قضايا وآراء

الإنسان في القرآن.. الإنسان بين التملُّك والكينونة (8)

الإنسان في القرآن

كتب عالم النفس الألمانيُّ إيريك فروم كتاب "الإنسان بين المظهر والجوهر"، بيَّنَ فيه أن العالم في المجتمع الصناعيِّ يهيمن عليه أسلوب التملُّك الذي يظن فيه الفرد أنَّ قيمته تنبع مما يمتلكه ويحوزه، بينما يدعو إيريك فروم إلى أسلوب بديلٍ أكثر إنسانيَّةً، وهو نمط الكينونة الذي يشعر فيه الإنسان بذاته ليس بمقدار الأشياء التي يتملَّكها، بل بمقدار إحساسه بالقيم الروحيَّة وجوهره الداخليِّ. ويرى فروم أن أسلوب التملُّك الطاغي أشقى الإنسانيَّة، وهو يدفع العالم إلى حافة الهاوية من الناحية البيئية والنفسية.


الإنسان هو أكثر كائنٍ قابلٍ لتصديق الأوهام والتعامل مع الكذب كما لو أنَّه حقٌّ، لذلك وصف إبراهيم ما يفعله قومه من عبادة الأصنام أنَّهم يخلقون إفكاً: "وتخلقون إفكاً" .

فالإنسان إذا وافق الكذب "الإفك" هواه اتَّبعه وعزَّزه كما لو أنَّه يخلقه ويمنحه وجوداً، بينما هو كذبٌ لا أصل ولا حقيقة له.

ولذلك يحذِّر القرآن دائماً من اتباع الهوى والظنِّ فهي لا حقيقة لها: "إن يتبعون إلا الظنَّ وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى".

ومن الأوهام المتفشيَّة في الاجتماع الإنسانيِّ أنَّ الناس يمنحون القيمةَ لبعضهم البعض بقدرِ الأشياءِ التي يمتلكونها ويتفاخرون بينهم في ذلك، بينما هذه الممتلكات لا تمنح في جوهرها فضلاً لأحدٍ لأنها ملابسات خارجيَّةٌ طارئةٌ لا تتعلَّق بجوهر الإنسان: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ".

من الأوهام المتفشيَّة في الاجتماع الإنسانيِّ أنَّ الناس يمنحون القيمةَ لبعضهم البعض بقدرِ الأشياءِ التي يمتلكونها ويتفاخرون بينهم في ذلك، بينما هذه الممتلكات لا تمنح في جوهرها فضلاً لأحدٍ لأنها ملابسات خارجيَّةٌ طارئةٌ لا تتعلَّق بجوهر الإنسان

والقرآن الذي تمَّت كلمة الله فيه صدقاً لا يعبأ بكلِّ المظاهر الخارجيَّة، لذلك ينفذ عميقاً ويسلِّط الضوء على جوهر النفس البشريَّة، فهذا الجوهر هو الذي يدلُّ على حقيقة صاحبه: "وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ".

إنَّ كلَّ ما لحقِ بجوهر الإنسانِ من مظاهر خارجيَّةٍ من مالٍ وجاهٍ وقرابةٍ وسلطةٍ ستنفكُّ عنه يوماً ما، ولا تبقى سوى فرديَّته، ويمكن اتخاذ هذا معياراً للتفريق بين المظهر والجوهر، فالمظهر كلُّ ما هو قابلٌ لمفارقةِ الإنسانِ يوماً ما، بينما الجوهر هو الذي لا ينفكُّ عن صاحبه أبداً في الدنيا أو الآخرة.

الإنسان ليس مجموع الأشياء التي يمتلكها وليس مجموع العلاقاتِ والروابط التي ينشئها ولا مجموع المواقع التي يتبوؤها، لذلك يتبيَّن من منهج القرآنِ الراسخ والمتكرِّر أنه يفكُّ دائماً ارتباط الإنسان بكلِّ المظاهر والحيثيات الطارئة ويعيده إلى جوهره.

فالإنسان ليس هو المال الذي يمتلكه، لذلك يستعمل القرآن مصطلح "ما رزقناكم" ليذكِّر الإنسان بأنَّ هذا المال ليس مكوِّناً أصيلاً أو مستحقّا أبديّا له، بل هو أمانة مستعارةٌ مؤقتاً لاختبار الإنسان: "ومما رزقناهم ينفقون".

ودعوة القرآن في مئات الآيات إلى الإنفاق تمثل تحريراً للإنسان من هيمنة التملُّك، فالإنفاق يعزِّز في نفس الإنسان أنَّ كينونته لا تُستمدُّ من هذه الأشياء التي ينفقها ويتخلى عنها، بل تستمدُّ من قدرته على العطاء.

ولذلك كانت نتيجة الإنفاق السعادة لأنَّ النفس حين تتعوَّد على البذل والعطاء فإنَّها تتحرر من عبودية الامتلاك: "الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ".
الإنسان ليس مجموع الأشياء التي يمتلكها وليس مجموع العلاقاتِ والروابط التي ينشئها ولا مجموع المواقع التي يتبوؤها، لذلك يتبيَّن من منهج القرآنِ الراسخ والمتكرِّر أنه يفكُّ دائماً ارتباط الإنسان بكلِّ المظاهر والحيثيات الطارئة ويعيده إلى جوهره


وجوهر الإنسان ليس هو تقدير الناس ورضى المجتمع، لذلك يحرِّر القرآن المؤمن من ابتغاء الرضى والشرعيَّة والقبول من الناس على حساب الحقِّ الأصيل:

- "إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئا".

