الإنسان العاري.. الدكتاتورية الخفية للرقمية.. قراءة في كتاب

جاءت الثورة الرقمية بالخير العميم؛ فقد كسب الإنسان بفضلها أشياء كثيرة: في المعلومة ومعالجتها وتداولها وفي الصحة والأمن والسرعة، ولكن خسر كل شيء أيضاً، الحميمية والحياة الخاصة والحرية والحس النقدي. فالآثار الكارثية التي خلفتها الثورة الرقمية على الإنسان، خطر يهدد البشرية في مناطقها الأكثر أصالة: الذاكرة واللغة. فلم يعد الافتراضي لعبة عارضة في حياة الناس، بل تحول إلى وجود حقيقي له "هوياته" و"أنواته"، وضمائره ومساحاته وفضاؤه وزمانه.
 
في هذا السياق صدرت الترجمة العربية لكتاب "الإنسان العاري: الدكتاتورية الخفية للرقمية"، للكاتبين مارك دوغان وكريستوف لابي، ترجمة: سعيد بنكراد، (ط1، الدار البيضاء، المركز الثقافي للكتاب، 2020).
 
يتناول الكتاب كل ما يتعلق بـ"الآثار الكارثية التي خلفتها الثورة الرقيمية على الشرط الإنساني، ما يعود إلى علاقة الفرد بالزمان والمكان، وعلاقته مع نفسه ومع الآخرين، بل امتد تأثيرها ليشمل مجمل الأنوات التي بها يحيا الفرد، وهي ما يشكل "هوياته" الموزعة على فضاءات يلعب فيها الواقعي دورا بسيطا، هو في العادة مجرد ممر نحو عالم افتراضي لا حد لامتداداته. فعوض أن يبحث الناس في الحياة الحقيقية عن أصدقاء حقيقيين، راحوا يلهثون في الشبكات الاجتماعية وراء "صداقات" وهمية خالية من أي دفء إنساني".
 
هذه الثورة الرقمية تقودنا إلى "حالة من الامتثالية والعبودية الإرادية، يتعرى فيها الفرد لصالح حفنة من الشركات المتعددة الجنسيات، وهي أمريكية في أغلبها".
  
يحدّثنا المؤلفان عن عالم البيغ داتا (ويقصد بها كل المعطيات التي يتركها المبحرون في الأنترنت عبر فيسبوك وغوغل وأبل وأمازون وتويتر، والتي تجمع لاحقاً ويتم تمريرها لمؤسسات استخباراتية أو شركات تجارية). لقد نجح غوغل وآبل وفيسبوك وأمازون في الاستحواذ على مجموع العالم الرقمي. فـ"شركات القارة السابعة" هاته، كما يسميها البعض، هي التجسيد الجديد للقوة الأمريكية الفائقة.
 
يتطرق المؤلفان إلى صناعة المراقبة الإلكترونية الشاملة، كوسيلة فعالة للوقاية من الإرهاب، فبعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، وضعت الولايات المتحدة الأمريكية، الكوكب الأرضي تحت آليات التنصت. فزادت الشركات الرقمية من تغولها أكثر، بعدما دخلت في تعاون مع وكالة الاستخبارات الأمريكية في مراقبة الناس، لأجل منع حدوث عمليات إرهابية أخرى في المستقبل.

يروي المؤلفان قصة توضح قدرة هذه الشركات في اختراق حياتنا الشخصية، ومعرفة كل شيء عنا. في البداية سافر يانيك بولوري، وهو رئيس مجموعة هافاس (مجموعة متخصصة في التواصل وميدان الإشهار)، إلى سان فرانسيسكو للقاء مسؤولي غوغل. يقول بولوري: "عندما حطت بنا الطائرة شغلت هاتفي وتلقيت رسالة نصية تخبرني أن هناك بجانب فندقي مطعماً يابانياً يقدم السوشي سومون، بتخفيض 15 بالمائة عن السعر العادي. فأقلقني هذا النص، فقد كانت تلك هي وجبتي المفضلة.
 
وعندما وصل بولوري إلى مقر "غوغل" وسأل بصوت عالٍ: من يكون هذا الذي بعث لي هذا الإشهار، فرد أصحاب غوغل: نحن من فعل ذلك، لقد حددنا موقعك منذ نزولك في المطار، لقد اطلعنا على مذكراتك وبريدك وعرفنا في أي فندق ستنزل، وأنك تحبّ السوشي سومون. ويضيف بولوري بأنه تساءل: "وما موقع الحياة الخاصة عندكم: فأجابوني: اَه الحياة الخاصة؟".

يخبرنا المؤلفان أن الوكالة الوطنية [وكالة الأمن القومي الأمريكية] للأمن الناسا تعرف عن المواطنين أكثر مما يعرفه عنهم جهاز "ستازي" في زمن ألمانيا الشرقية. فهذه الوكالة الأمريكية تطلع على كل حركة وكل تبادل إلكتروني وعلى كل لحظة في حياتهم اليومية. فنحن نعرف أن هناك جاسوساً في جيوبنا، هو الهاتف المحمول، ما يعادل عميلاً من "ستازي" يسجل بدقة تنقلاتنا ويرصد هوية كل الذين نحن في اتصال معهم، ويتعرف على أصدقائنا ويمد عنقه عندما نسجل أشياء في أجندتنا أو نكتب رسالة قصيرة أو نتلقى إيميلاً أو نتصفح ألبوم صورنا في الفيديو. إنه ضابط حياتنا، ذاك الذي لا نخفي عنه شيئاً. ويسمى مشغل هذا الجاسوس اَبل أو غوغل اللذين يتحكمان لوحدهما في 90 بالمائة من أنظمة استغلال كل السمارتفونات (الهواتف الذكية) فوق الأرض.

يتحسر المؤلفان على عالم جورج أورويل، الذي صاغه في روايته (1984)، فنموذج الهيمنة الدكتاتورية التي وصفها أورويل تم تجاوزها على المستوى التكنولوجي.

يقول المؤلّفان: "إن التغلب على النوم هو من انشغالات البيغ داتا التي تتعاون مع البينتاغون في الكثير من مجالات البحث. يعدّ نومنا بالنسبة للشركات الرقمية الكبرى وقتاً ميتاً، فهو خارج الاتصال ولا يُدرّ أي ربح".  لذا تسعى بعض الشركات لرعاية المستهلك وتمديد سنوات حياته، وبالتالي إطالة عمره الاستهلاكي، و"قد صرّح في يوليو 2014، لاري بيغ، أحد مؤسّسي "غوغل" بأن: "غوغل تريد القضاء على الموت" لقد خلق شركة باسم "لايف كومباني"، وخطتها هي تمديد الأمل في الحياة بـ 20 سنة إلى حدود 2035، من خلال محاربة الأمراض حتى قبل أن يكون هناك أي أعراض".

يمكن القول إنهم، يسلبون منا ذاكرتنا، ويضعونها في الآلات.
 
باختصار، إن لم نقاوم البيغ داتا، بكونها جزءا من ليبيرالية متوحشة، سنخسر ذواتنا، ونتحول إلى إنسان عار يرزخ في الأصفاد دون ألم ظاهر. 

* كاتب وباحث فلسطيني