ثمة فروق جوهرية بين "السيرك العالمي" الذي ترددت عليه (في طفولتي) مرتين أو ثلاثا، بمدينة طنطا وسط دلتا مصر، و"السيرك العالمي" اليوم!
الأول كان خيمة تحتل بضع مئات من الأمتار المربعة، في إحدى ساحات هذه المدينة الإقليمية، أيام "مُولد" السيد البدوي، أراد أصحابه إثارة الفضول في نفوس الناس، وجلهم من أهالي الريف البسطاء، فسموه "السيرك العالمي". أما الثاني، فخيمته تحتل أطراف العالم جميعا على الحقيقة، وعروضه لا تتوقف على مدار الساعة، هزلية أحيانا، دموية في معظم الأحايين، وأصحابه شركاء متشاكسون، لكل منهم حق "نقض" غزل الآخرين!
الأول كان يقدم المتعة والتسلية لقاء بضعة قروش، وكان كل من وما فيه تحت السيطرة: المغامرون والمهرجون والمشعوذون والحيوانات أيضا، وكنا مجرد "نظارة عابرين". أما الثاني، فهو "محل إقامتنا الدائم"، السيطرة فيه لأصحاب العضلات النووية والاقتصادية، وهؤلاء (جميعا) خارج السيطرة، ولا يغل أيدي بعضهم عن بعض إلا الخوف!.. لا متعة فيه ولا تسلية، إذ ليس فيه سوى التهديدات والمؤامرات والانقلابات والمعتقلات والمحاكمات والإعدامات والاجتياحات والدمار والخراب والهجرة واللجوء، وحيوانات سائبة تلتهم مَن وما تصادفه في طريقها!
الأول كان يضيف إلى ذاكراتنا (نحن النظارة العابرون) ذكريات جميلة، تفقدنا الوعي بواقعنا المؤلم المرير، من آن لآخر، أما الثاني، فليس في "برنامجه" ما يقدمه لنا (نحن النظارة المقيمون) سوى المشاهد المروِّعة التي تخلع القلوب حقيقة، لا حيلة ولا خدعة، كما في الأول!
وبمناسبة "المولد"، فمما يجري على ألسنة العامة (في مصر وربما في غيرها) إذا أرادوا التعبير عن الفوضى، مقولة "مولد وصاحبه غايب"! أما هذا "السيرك العالمي"، فأصحابه هم من يصنعون الفوضى عامدين لا مخطئين، ورغم ذلك، يسمونه "النظام العالمي" دون أن يطرف لهم جفن، أو يعتريهم بعض الخجل!.. فأي "نظام" هذا الذي يقوم على "الفوضى"، ويتغذى على فضلاتها؟!
من تصريحات مهرجي السيرك العالمي
وكالة فرانس برس: الجهة المنظمة للاتصالات الروسية تطلب من وسائل الإعلام عدم استخدام كلمتي غزو أو عدوان".. حسنا! ماذا نسميه إذن؟! تدخل؟! اجتياح؟! التهام؟! ابتلاع؟! اغتصاب؟! أم نسميه "زيارة مسلحة"؟! أم "تأديب عنيف"؟ أم "دغدغة خشنة"؟! أم "هزار سخيف"؟!.. اختاروا..
لم يكن هذا التصريح "السخيف" الوحيد الذي استرعى انتباهي، فما أكثر التصريحات العجيبة التي تعثرت فيها أثناء متابعتي لأحداث الغزو الروسي لأوكرانيا، ومن تلك التصريحات ما يلي:
"وزارة الدفاع الروسية: لا نشن أي ضربات عسكرية على المناطق السكنية الأوكرانية".. الخارجية الروسية: العملية العسكرية في أوكرانيا لا تشكل خطرا على المدنيين وفق خطة الرئيس بوتين"!.. يا لإنسانيتكم!.. لماذا لم نر منكم هذا الحرص (أو ذرة منه) على "المناطق السكنية السورية" التي أصبحت خرائب، ينعق فيها البوم، بينما سكانها (وهم بالملايين) بين شهيد وجريح وأسير ونازح ولاجئ؟!
"لافروف: مهتمون بأن يصبح الشعب الأوكراني مستقلا، وأن تكون لديه حكومة تمثل تنوعه المختلف"!.. ما أروع اهتمامكم بالشعب الأوكراني الذي نزح منه حتى اليوم نصف مليون إنسان، على وقع قصفكم لمنشآت بلادهم الحيوية!.. وما أعظم هذا "الاستقلال" الذي يُفرض بالقوة المسلحة على شعب آخر.. منكم نتعلم!.. أكمل..
