«فظائع، مجازر، وجرائم حرب» كتاب أشرف على تحريره ألكسندر ميكابريدزه، المحامي وأستاذ التاريخ في جامعة لويزيانا؛ وصدر سنة 2013 ضمن منشورات ABC-CLIO. والعمل أقرب إلى قاموس، بترتيب أبجدي لوقائع تبدأ من سنة 689 قبل الميلاد، مع مجزرة بابل التي أمر بارتكابها سنحاريب ملك آشور، واسفرت عن مقتل كامل سكان المدينة، وتحويل مياه الأنهار لتغمرها تماماً؛ وتنتهي في سنة 2012، مع مجزرة الحولة التي ارتكبتها قوات النظام السوري في بلدة تلدو ومحيطها، وبلغ عدد ضحاياها 108 بينهم 34 امرأة و49 طفلاً (حسب الأمم المتحدة، التي استند الكتاب إلى أرقامها).
تاريخ صدور الكتاب يفسّر غياب مجازر تالية ارتكبها جيش بشار الأسد والميليشيات المناصرة له في مواقع وتواريخ أخرى في سوريا، خاصة تلك اتخذت صفة الهجمات الكيميائية.
لكنّ آل الأسد، الأب حافظ مثل شقيقه رفعت ووريثه بشار وابنه الثاني ماهر والضباط أو زعماء الميليشيات والعصابات من أبناء العمومة والخؤولة، لهم نصيب في مادة ثانية أساسية تضمنها الكتاب؛ هي مجزرة مدينة حماة، 2 شباط (فبراير) 1982، التي تمرّ هذه الأيام الذكرى الـ40 لارتكابها. وصحيح أنّ هذه المادة الثانية تشير، أيضاً، إلى فظائع وقعت في سجن تدمر، لكنها إشارات وجيزة تماماً لا تتجاوز حفنة كلمات، ضمن مادّة قوامها 414 كلمة. وكان في وسع ميكابريدزه أن يتوقف، حتى في إطار الإيجاز ذاته، عند سلسلة من الفظائع التي سبقت مجزرة حماة أو أعقبتها، وارتكبها النظام بالطرائق الوحشية ذاتها، التي بلغت شأو جرائم الحرب بامتياز.
تلك كانت حال مجازر جسر الشغور (200 ضحية) في قلب المدينة؛ وسوق الأحد (190ضحية) وحيّ هنانو (83 ضحية) وحي المشارقة (86 ضحية) وبستان القصر (35 ضحية) في مدينة حلب… وليس غيابها عن الكتاب سوى مظهر صريح فاضح لطبائع قصور الرأي العام العالمي، والإعلام الدولي من خلفه، عن الالتفات إلى ما كانت سوريا تشهده من فظائع وشنائع وجرائم حرب.
في مؤلفات غربية أخرى، وباستثناء شبه حصري لأعمال عدد من المؤرخين الإسرائيليين الذين عنوا بالملفّ لأسباب تتصل بمصالح دولة الاحتلال وهواجسها ورهاناتها على البيت الأسدي (موشيه ماعوز وأفنير يانيف، في «سوريا تحت الأسد» 1986، على سبيل المثال)؛ كان نادراً تماماً أن يجد القارئ الغربي مادّة معقولة في الحدود الدنيا، وليس البتة مفصلة أو شاملة، حول تلك المجازر.
البريطاني باتريك سيل، مؤلف سيرة عن الأسد الأب شديدة التعاطف والذي ظلّ صديقاً للنظام حتى آخر يوم في حياته، اعتبر معركة حماة «الفصل الأخير في صراع طويل مفتوح» خلف «العداءات القديمة متعددة المستويات بين الإسلام والبعث، والسنّة والعلويين، والريف والمدينة». وهذا تأويل لم يكن قاصراً وضحلاً وتنميطياً فحسب، بل هو كلّ هذه السمات مُضافة إليها نزعة التعمّد إلى التسطيح التضليلي والتبسيط التشويهي.
كان سيل يعرف أنّ المجازر المنظمة التي شهدتها المدينة وقعت من دون سبب ظاهر أو مباشر، مثل اندلاع قتال مع المسلحين الإسلاميين مثلاً؛ وكان الهدف منها إنزال العقاب بالمدينة وأهلها، وتثبيت ما سيتجاسر مراقب غربي آخر هو الأمريكي توماس فردمان على تسميته «درس حماة».
لقد شهدت المدينة مجازر في حيّ «حماة الجديدة» حيث تمّ تجميع الأهالي في الملعب البلدي، ونهب بيوتهم، ثمّ العودة إليهم وقتل قرابة 1500، بنيران الرشاشات؛ وفي حي «سوق الشجرة» وأسفر عن مقتل 160 مواطناً، رمياً بالرصاص أو دفناً تحت الأنقاض، وحشر 70 آخرين في متجر لبيع الحبوب وإشعال النار فيه؛ وفي «حي البياض» حيث قُتل 50 وأُلقيت جثثهم في حفرة مخصصة لمخلفات معمل بلاط؛ و«سوق الطويل» حين أُعدم 30 شاباً على سطح السوق، وحُشر 35 آخرون في متجر للأدوات المنزلية؛ و«حي الدباغة» حين حُشر 35 مواطناً في منشرة للأخشاب، وتمّ إشعال النار فيها؛ و«حي الباشورة» الذي شهد إعدام عائلات بأكملها، من آل الكيلاني والدباغ والأمين وموسى والقاسية والعظم والصمام وتركماني؛ وتفاصيل رهيبة مماثلة تكرّرت في مجازر أحياء العصيدة والشرقية والبارودية ومقبرة سريحين والمستشفى الوطني.
