قضايا وآراء

"زلزال" الطبوبي.. هل هي القطيعة بين اتحاد الشغل ومنظومة قيس سعيد؟

الخطاب الأخير للطبوبي ضرب في العمق كل الشرعيات التي حاول قيس سعيد أن يؤسس عليها انقلابه
زلزال سياسي، هكذا تم توصيف التصريحات التي أطلقها الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، في خطابه الذي ألقاه صباح يوم أمس 3 كانون الأول/ ديسمبر 2022، في قصر المؤتمرات بالعاصمة التونسية، بمناسبة الذكرى السبعين لاغتيال الزعيم الراحل الشهيد فرحات حشاد.

تصريحات نارية وخطاب غير مسبوق مثّل نقطة تحوّل فاصلة تؤشر ربما على قطيعة تامة بين المركزية العمالية الأكبر في البلاد ومنظومة الحكم برئاسة قيس سعيد

وأهم ما جاء في خطاب الطبوبي، تأكيده أن الاتحاد لم يعد "يقبل بالمسار الحالي لما اعتراه من غموض وتفرد بالحكم ولما يمكن أن يخبئه في قادم الأيام من مفاجآت غير سارة".

وحذّر الطبوبي الحكومة "من أي إجراء يستهدف المواد الأساسية ويُجوع الشعب"، وقال إن الاتحاد يعتبر الاتفاقات السرية التي أبرمتها الحكومة مع صندوق النقد الدولي غير ملزمة للأجراء، وسيتصدون لها بكل الطرق المشروعة والنضالية".

وأضاف أمين عام اتحاد الشغل، أنه "لا مجال للتراجع عن المسار الديمقراطي وعن الحريات" وندد بالنهج الذي تعتمده السلطة، القائم على التفرد بالحكم.

 وبخصوص الانتخابات القادمة قال: “نحن مقبلون على انتخابات بلا لون ولا طعم جاءت وليدة دستور لم يكن تشاركيا ولا محلّ إجماع أو موافقة الأغلبية"، وهو ما ولد وضعا خانقا وتدهورا على جميع الأصعدة. 

وتم خلال الاجتماع رفع شعارات من الحاضرين على غرار: “تونس تونس موش للبيع يا حكومة التطبيع” و”الشعب يريد ثورة من جديد” و”يا حشاد يا حشاد الحكومة باعت البلاد”. 

دلالات الخطاب


هذا الخطاب يعني في مضمونه وتوقيته والشعارات التي رفعت فيه قطيعة تبدو تامة بين المركزية العمالية الأكبر في البلاد ومنظومة 25 تموز/ يوليو، وصلت حد الدعوة إلى الثورة من جديد. وهو خطاب يتوجه مباشرة  إلى رأس السلطة في البلاد ويعلن رفضه لكل خياراتها ويطعن في كل قراراتها، في تطور بدا لافتا، لأن الاتحاد كان يتجنب الإشارة إلى رئيس الجمهورية في كل بياناته وخطاباته.

وهو إلى ذلك خطاب بدون قفازات وبعيدا كل البعد عن اللغة الدبلوماسية الحذرة التي طالما اتسمت بها خطابات الاتحاد تجاه السلطة الحالية وخاصة مؤسسة الرئاسة.
وللتذكير فإن علاقة الاتحاد بمنظومة 25 يوليو مرت بمراحل ثلاث بدأت بالمساندة المطلقة للانقلاب وإجراءاته الاستثنائية، ثم تطورت إلى حالة من المساندة النقدية عرفت خلالها العلاقة بين الطرفين حالة من القلق والشد والجذب، وانتهت بقطيعة تبدو تامة ونهائية بين الرجلين.

الخطاب الأخير للطبوبي ضرب في العمق كل الشرعيات التي حاول قيس سعيد أن يؤسس عليها انقلابه
وإلى جانب القطيعة مع منظومة الحكم فإن الخطاب الأخير للطبوبي، ضرب في العمق كل الشرعيات التي حاول قيس سعيد أن يؤسس عليها انقلابه ونسف بالكامل أية شرعية للدستور وللانتخابات القادمة ولمجمل خارطة الطريق التي أطلقها قيس سعيد في ديسمبر الماضي، باعتبارها المخرج القانوني من المأزق الذي وقعت فيه البلاد بسبب الانقلاب، وباعتبارها محاولة لشرعنة المنظومة الجديدة عبر التأسيس لمشهد سياسي جديد يتشكل أساسا من أنصار قيس سعيد وتنسيقياته وبعض الأحزاب التي تسانده والتي لا تمثل أية ثقل سياسي في البلاد.

وهو ما يتناغم مع رفض الاتحاد في الفترة الماضية المشاركة في الحوار الوطني (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) بجانب رفض تزكية الاستشارة الوطنية ومن بعدها الاستفتاء وما أفرزه من دستور.

 وإلى جانب القطيعة مع منظومة الحكم ونسف كل مشروعيتها، فإن الخطاب الأخير للاتحاد يعني أيضا إعادة تموضع المنظمة النقابية ضمن القوى الرافضة للانقلاب وهو ما يزيد في عزلة النظام بعد أن تخلّى عنه أغلب من ناصروه في البداية من شخصيات وأحزاب ومنظمات وطنية.

نحن إذن أمام إعادة تحديد لطبيعة الصراع بين الاتحاد والسلطة، ليخرج بذلك هذا الصراع من طابعه المطلبي النقابي الاجتماعي الصرف، إلى قلب المعركة الوطنية من أجل استعادة مسار الانتقال الديمقراطي والحفاظ على ما تحقق في العشرية الماضية من مكاسب على رأسها مكسب الحرية.