الجهة المنظمة للاتصالات الروسية تطلب من وسائل الإعلام عدم استخدام كلمتي غزو أو عدوان".. حسنا! ماذا نسميه إذن؟! تدخل؟! اجتياح؟! التهام؟! ابتلاع؟! اغتصاب؟! أم نسميه "زيارة مسلحة"؟! أم "تأديب عنيف"؟ أم "دغدغة خشنة"؟! أم "هزار سخيف"؟!.. اختاروا..
"لافروف: بعد استكمال هذه العملية العسكرية وتحرير أوكرانيا من العسكرة سنسمح لشعبها بتقرير مصيره".. ستحرر أوكرانيا من العسكرة باجتياح عسكري!.. ثم ستسمح للشعب الأوكراني بتقرير مصيره!.. في أي واقعة تاريخية سمح المحتل (طواعية) لشعب تحت الاحتلال بتقرير مصيره؟!.. أكمل..
"لافروف: النظام الحالي في كييف يخضع للولايات المتحدة والغرب والنازيين الجدد"!.. لكن خضوعه بالقوة المسلحة للقيصر الجديد، وورثة الـ "كي جي بي" ليس خضوعا، وإنما استقلال!.. استقلال على يد الاحتلال!.. ليه لأ؟!
"المتحدثة باسم الخارجية الروسية: السلطة الحالية في كييف لا تمارس سياسة في مصلحة الشعب الأوكراني"!.. وانتِ مال أهلك؟! هل اشتكى لك الشعب الأوكراني؟!
"المتحدثة باسم الخارجية الروسية: نأسف لإعلان كييف قطع العلاقات مع موسكو"!.. م لهاش حق مدام كييف!.. ست عديمة الزوء صحيح!.. امسحيها في دقني المرة دي (يا آنسة زاخاروفا) ومتزعليش.. حقك عليا!
"الرئيس الروسي بوتين: أدعو الجيش الأوكراني لتولي زمام السلطة في كييف".. "بوتين لقادة الجيش الأوكراني: التوصل إلى اتفاق بيننا سيكون أسهل إذا ما توليتم السلطة"!.. على ما يبدو أن بوتين لديه اعتقاد بأن قيادة الجيش الأوكراني هي الأخت التوأم لقيادة الجيش المصري التي لم تتردد في الانقلاب على قائدها الأعلى، الرئيس المنتخب (رحمه الله)، تلبية لرغبة الكيان الصهيوني، بعد تلقيها الضوء الأخضر من البنتاجون، وإيداع شحنة من أجوله "الرز" الخليجي، في مستودعات (حسابات) الجنرال المنقلب وآخرين!.. على كل حال، الأيام وحدها ستثبت لنا صحة حدس بوتين أو خطئه.
"الخارجية الأمريكية: بوتين يهدد النظام العالمي القائم على المبادئ، وأهمها أنه لكل دولة الحرية في وضع سياساتها"!.. يعني المفروض أن شخصا "طيبا" مثلي يصدق أنكم "سايبين" السعودية ومصر والسودان (مثلا) يضعون سياساتهم بكل "حرية"، ودون تدخل مباشر منكم؟!.. تبا لكم!
"البيت الأبيض: العقوبات على الرئيس الروسي ستمنعه من السفر إلى الولايات المتحدة"!.. تصريح جعلني أشعر أن بوتين تقدم بطلب هجرة أو لجوء لأمريكا وينتظر الرد، وهذه العقوبات ستجعله يوقف عدوانه على أوكرانيا فورا؛ لعلمهم بأنه مستعد للتخلي عن كل أحلامه، إلا حلمه في أن يكون مواطنا أمريكيا!.. تبا لكم كمان مرة!
"مجلس الأمن الدولي يفشل في اعتماد قرار بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا بعد استخدام المندوب الروسي حق النقض"!.. وهل كان المفروض أن ينجح مجلس الأمن في إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، بينما روسيا المعتدية تتمتع بحق النقض لأي قرار يسعى المجلس لإصداره؟!.. هذا ليس "مجلس أمن" ولا حتى "سراية مجانين"؟!.. إنه (في الحقيقة) ليس سوى "نمرة" أو فقرة من فقرات "السيرك العالمي"!
"المندوبة الأمريكية لدى الأمم المتحدة: روسيا أساءت استخدام قوتها اليوم عندما استخدمت الفيتو ضد قرارنا القوي"!.. غلطانة مدام روسيا!.. كان لازم تدين نفسها!.. على ما يبدو أن المندوبة الأمريكية اعتقدت (لبرهة) أنها تخاطب عمر بن الخطاب الذي لم يكن يتردد في إدانة نفسه، إذا تجاوز، وليس بوتين، أحد أعتى مجرمي العالم!