خاتمة تلاوين التواطؤ المستدام لن تكون تهافت بعض الأنظمة على إعادة تأهيل النظام السوري؛ فمَنْ يهُن مع دولة الاحتلال كيف لا يسهل عليه الهوان مع البيت الأسدي، أو مع ما تبقى من جدرانه المتداعية.
أسبوعية الـ«إيكونوميست» البريطانية، العريقة ومنبر اقتصاد السوق ورجال المال والأعمال، كتبت (ولكن بعد قرابة شهرين على المجزرة!) أنّ «الرواية الحقيقية» لما جرى في مدينة حماة «لم تُعرف بعد، ولعلها لن تُعرف أبداً». وإذْ اعترفت بأنّ المدينة صارت «خرائب» بعد أن قُصفت بالدبابات والمدفعية والطيران على امتداد ثلاثة أسابيع، وأنّ «جزءاً كبيراً من المدينة القديمة قد هُدم تماماً، وسُوّي بالجرافات»؛ فإنّ المجلة تفادت تماماً استخدام مفردة «مجزرة» وفضّلت في المقابل اعتماد توصيف للصراع هو الأشدّ غموضاً وركاكة في آن: متمردون، ضدّ قوّات حكومية! ولم تكن الـ»إيكونوميست» أفضل حالاً من موقف الحكومة البريطانية، وتحديداً مارغريت ثاتشر رئيسة الوزراء آنذاك، رغم الجفاء الظاهر الذي كان يهيمن على العلاقات البريطانية ـ السورية في تلك الحقبة.
الإنصاف يقتضي، خاصة في هذه الذكرى الـ40، إفراد صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية التي شذّت عن القاعدة، بفضيلة الروح الفدائية التي تحلّى بها أحد كبار مراسليها، سورج شالاندون، الذي خاطر بحياته وتسلل إلى حماة تحت اسم مستعار (شارل بوبت) وصفة كاذبة (باحث في الآثار)؛ وهو الذي سوف يكون أوّل صحافيّ أجنبي يدخل المدينة الشهيدة، ويسجّل بأمّ العين الكثير (وليس، البتة، جميع) ما حاق بأهلها وبعمرانها، القديم قبل الحديث، من قتل وتخريب وتدمير.
«الأموات أخذوا يُعدّون بالآلاف أوّلاً، ثمّ بالمئات، ثمّ بالآلاف خلال الساعات الأولى فقط. لقد رافقني أحد وجهاء المدينة، فتنقلنا من بيت إلى بيت، ورأينا العائلات الثكلى، والجثث التي تُجرّ من الأقدام، أو تُحمل على الأكتاف» كتب شالاندون؛ متقصداً أن يخنق في داخله روح الروائي، هو المتمرّس في فنّ السرد والحائز على جوائز مرموقة، كي ينتصر لواجب الإخبار الفعلي عن الأهوال التي شهدتها حماة.
وما دام أحد كبار صنّاع المجزرة، رفعت الأسد، قد عاد إلى سوريا على رؤوس الاشهاد، ليس من دون تواطؤ لا يخفى من جانب الأجهزة الأمنية في فرنسا، موئل اليعاقبة والثورة الفرنسية والكومونة؛ فإنّ ابسط حقوق ضحايا مجزرة حماة استذكار ذلك التمهيد الفاشي الذي تولاه الشقيق قائد «سرايا الدفاع» خلال المؤتمر القطري السابع للحزب (كانون الأول/ديسمبر 1979). يومها أعلن الأسد الشقيق، بوصفه عضو القيادة القطرية للحزب، أنّ مَنْ لا يقف مع الثورة يقف في صفوف أعدائها حكماً، ودعا إلى شنّ حملة «تطهير وطني» وطالب بإرسال المعارضين إلى معسكرات عمل وتثقيف في الصحراء.
وكان الأسد الشقيق يستبق حركة الاحتجاج الشعبي التي تبلورت في إطار الأحزاب المعارضة غير المنضوية في جبهة السلطة، وفي النقابات المهنية للأطباء وأطباء الأسنان والمهندسين والصيادلة والمحامين، الذين أعلنوا إضراباً ليوم واحد (31/3/1980) احتجاجاً على غياب الحريات وشراسة آلة القمع وانتهاك حقوق المواطن. وكان ردّ السلطة الفوري هو حلّ هذه النقابات، واعتقال عدد من قياداتها، وشنّ حملات اعتقال واسعة ضدّ أبرز أحزاب المعارضة.
والأرجح أنّ خاتمة تلاوين التواطؤ المستدام، في هذه الذكرى الـ40، لن تكون تهافت الأنظمة في الإمارات والبحرين والجزائر ومصر وعُمان على إعادة تأهيل النظام السوري؛ فمَنْ يهُن مع دولة الاحتلال، أو يُمعن في العسكرة والاستبداد والفساد، أو يتكاذب حول امتلاك عصا «الاعتدال» من منتصفها… كيف لا يسهل عليه الهوان مع البيت الأسدي، أو مع ما تبقى من جدرانه المتداعية!