إعادة التموضع هذه ستعيد رسم خارطة التوازنات السياسية في البلاد، لأن الاتحاد بحجمه وتاريخه ورمزيته يمثل الثقل الأبرز في البلاد. وهو باصطفافه ضد الانقلاب، حتى وإن لم يعلن انضمامه إلى أي جبهة أو تحالف سياسي في البلاد، سيقوي شوكة المناهضين لقيس سعيد وسيوسع مساحات الرفض له، ويجعل من المستحيل تقريبا على الانقلاب المضي في نفس النهج الذي سار عليه منذ 25 يوليو إلى الآن. وهذا يؤشر على تحولات دراماتيكية في مسار الصراع الذي تشهده البلاد بين أنصار الانقلاب وأنصار الشرعية في الأيام والأسابيع القادمة. 

الخطاب يضع جهود أشهر من عمل الحكومة مع صندوق النقد الدولي في مهب الريح
أخيرا.. فإن الخطاب يضع جهود أشهر من عمل الحكومة مع صندوق النقد الدولي في مهب الريح، ويهدد بإفشال مساعي الرئيس للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار، كانت الحكومة التونسية وقعت بشأنها اتفاقا مبدئيا على مستوى الخبراء مع الصندوق. ما يعني استدامة الأزمة الاجتماعية الخانقة التي تعيشها البلاد وما يتضمنه ذلك من مخاطر انفجار اجتماعي يتوقع المتابعون أن يكون غير مسبوق. خاصة أن الطبوبي أعلن في خطابه الأخير أن الاتحاد في حل من كل الالتزامات الموقعة مع الحكومة في إشارة إلى الاتفاق الذي توصل له الطرفان في سبتمبر الماضي ويقضي بالزيادة في الأجور في الوظيفة العمومية والقطاع العام، وهو الاتفاق الذي كانت تعول عليه الحكومة لتهدئة الوضع الاجتماعي في البلاد.

 أسباب هذا التحول 

بالنسبة لأسباب هذا التحول المفاجئ في موقف الاتحاد، هناك أسباب مباشرة تتعلق بإصرار الحكومة على تمرير اشتراطات صندوق النقد الدولي، ممثلة في الإصلاحات الكبرى أو الهيكلية والتي توصف هنا في تونس بالموجعة، وذلك عن طريق:

 1 - رفع الدعم، وهو ما نتج عنه ارتفاع جنوني في الأسعار وخاصة أسعار المحروقات وأسعار عدد من المواد الأساسية، وهذا بدوره أدى إلى تدهور كبير في الأوضاع الاجتماعية وتراجع المقدرة الشرائية للشغالين.

 2 - التفويت جزئيا أو كليا في عدد من المؤسسات والمنشآت العمومية على غرار بعض البنوك والشركات، كشركة التبغ والوقيد وشركة تونس الجوية التي كانت تعتبر مفاخر لتونس وعناوين نجاح الدولة الوطنية الحديث في ما بعد الاستقلال. وهذه تمثل معاقل كبرى للاتحاد ويعمل بها العدد الأكبر من منخرطيه.

والاتحاد يدرك أنه سيكون الضحية الأولى لتمرير هذه الإصلاحات، خاصة أنه يعلم أن المطلوب الأساسي من الانقلاب، غلق قوس الثورة وضرب العمود الفقري لعملية الانتقال الديمقراطي (حركة النهضة) باعتبارها أكبر حزب في البلاد، وتمرير الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد وهذا لن يتسنى القيام به دون إزاحة أو على الأقل تدجين الاتحاد.

3 - العنجهية والصلف اللذان تعاملت بهما سلطة الانقلاب مع الاتحاد، سواء من خلال محاولة تحجيم دوره ومنعه من لعب الأدوار الوطنية كما كان  يفعل دائما، أو من خلال رفض  الرئيس لدعوات الحوار التي أطلقتها المنظمة، في مقابل فرض حوار شكلي رفضت كل  القوى السياسية المشاركة فيه، أو عبر إجبار القيادات النقابية  على قبول زيادات في الأجور لا تلبي الحد الأدنى من طلبات الشغالين، إضافة إلى محاولة  استهداف الاتحاد، سواء من خلال  القضاء أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي التي لا تخفي تماهيها مع منظومة الرئيس.

 نحن إذن أمام خطاب مفصلي يأتي في لحظة تاريخية حاسمة، قبل نحو أسبوعين من الانتخابات التشريعية، وهو يؤشر على تحولات عميقة في المشهد السياسي وفي التوازنات التي تعرفها البلاد.. خطاب يتموقع بموجبه الاتحاد في قلب المعركة الوطنية مثلما كان دائما خلال تاريخه منذ فرحات حشاد إلى الحبيب العاشور..

ويعلن بذلك القطيعة مع منظومة الانقلاب، في انتظار الإعلان عن مبادرته ورؤيته لحل الأزمة في تونس والتي لن تخرج عن أحد أمرين: إما الدعوة لحوار وطني لا يستثني أحدا، حتى وإن رفض رئيس الجمهورية المشاركة فيه، أو طرح بديل للوضع الحالي يتمثل في حكومة إنقاذ تقودها شخصية وطنية مستقلة وتحظى بقبول كل الطيف السياسي أو غالبيته على الأقل، وتكون مدعومة من الاتحاد وبقية المنظمات الوطنية والأحزاب السياسية.