من أهم العوامل التي تسهم في إقصاء المواطنة هي الحالة التي تحيط بالمجتمع في سياق
سيطرة العسكر على كل ما يتعلق بالوطن والمواطنة، وتبدو
العسكرة في صورتها الفجة ضمن ثلاثة تصورات على الأقل؛ الأول أن العسكرة يكون فيها الجميع في حالة خضوع للماكينة العسكرية ومنظوماتها الأمنية، وهو ما يشكل حالة من السيطرة والهيمنة، أما الثاني فهي العسكرة التي تتراكم بشكل متدرج ينتج من خضوع الدولة بسائر مؤسساتها لقرار المنظومة العسكرية تخطيطاً وتنفيذاً، أما التصور الثالث فتشكل عسكرة المجتمع أزمة مركبة، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تشكل تهديدا للنسيج الاجتماعي وتقويضا للأمن الإنساني، وتكون شكلاً من أشكال النظم الديكتاتورية والفاشية.
وفي واقع الأمر أن هذه التصورات الثلاثة يبدو أنها اجتمعت في
مصر بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو؛ ذلك أن عسكرة المجتمع انتقلت إلى حالة واضحة وفاضحة من هيمنة الأساليب العسكرية على الحياة المدنية. إذ تتشكل خطورة هذه العسكرة في هذا النظام الانقلابي الذي يجعل من العسكر حالة متحكمة، وتجعل من معايير العسكر هي الأساس في تقييم الحالة المدنية حتى تكون العسكرة في أوضح صورها؛ من تفريغ المجتمع من القيم المدنية والثقافية والاجتماعية، وإغراقه بصبغة من
الاستبداد وفرض الأساليب العسكرية.
تبدو المسألة بأن قيادات العسكر التي تهيمن على مقاليد الأمور تملي ثقافتها على المجتمع، والتي تتميز بأنماط حكم وقيم اجتماعية وثقافية أحادية الجانب لا تتمتع بالطابع المدني، بل هي تفرض النموذج العسكري على كامل ساحات ومساحات المجتمع
وتبدو المسألة بأن قيادات العسكر التي تهيمن على مقاليد الأمور تملي ثقافتها على المجتمع، والتي تتميز بأنماط حكم وقيم اجتماعية وثقافية أحادية الجانب لا تتمتع بالطابع المدني، بل هي تفرض النموذج العسكري على كامل ساحات ومساحات المجتمع، وهي في ذات الوقت تعطي صلاحيات واسعة لأجهزة الأمن وتعتاد على تخطي الدستور وخرق القانون وانتهاك الحريات، أي أنها وبكل بساطة تصادر حقوق المواطنة المدنية، بل تقصي المواطن كيانا وحقوقا.
وتبدو في الظاهر دولة العسكر دولة قوية متماسكة من ناحية الشكل، إلا أنها من الناحية الاجتماعية والمجتمعية هشة وضعيفة وغير متماسكة، تحمل في داخلها جذور الفرقة والانقسام، وقابليات الاستبداد والاستعباد.
إننا نشير بذلك إلى أخطر شكل من أشكال العسكرة التي تتسرب إلى ساحات المجتمع وأركانه؛ حتى في ممارسته اليومية فتكون عسكرة المجتمع طريقة حياة ثقافة وسلوكا. ومن أهم التعريفات التي وردت لتلك العسكرة على تلك الشاكلة هي أنها عملية إلباس المجتمع لباس العسكر، وتحويل وتنميط سلوكه إلى طابع معسكر يختلف عن حقيقة الطابع المدني أو العادي في الغالب وسلوكياته المعتادة، وهو ما يشيع تلك العسكرة أقرب ما يكون إلى الفكرة المؤدلجة وتعاظم تأثير الجيش كمؤسسة اجتماعية واقتصادية.
تبدو في الظاهر دولة العسكر دولة قوية متماسكة من ناحية الشكل، إلا أنها من الناحية الاجتماعية والمجتمعية هشة وضعيفة وغير متماسكة، تحمل في داخلها جذور الفرقة والانقسام، وقابليات الاستبداد والاستعباد
ولذلك شكلت تلك العسكرة حالة من الشمولية والاستبداد، متحولة إلى تسيير هذه الشعوب وتطويقها بأسوار متعددة لصناعة الخوف والتخويف، فتكون بذلك ثقافة مستشرية وحالة مستعصية. ويبدو ذلك جليا في التغاضي عن
الانتهاكات الصارخة للحقوق والحريات العامة التي تقوم بها تلك الأجهزة الأمنية، والتي لا تقع في دائرة الحساب فضلا عن دائرة العقاب، وتقوم بتسخير كافة الموارد البشرية والاقتصادية لخدمة تلك الأغراض، أمنية كانت أو عسكرية.
يذكرنا هذا المفهوم المستجد "عسكرة المجتمع" وأثره على الحياة المدنية بمقال بديع للصحفي الشهيد محمد منير، الذي توفي بعد خروجه من سجون العسكر بأيام قليلة. كتب مقالا مهما بعنوان "عسكرة المجتمع ما بين نكهة السياسة ونكهة البيادة"، مصدّرا هذا المقال بذلك الفارق الشكلي الذي أشار إليه بين الحكم العسكري في مصر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي والحكم العسكري الآن، فالأول حكم عسكري بنكهة السياسة والأخير حكم عسكري بنكهة البيادة. وبدا وقد توصل إلى ذلك المفهوم الأخطر لعسكرة المجتمع، فيتحدث عن الخطأ الشائع التي يتعلق بمفهوم عسكرة المجتمع، إذ "يتخيل البعض أنه مجرد السيطرة على مفاصل الدولة بشخصيات عسكرية، إلا أن العسكرة في جوهرها والأكثر خطورة تتعلق بالقضاء على مضمون الحكم المدني والحياة المدنية، ومفاهيمه المرتبطة بفطرة الإنسان، وتحول قواعد وقوانين وسلوك العسكر من أدوات داخل المجتمع المدني إلى مجتمع في ذاته يهيمن ويسيطر على المجتمع المدني نفسه".
