كتاب عربي 21

رُهاب الروس والثقافة السياسية لليبرالية الغربية

1300x600
بلغت الهستيريا الغربية المعادية للروس في هذه الأيام أشد مراحلها، فقد أدت الثقافة السياسية الألمانية مؤخراً، وهي وريثة الثقافة النازية الأكثر شمولية التي عرفها العالم على الإطلاق، إلى طرد موسيقيين روس من الأوركسترات الألمانية بسبب رفضهم إدانة التدخل العسكري الروسي الأخير في أوكرانيا. وكما كتبت لي مؤخراً صديقة يهودية ألمانية ناشطة سياسياً، فإن طرد الموسيقيين الروس ليس منبت الصلة عن طرد الموسيقيين اليهود الألمان من الأوركسترات الألمانية في عام 1933، أي قبل سن قوانين نورمبرغ العنصرية في عام 1935.

وقد كانت شركة دويتشة فيلة الألمانية للإعلام المملوكة للدولة منشغلة قبل بضعة أسابيع في عملية تطهيرية طردت بموجبها موظفيها العرب بسبب آرائهم الانتقادية لإسرائيل، وهي وجهات نظر تصنفها ألمانيا المناصرة لإسرائيل على أنها "معادية للسامية".

أما في إيطاليا، التي تعتبر ثقافتها السياسية أيضاً وريثة للفاشية، فقد تم حظر مساق جامعي عن كتابات الأديب الروسي دوستويفسكي كتعبير عن رهاب الروس الجديد، لكن نتيجة بعض الضغوطات تم إلغاء الحظر فيما بعد.

أما في الولايات المتحدة، فقد أزالت شركة ألعاب الفيديو العملاقة "إي إيه سبورتس" الفرق الروسية من ألعاب الفيديو الخاصة بالفيفا وكرة القدم التي تنتجها. وتشمل الحملة المعادية للروس الطيف السياسي الغربي بأكمله، ويؤيدها الليبراليون الغربيون والنخب الثقافية بالكامل.

لطالما صدمتني السذاجة السياسية لغالبية سكان الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. فمنذ وصولي إلى الولايات المتحدة للالتحاق بالجامعة في عام 1982، لم أستطع تصديق مدى سذاجة أقراني الأمريكيين من جميع الأعراق في إيمانهم الراسخ بأن كل ما تقوله لهم حكومتهم أو الصحافة التجارية، لا سيما فيما يخص البلدان الأخرى، هو الحقيقة المطلقة. وحيث أني نشأت في الأردن في ظل نظام استبدادي، فقد تعلمت، مثل العديد من الأردنيين، ألا أصدق إلا النزر القليل مما تقوله الحكومة أو الصحافة.
ما زلت منحازاً لفكرة أن الأنظمة الأوتوقراطية تعزز التشكيك الديمقراطي لدى شعوبها، بينما تعزز الأنظمة الليبرالية الغربية "الديمقراطية" الامتثال المطلق وخضوع شعوبها لما أسماه جورج أورويل بـ"وزارة الحقيقة" التي تشكلها شركات الإعلام والحكومة

وأنا ما زلت منحازاً لفكرة أن الأنظمة الأوتوقراطية تعزز التشكيك الديمقراطي لدى شعوبها، بينما تعزز الأنظمة الليبرالية الغربية "الديمقراطية" الامتثال المطلق وخضوع شعوبها لما أسماه جورج أورويل بـ"وزارة الحقيقة" التي تشكلها شركات الإعلام والحكومة. أضف إلى ذلك عقلية الغوغاء والرفض السائد للرأي المخالف للأفكار المهيمنة في معظم البلدان الغربية، فيتضح أن الوضع لا يختلف كثيراً عما كانت عليه الثقافة الفاشية في العديد من البلدان الأوروبية في فترة ما بين الحربين العالميتين.

لا شيء من هذا يثير الدهشة بالطبع، فخلال الحرب العالمية الأولى، كان الأمريكيون يطلقون النار على الكلاب من فصيلة داكسهوند، ويرجمونها بالحجارة، وداسوا على أعداد كبيرة منها في الشوارع فقط لأنها من فصيلة ألمانية. وقد تم إطلاق حملة أمريكية كاملة في تلك الأثناء ضد البيرة تحت شعار أنه من "غير الوطني" شربها بوصفها مشروباً ألمانياً، وتم إغلاق مصانع البيرة الألمانية- الأمريكية. كما قام الأمريكيون بتغيير اسم طبق الملفوف/ الكرنب الألماني من "ساوركراوت" إلى "كرنب الحرية"، فضلاً عن احتجاز المواطنين الأمريكيين من أصول ألمانية والمواطنين الألمان المقيمين في الولايات المتحدة في معسكرات اعتقال خلال الحرب العالمية الأولى، ومرة أخرى خلال الحرب العالمية الثانية.

