلى  "قبول هذه الممارسات والتغاضي عنها كوسيلة لنزع اعتراف "، وإلى أن ثمة  "عدم التزام بالإطار التنظيمي لمنع التعذيب، يمكن من إخفاء حقائق غرفة الاستجواب وأماكن الاحتجاز من الرقابة القانونية الفعالة، مما يؤدي إلى استمرار دائرة المواقف الدفاعية والاستنكارية "، وإلى أن  "معظم الشروط القانونية الأساسية والضمانات الإجرائية لا يتم احترامها بشكل روتيني"، ووثق التقرير وقائع تعذيب استنادا إلى مقابلات مع  "محجوزين"، وأنه  "من بين العدد الكلي للأشخاص الذين تمت مقابلتهم، ذكر 38 شخصا بأنهم تعرضوا لأفعال مختلفة، تصل إلى حد التعذيب و/أو سوء المعاملة خلال  "الاستجواب".

يرتبط بهذا الوضع الكارثي، تقاعس السلطات العراقية المنهجي عن القيام بالتزاماتها بموجب "اتفاقية مناهضة التعذيب، وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة"، التي انضم إليها العراق في العام 2008، فهذه الاتفاقية توجب على الدولة الطرف في الاتفاقية، ضمان "أن تكون جميع أعمال التعذيب جرائم بموجب قانونها الجنائي، وينطبق الأمر ذاته على قيام أي شخص بأية محاولة لممارسة التعذيب، وعلى قيامه بأي عمل آخر، يشكل تواطؤا ومشاركة في التعذيب " (المادة 4/1). وأن تضمن "لأي فرد يدعي بأنه قد تعرض للتعذيب في أي إقليم يخضع لولايتها القضائية، الحق في أن يرفع شكوى إلى سلطاتها المختصة، وفي أن تنظر هذه السلطات في حالته على وجه السرعة وبنزاهة. وينبغي اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان حماية مقدم الشكوى والشهود من أنواع المعاملة السيئة كافة أو التخويف؛ نتيجة لشكواه أو لأي أدلة تقدم" (المادة 13).

وهذا لم يحصل، فما زال قانون العقوبات العراقي يوفر غطاء صريحا لأعمال التعذيب، ولم يجر تعديله ليتسق مع أحكام هذه الاتفاقية، ولا تزال سلطات الدولة تغطي على جرائم التعذيب، ولا يزال القضاء يتعامل مع الاعترافات المنتزعة بالإكراه تحت التعذيب، دون أن يلتفت إلى دعاوى من وقع عليهم التعذيب من الأصل.

إن التعذيب في العراق  "ممارسة طبيعية"، وتحظى هذه الممارسة بغطاء رسمي محكم.

القدس العربي