"الأمين العام للأمم المتحدة: على القوات الروسية العودة إلى ثكناتها"!.. لذيذ ورايق، أقسم بالله.. روح كمّل نومك.. تصبح في تابوت!
"رئيس غواتيمالا يأمر سفير بلاده إلى روسيا بالعودة ويقول إنه يرفض الهجوم الروسي على أوكرانيا"!.. لست متأكدا إذا كان بوتين يعلم بوجود بلد اسمه غواتيمالا أم لا.. لكن الرجل يستحق الشكر..
"وزيرة الخارجية البريطانية: أدعم الدعوات لتوجه الراغبين بالقتال إلى أوكرانيا بما في ذلك البريطانيون"!.. هل هذه الدعوة موجهة للراغبين في القتال كافة، حتى لو كانوا مسلمين عربا وعجما؟ أم للمسيحيين فقط؟!.. وإذا كانت الدعوة تشمل المسلمين، فهل من ضمانات لحمايتهم من حكوماتهم بعد انتهاء الحرب، فلا يطلقون عليهم اسم "العرب الأوكران" على غرار "العرب الأفغان" ويزجون بهم في السجون؟!
أين مصر مما يجري؟
"مصر تدعو لعقد اجتماع طارئ لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين؛ للتباحث حول التطورات الجارية في أوكرانيا".. رائع وعظيم!.. ومن حقي أن أسأل للتاريخ: كم مرة دعت مصر مجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين؛ للتباحث حول العدوان الصهيوني المتكرر على غزة، خاصرة مصر، وعمقها الاستراتيجي في الشرق؟!
"السفارة المصرية في رومانيا تقول إنها بدأت تقديم خدماتها للمصريين القادمين من أوكرانيا، بتسهيل حجز الفنادق وتذاكر العودة إلى مصر على نفقتهم الشخصية"!.. "محافظ البحر الأحمر: لدينا أكثر من ستة آلاف سائح أوكراني في ضيافتنا"!.. يعني المصريون في أوكرانيا يعودون على نفقتهم الشخصية، أما السائحون الأوكرانيون المقيمون في منتجعات البحر الأحمر، فهم في ضيافة سيادة المحافظ!.. على ما يبدو أن السفارة المصرية في بوخارست بلغها أننا "فقرا أوي"، فلم تشأ أن تنفق دولارا واحدا، على مواطنيها في هذا الظرف العصيب، أما محافظ البحر الأحمر، فلا علم له بذلك، ولم يسمع السيسي وهو يشكو الفقر في كل مناسبة.. مفيش.. ممعيش.. معنديش.. مش آدر أديك!
"معتز عبد الفتاح: مع الأسف، البديل الأفضل للحكومة الأوكرانية الآن هو تسليم البلاد لروسيا غير مدمرة، بدلا من تدميرها وقتل أهلها، ثم تسليمها للروس أيضا.. تجربة صدام حسين ماثلة أمامي"!.. تجربة صدام حسين ماثلة أمامه، لكن تجربة "هوشي منه" الفيتنامي قابعة خلفه!.. بلاش تجربة الأفغان.. هل هذه السياسة التي درَسها ويدرِّسها معتز عبد الفتاح؟!.. وبعبارة أخرى، هل هذه "مسطرة السياسة" التي يجب القياس بها في كل الأحوال؟!
إذا كان الأمر كذلك، فهل يقبل أستاذ العلوم السياسية الدكتور مهتز عبد الفتاح بأن تستسلم مصر للكيان الصهيوني إذا ما دخلت في حرب معه؟! علما بأن الحرب (ساعتئذ) لن تكون برية ولا جوية ولا بحرية وإنما صاروخية (دمار شامل عن بعد) حتى تُرفع الراية البيضاء على أطول برج في إفريقيا، الكائن في عاصمة السيسي الإدارية؛ لأن جيش مصر نسي فنون القتال، وانشغل بفنون زراعة الخيار، وإنتاج البسكويت، وتقشير الجمبري.. أم أنه مطمئن إلى أن هذه اللحظة لن تأتي أبدا؛ لأن "إسرائيل" باتت تحكم مصر بالفعل، بعد انقلاب يوليو 2013 دون أن تطلق رصاصة واحدة، ومن ثم، فلا ضير من التنظير للانبطاح والاستسلام الذي لا يقبل بهما إلا عديمي الشرف؟!
الغزو الروسي لأوكرانيا.. أين رواية الإرهاب و"الإسلاموفوبيا"؟
المعارضة التونسية وحسابات الحقل والبيدر
روسيا بانتظار الرد الأمريكي المكلف؟