أما في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، فكانت الشوفينية الأمريكية قد بلغت أعلى مستوياتها على الإطلاق مع استمرار الهجمات العنصرية على اليابان، بزعم أن الأخيرة تقوض الاقتصاد الأمريكي. وقد انتشرت حملات مقاطعة السيارات والإلكترونيات اليابانية على نطاق واسع لدرجة أن البعض اتهم اليابانيين بارتكاب "هجوم بيرل هاربور اقتصادي" (نسبة إلى الغارة اليابانية على بيرل هاربور في الحرب العالمية الثانية)، وبأن "الخطر الأصفر" قد عاد ليتهدد الولايات المتحدة (وهنا يجدر التذكير كيف أنه تم احتجاز الأمريكيين من أصل ياباني واليابانيين المقيمين في الولايات المتحدة في معسكرات اعتقال أثناء الحرب العالمية الثانية وصودرت أملاكهم). وقد قام موظفان أبيضان من شركة كرايسلر بضرب أمريكي من أصل صيني حتى الموت، ظنا منهما بأنه من أصل ياباني. وقد تم تغريم المجرمين مبلغ 3000 دولار ولم يقضيا أي عقوبة في السجن. وقد استخدم أعضاء من الكونجرس الأمريكي المطارق الثقيلة لتدمير منتجات شركة توشيبا أمام مبنى الكابيتول، وقد كان ذلك في عصر رونالد ريغان، أي قبل فترة طويلة من عهد دونالد ترامب وجو بايدن.

وفي أعقاب الثورة الإيرانية، كانت الهجمات العنصرية والمضايقات ضد الإيرانيين أو أي شخص يعتقد أنه إيراني (وهو ما تعرضت له من قبل طلاب بيض بعد أسابيع من وصولي إلى الولايات المتحدة) هي النظام السائد في الولايات المتحدة. وقد تم تعليق ملصق مناهض لإيران في أحد مطاعم الشواء في هيوستن، في ولاية تكساس، منذ عام 1979 يظهر صورة الإعدامات العنصرية الأمريكية ضد السود مع استبدال السود بالإيرانيين، وهو الأمر الذي جذب الكثير من الزبائن للمطعم حتى في عام 2011. وقد تم رفع درجة رهاب الإسلام إلى مستويات غير مسبوقة بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا. وقد كانت باكورة الهجمات العنصرية في الولايات المتحدة التي تلت هذه الهجمات قد قتلت -بالإضافة إلى المسلمين غير البيض- مصريا مسيحيا وعدة رجال هنود من السيخ الذين اعتقد خطأ أنهم مسلمون.

وعندما رفضت فرنسا دعم الغزو الإمبريالي الأمريكي للعراق عام 2003، بدأت المطاعم الأمريكية في إلقاء النبيذ الفرنسي في سلال المهملات وسكب محتويات زجاجات النبيذ في الشوارع. وقد كان الكونغرس أيضاً رائداً في هذا الصدد عندما أعادت كافتيريا الكونغرس تسمية "البطاطس المقلية"، التي تسمى بالإنجليزية "مقالي فرنسية"، إلى "مقالي الحرية".

أما في الأجواء الحالية، فقد تجلت هذه المراهقة الاستعراضية للثقافة السياسية الأمريكية في مقاطعة الفودكا الروسية، وحتى مقاطعة المطاعم الروسية في الولايات المتحدة المملوكة أصلاً لأمريكيين. كما أغلقت شركة سبوتيفاي مكاتبها في موسكو وشركة آيكيا متاجرها في روسيا ككل. كما أسقط كذلك مهرجان غلاسكو السينمائي فيلمين روسيين من برنامجه، وقد أعلنت أوبرا ميتروبوليتان في نيويورك أنها ستنهي شراكتها مع مسرح البولشوي في موسكو وقطعت العلاقات مع مغنية الأوبرا الروسية آنا نتريبكو، في حين أزال معرض بينالي البندقية الجناح الروسي من المعرض، وسط موجة من المقاطعات لكل المنتجات الثقافية الروسية.
نظراً لأن الحملات المستمرة ضد روسيا قد وحدت مؤخراً المحافظين والليبراليين الغربيين في الولايات المتحدة وأوروبا، يمكننا القول بكل ثقة إنه إذا خدشت العديد من الليبراليين البيض، فستجدهم عنصريين بيضا وإمبرياليين من مناصري الحرب الباردة

في حين أن مقاطعة روسيا على المستوى الرسمي هي بالفعل عمل سياسي مهم لو لم يكن الغرب منافقاً بشأن الدول التي تجدر مقاطعتها بسرعة وأيها لا يمكن مقاطعتها أبداً، فإن مقاطعة دوستويفسكي والفودكا والموسيقيين الروس ليست كذلك. وليس من دليل أوضح على هذا النفاق السياسي من الجدل المستعر الدائر حول مقاطعة إسرائيل، بل حول مقاطعة مستعمراتها الاستيطانية غير القانونية في الأراضي المحتلة فحسب، خلال العقدين الماضيين في الغرب.