كل ذلك في سياق إحكام القبضة على المواطنين بغية تطويعهم وتيسير إخضاعهم؛ عبر اعتماد استراتيجية تقوم على إلغاء كل مظاهر الحرية المدنية، والاستعاضة عنها بسلسلة من الطقوس العسكرية والإجراءات السلطوية الفوقية، من خلال أجهزة قمعية تشكل في حقيقة الأمر نمطا للحياة المجتمعية والتعامل مع طقوسها الاعتيادية.
فمن أخطر المشاهد أن يعتاد الناس في مناسبات التي هي من صميم حياتهم الاجتماعية، مثل الاحتفالات بأفراح أو اجتماع في مآتم وعزاء، فنجد هذا الحضور المعسكر باديا وطافحا، وبسمته الخاص. فقد طالعت مؤخرا مقطع فيديو يسجل مشاركة "الحاكم العسكري" لإحدى محافظات الدلتا في مناسبة عزاء، وقد وجدته يمشي بخيلاء وسط كوكبة من التشريفة العسكرية الخاصة به في مناسبة لا تخضع لمثل هذه الإجراءات العسكرية، فهو لم يحترم جلال الموت ولا هيبته، وفي الوقت نفسه يريد للمواطنين أن يعتادوا على مشاركته لهم في حياتهم الاجتماعية ولكن بشروطه ومتطلباته التي تنتهج وجود مسافة بينه وبينه الآخرين، وأنه يمنحهم شرف مشاركته في عزاء؛ وفق شروطه ودون أن يتأثر بقيمهم وعاداتهم المجتمعية.
فالحاكم العسكري من خلال ما ظهر في الفيديو لم يهتم إلا بصورته الخاصة التي تقيم مسافة بينه وبين المدنيين، ومحاط بكوكبة من تشريفته العسكرية التي أحضرها معه، زاعما أنه يشارك الناس في همومهم وأتراحهم، فلم تكن هذه المشاركة إلا بابا من أبواب الحضور العسكري الطاغي بشروطه ومظهره في المجتمع ومراسيمه المعسكرة.
يعد هذا المشهد نموذجيا لما سبق أن أشرنا إليه في مقال سابق بعنوان "
عسكرة المواطنة"؛ من أن هذه الأمور جميعا.. تؤكد أنها ليست مجرد مشاهد عابرة أو سياسات مؤقتة، ولكنها تصور من العسكر لكيفية تحكمهم في المجتمع وحياته المدنية، بما يفسر النظرة المتناقضة لكل من العسكري والمدني وأدوارهما في المجتمع.
العسكر في ضوء هذه السلوكيات التي تمكن لعسكرة المجتمع سيتحولون إلى طبقة مغلقة، يستطيعون من خلال استغنائهم عن بقية المجتمع وانكفائهم على مسألة العسكرة في داخلهم ومدها إلى كل الساحات المجتمعية؛ أن يكونوا هم طبقة الأغنياء، فيصير كل أمر "دولة فيما بينهم" لا يتعدى سواهم
وسنرى من المشاهد أيضا أن تكون هناك مسائل تتعلق بتسيير
الحياة الاقتصادية الاعتيادية، فإذا بها تسير بتوجهات عسكرية بالأمر المباشر، لتؤكد أن العسكر قد امتدت هيمنتهم إلى كامل الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فباتوا يصدرون الأوامر ويحددون من ترسو عليه العطاءات بلا مناقصات وبأوامر مباشرة (فين الحاج سعيد)، ولتؤكد على معنى الفساد والإفساد الذي يتعلق بإدارة العسكرة للمجتمعات، والقيام بكل ما من شأنه أن يوجهوا ويسيروا به الحياة الاجتماعية على مقاسهم، وتسييرا لمصالحهم الآنية والأنانية التي تتمثل في قيادات العسكر التي تدير الدولة بما يشبه العزبة وبالأمر المباشر، بلا حدود أو قيود.
إن العسكر في ضوء هذه السلوكيات التي تمكن لعسكرة المجتمع سيتحولون إلى طبقة مغلقة، يستطيعون من خلال استغنائهم عن بقية المجتمع وانكفائهم على مسألة العسكرة في داخلهم ومدها إلى كل الساحات المجتمعية؛ أن يكونوا هم طبقة الأغنياء، فيصير كل أمر "دولة فيما بينهم" لا يتعدى سواهم. وهو من المعاني الخطيرة التي تؤدي في النهاية إلى انقلاب الحياة المدنية بثقافتها واقتصاداتها إلى حالة عسكرية مستحكمة مستعصية؛ هي في النهاية تأتي على كل حقوق المواطنة وحرياتها المدنية، لأنها تقوم بفرض نمط الحياة المعسكرة بالقهر والقسر والتحكم والهيمنة والنفاق والمداهنة.
ولعل الأمر في النهاية قد ينصرف إلى تلك الصورة البائسة التي انتشرت يوما لذلك الرجل الفقير الذي يضع بيادة العسكر فوق رأسه، فيقصي كل أمر يتعلق بالحياة المدنية ممكّناً لبيادتهم العسكرية؛ ليشكل هذا الرجل نموذجا لمواطنة البيادة في زمن العسكر.
twitter.com/Saif_abdelfatah