- "وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ".

والإنسان المهتزُّ الذي أضاع جوهره هو في القرآن المنافق الذي لم يشعر بغناه الروحيّ الداخليِّ، فيسعى إلى تملُّق رضى الناس لعلهم يمنحونه شعور القيمة الذي أضاعه: "يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ".

نمطا التملُّك والكينونة لا يظهران في الأشياء المادية فقط، بل حتى في الحياة المعنويَّة، فالعلم مثلاً هناك من يتعامل معه بنفسيَّة التملُّك فيستغل علمه للتفاخر وحيازة الثناء وتضخُّم الأنا: "فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ"، بينما رسالة العلم الجوهريَّةُ هي تمثُّل روحه وتحقُّق حالةِ الخشوع والإخبات منه وموت حظوظ النفس فيه: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ".


بل إنَّ جوهر الإنسان ليس هو مجموعة الأحداث والظروف التي تواجهه في حياته، فالحزن والفرح، والضراء والسراء هي أحوالٌ مؤقتةٌ تطرأ على حياةِ الإنسانِ، والقرآنُ يدينُ خفَّة الإنسان في مواجهة هذه التقلبات وفرحه الشديدِ بالخير ويأسه وقنوطه العجول من الشرِّ، فهذه الخفَّة تعني أن الإنسان فقد الإحساس بجوهره وتعامل مع هذه الابتلاءات الطارئة كما لو أنَّها الحالة الأبديَّة:

جوهر الإنسان ليس هو مجموعة الأحداث والظروف التي تواجهه في حياته، فالحزن والفرح، والضراء والسراء هي أحوالٌ مؤقتةٌ تطرأ على حياةِ الإنسانِ، والقرآنُ يدينُ خفَّة الإنسان في مواجهة هذه التقلبات وفرحه الشديدِ بالخير ويأسه وقنوطه العجول من الشرِّ

- "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤوسا".

- "فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن".

الإنسان الذي ينتكس سريعاً إن واجهه الضرُّ، ويفرح ويطغى سريعاً إن أصابته نعمةٌ، فإنَّه بذلك عبدُ الأحوال الطارئة مثل الريشة الخفيفة التي تميل مع الريح حيثما مالت، بينما يزكِّي القرآنُ الثبات النفسيَّ ويهذِّب المؤمنين ليتصفوا به، فالمؤمن يتعالى على التقلبات ولا تستعبده هذه التقلبات لأنَّه لا يستمد رضاه منها بل يستمدُّ رضاه من إيمانه الداخليِّ العميق: "لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ".

الكينونة الكاملة تقتضي موتَ "الشعور بالأنا" في نفس الإنسان، لأنَّ الكينونة هي تجلِّي الروح، والروح هي حالة الفناء في المطلقِ والكليِّ، لذلك نرى في القرآن أنَّ أكثر الناس شعوراً بالأنا هم الذين ابتعدوا عن طريق الله، مثل إبليس: "قال أنا خيرٌ منه"، وفرعون: "أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي"، وقارون: "إنما أوتيته على علمٍ عندي"، وصاحب الجنَّتين: "أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفراً"، والمكذِّبون بالرسل: "أيُّ الفريقين خيرٌ مقاماً وأحسنُ نديَّاً"، بينما أكثر الناس إنكاراً للأنا وخلوّا من التعلُّق بأيِّ شيءٍ هم الرسل والصالحون.

فيوسف بعد أن آتاه الله الملك لم يشعر لنفسه بأيِّ فضلٍ :"رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِما وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ".
هذه هي الحالة الروحيَّة والنفسيَّة الصحيحة، أن يعلم الإنسانُ أنَّه لا يملك في حقيقة الأمرِ شيئاً، وأنَّ ما يمنحه القيمة ليست النِّعم والأحوال الطارئة التي يبتليه الله بها، فلا يغترَّ ولا ينسى نفسه ولا يرى لها فضلاً، لأنَّ هذه الأحوال كلها طارئة ستنفكُّ عنه يوماً ما، ويعلم أنَّ كينونته الحقيقية تنبع من اتصاله بالروح العليا في هذا الوجود

وذو القرنين الذي آتاه الله من كلِّ شيءٍ سبباً: "قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقا".

وسليمان الذي آتاه الله ملكاً لم يؤته أحداً من العالمين: "قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ".

والرسول محمد صلى الله عليه وسلَّم الذي أظهره الله على قومه ودانت له جزيرة العرب دخل مكة فاتحاً متواضعاً وهو يستغفر ربَّه: "ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبِّح بحمدِ ربِّك واستغفره إنَّه كان توَّاباً".

هذه هي الحالة الروحيَّة والنفسيَّة الصحيحة، أن يعلم الإنسانُ أنَّه لا يملك في حقيقة الأمرِ شيئاً، وأنَّ ما يمنحه القيمة ليست النِّعم والأحوال الطارئة التي يبتليه الله بها، فلا يغترَّ ولا ينسى نفسه ولا يرى لها فضلاً، لأنَّ هذه الأحوال كلها طارئة ستنفكُّ عنه يوماً ما، ويعلم أنَّ كينونته الحقيقية تنبع من اتصاله بالروح العليا في هذا الوجود وفنائه في حضرةِ الله مصدرِ الخلقِ والأمر.

twitter.com/aburtema