كان فلاديمير لينين قد انتقد بعض الشيوعيين الروس في أوائل عشرينيات القرن الماضي بسبب عدم اهتمامهم بالعديد من الشعوب غير الروسية التي تقطن روسيا، بقوله: "إذا خدشت بعض الشيوعيين [الروس] فستجد أنهم شوفينيون من أنصار روسيا العظمى". نظراً لأن الحملات المستمرة ضد روسيا قد وحدت مؤخراً المحافظين والليبراليين الغربيين في الولايات المتحدة وأوروبا، يمكننا القول بكل ثقة إنه إذا خدشت العديد من الليبراليين البيض، فستجدهم عنصريين بيضا وإمبرياليين من مناصري الحرب الباردة.

ما تكشفه هذه الأفعال المقيتة والبغيضة المعادية للروس هو أن الطبيعة المراهقة للثقافة السياسية للولايات المتحدة وأوروبا الغربية في ظل الفاشية أو الليبرالية لا تختلف كثيراً عن بعضها البعض، عندما يتعلق الأمر بتكديس الازدراء العنصري والتخيلات الملفقة عن أعدائها المختارين. وينتشر ذلك أيضاً في الأوساط الأكاديمية الغربية، لا سيما في "علم الدراسات السوفييتية"، وهو تخصص أكاديمي يميني ظهر في الخمسينيات من القرن الماضي، وروج لنظريات مثيرة للسخرية حول الثقافة السوفييتية "المناهضة للديمقراطية" التي عزاها للأمهات الروسيات اللواتي يقمن بقمط ولف أطفالهن بإحكام أكثر من دول أخرى (ما يسمى بلهجات بلاد الشام بالـ"كوفَلِيَّة")، وهو ما زعم الأكاديميون الأمريكيون أنه تسبب بشغف الروس بالقمع السياسي، كما أخبرنا الأكاديميون الغربيون ووسائل الإعلام الغربية على مدى عقود متتالية -وما زالوا- بأن العرب والمسلمين يحبون الطغاة والعنف، لأن ذلك جزء من دينهم وثقافتهم.
تكمن المفارقة هنا في أن الثقافة السياسية والشعبية السائدة في الغرب هي أكثر الثقافات إطاعة لخطاب حكوماتها، وفي أنها تفتقر إلى المعارضة السياسية إلا فيما ندر، ما عدا ما يتعلق منها بالمسائل التي تختلف عليها النخب الغربية الحاكمة نفسها


في عام 2000 قمت أنا وإدوارد سعيد بتنظيم مؤتمر أدبي كبير دعينا إليه أربعين شخصية أدبية مشهورة عالمياً، بما فيها عشرون روائياً وشاعراً من العالم العربي (كان من بينهم محمود درويش وعبد الرحمن منيف وأدونيس والطيب صالح وجمال الغيطاني ورضوى عاشور وأهداف سويف وسعدي يوسف). وقد تم تمويل المؤتمر من قبل مؤسسة ثقافية أمريكية خاصة، وكان من المقرر عقده في جامعة كولومبيا. لكن قبل أسابيع من انعقاد المؤتمر، وقعت هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، فاجتاحت الولايات المتحدة الهستيريا المعادية للعرب والمسلمين في أعقاب الهجمات، ما أثار قلق المؤسسة الممولة والجامعة بشكل كبير فيما يتعلق بالقضايا الأمنية، والخوف من تعرض المؤتمر للتفجير من قبل المتعصبين الأمريكيين المناهضين للعرب. ونتيجة ضرورة زيادة الترتيبات الأمنية من قبل الجامعة، تصاعد قلق المؤسسة الممولة بشأن التهديدات الأمنية، ما أدى إلى إلغاء المؤتمر الذي استغرق إعداده عامين.

تكمن المفارقة هنا في أن الثقافة السياسية والشعبية السائدة في الغرب هي أكثر الثقافات إطاعة لخطاب حكوماتها، وفي أنها تفتقر إلى المعارضة السياسية إلا فيما ندر، ما عدا ما يتعلق منها بالمسائل التي تختلف عليها النخب الغربية الحاكمة نفسها، بينما يتم تقديم الغرب الليبرالي من قبل الدعاية الغربية على أنه المكان الذي تتفتح فيه "مائة زهرة"، بشرط أن تتفتح بالاتجاه الذي تقره النخب الغربية الحاكمة. أما إذا قيض لبعضها أن يتفتح في اتجاه يتعارض مع الخطاب السياسي الذي تنتجه الحكومات ووسائل الإعلام التجارية، فسوف يطلق العنان للغوغاء.

قام نعوم تشومسكي قبل بضعة عقود بتحليل كيفية "صناعة الموافقة" الشعبية في الغرب من قبل الحكومات والإعلام، لإنتاج شعب مطيع في كتاب مهم. فإذا كانت الهستيريا الغربية الحالية هي مؤشر على تحليله، فمن الواضح أنه لم يتغير إلا النزر اليسير من هذا الحال منذ نشر كتابه.