ملفات وتقارير

آثار مصر المهملة.. لماذا تدمر مصر تاريخها ومستقبلها؟

الكثير من الآثار الإسلامية في مصر تعاني الإهمال من قبل السلطات المختصة- wikimedia

سلطت صحف مصرية الضوء على حالات إهمال جسيمة لحقت بآثار مصرية وكنوز دفنت، بالتزامن مع بدء حملة لتطوير شارع المعز في إطار إحياء القاهرة التاريخية، وسط تساؤلات عن أسباب هذا الإهمال، ومن المستفيد منه.


وتطوير شارع المعز وإحياء مناطق القاهرة التاريخية تشمل تطوير عدد من الشوارع والوكالات الأثرية، تقوم وزارة الآثار المصرية بالتعاون مع اليونسكو بحملة لصيانة وترميم آثار شارع المعز، وهو الشارع الرئيسي الذي أنشأه الفاطميون للمرور لمدينة القاهرة القديمة، وقد سمي قبل ذلك شارع "بين القصرين‏"،‏ وكانت تمر من خلاله مواكب الاحتفالات بكسوة الكعبة‏.‏


ويضم الشارع جميع العمائر الإسلامية والحربية والدينية والاجتماعية والتعليمية،‏ ومنها مدرسة ومسجد السلطان الكامل، وسبيل محمد علي بالنحاسين، ومسجد السلطان برقوق، ومسجد الناصر محمد، وقبة ومدرسة قلاوون، وبقايا مدرسة الظاهر بيبرس، وبقايا مدرسة الصالح نجم الدين.


ويبلغ عدد الآثار المسجلة بشارع المعز وحده 29 أثراً إسلاميًا، يعود أغلبها لفترات تاريخية مختلفة، منها الفاطمي والأيوبي والمملوكي وحتى بعض الآثار من زمن محمد علي.


كنوز دفنت بسبب الإهمال


مدينة القاهرة التاريخية تعد أحد أبرز المدن التراثية القديمة على مستوى العالم، وقد تم تسجيلها على قائمة مواقع التراث العالمي باليونسكو عام 1979، لكن تطوير شارع المعز أعطى إيحاء بأنه ليس سوى واجهة تخفي وراءها إهمال متعمد لآثار وكنوز مصرية أخرى يتعمد إهمالها.


وهو ما أكدته الصحفية والباحثة المصرية "إ.ع" في تصريحات لـ "عربي21"، حين قالت إنه "رغم تركيز الاهتمام على ترميم آثار شارع المعز كونه أكثر الأماكن التي بها عدد من الآثار الإسلامية بمختلف العصور، لكن الكثير من آثار مصر، خاصة الإسلامية، مهددة بالسقوط والاندثار".

 

اقرأ أيضا: آثار مصر المنهوبة مليارات الدولارات المهدرة (إنفوجرافيك)

ونوهت إلى أن" كثيرا من الآثار الإسلامية تم الاستيلاء عليها من قبل الأهالي؛ بسبب عدم زيارة المسؤولين لها، وعدم الاهتمام بها على الإطلاق".


وأكدت "إ.ع"، في حديثها مع "عربي٢١"، أن إزالة الحكومة لعدد واسع من الجبانات والمقابر بهدف توسيع الطرقات أو غيرها يتم دون وعي بقيمة هذه الأماكن الأثرية، التي يتجاوز تاريخ بعضها القرن والقرنين، وبعضها يتمتع بخطوط أثرية لم يعد لها مثيل بأي مكان آخر في العالم، مشيرة إلى أن القيمة الأثرية لهذه الأماكن لا تقدر بثمن.


وهو ما أشار إليه أيضًا محمد أبو الغار، في مقاله بصحيفة المصري الثلاثاء، حيث أكد أن هناك ظاهرة خطيرة حدثت في الشهور الماضية، وهي إزالة أعداد من جبانات (مقابر) القاهرة الأثرية في منطقة يوجد فيها 75 أثرا مسجلا.


وأشار أبو الغار إلى أن جبانات القاهرة لها تاريخ من القرن السابع الميلادي، ودفن فيها عمرو بن العاص وعقبة بن نافع وأبو ذر الغفاري، ودفن فيها أهل آل البيت، السيدة نفيسة والسيدة عائشة، وأيضا الإمام الشافعي، ودفنت فيها شجرة الدر والصالح أيوب، ومن المماليك قايتباي وبرقوق، وفي عصر محمد علي وعائلته، دفن في حوش الباشا كل باشوات محمد علي وأعيان مصر.


وأكد أبو الغار تميز هذه المقابر بالثراء المعماري من قباب وشواهد رخامية عليها كتابات بماء الذهب، وأنها تقارب في أهميتها مع مرور الزمن مقابر ملوك وملكات مصر القديمة في الأقصر.


وأوضح أن إزالة وتدمير هذه المقابر الأثرية فيه تدمير لتاريخ مصر وتدمير لمستقبلها، وإضاعة لمصدر من مصادر السياحة الآن ومستقبلا، مضيفًا: "الدول التي لا تحافظ على تاريخها ولا تحترم زعماءها وقادتها ومفكريها لن تستطيع بناء مستقبلها".


هدم آثار عمرها قرنان


ولفتت الباحثة إ.ع، في حديثها لـ"عربي٢١"، إلى أن بعض الدول العربية فيها أماكن أثرية يتم الاهتمام والعناية بها، بينما لا يزيد تاريخها على 100 عام، بينما تزيل مصر وتهدم آثار يفوق عمرها أكثر من ذلك، والكثير منها يسرد حقبا زمنية كاملة.


وأكدت وجود استياء كبير بين المرشدين السياحيين والأثريين لهذا الإهمال المتعمد لآثار مصر، مشيرة إلى أن كثيرا منهم حاول التواصل مع الحكومة والبرلمان لوقف هذا الإهمال والتعدي، لكن دون اهتمام.

 

وقالت الصحفية والباحثة لـ "عربي 21" إنه "في أسوأ الظروف يمكن للحكومة أن تفكك هذه الآثار، وتنقلها باهتمام لأماكن أخرى؛ للحفاظ عليها للأجيال القادمة التي يعد أحد حقوقها الاطلاع على هذا التاريخ وهذه الآثار والشواهد".


ولفتت "إ.ع "النظر إلى بعض هذه الآثار في القاهرة القديمة، مثل مسجد "قاني باي الرماح" أحد أبرز المساجد المعلقة بالعالم والمغلق بمصر منذ 2010 وحتى اللحظة.


وأكدت أن "مسجد "قاني باي الرماح" يحتوي على واحد من أجمل 3 منابر بالعالم، وهذا المنبر تمت سرقته بالفعل من المسجد، ولم يتم الكشف عن أي تحقيق بخصوص هذا الأمر أو محاولة افتتاح المسجد، رغم أنه بداخل أهم آثار القاهرة التاريخية القلعة، وعلى مقربة من قسم شرطة الخليفة بالقاهرة القديمة، بالإضافة لقربه من مسجد السلطان حسن ومسجد الرفاعي أبرز المساجد التي تنال اهتمام السياح".


الباحثة أكدت أن مزاعم بعض المسؤولين بعدم وجود تمويل كاف لترميم هذه الآثار، تؤكد أنها ليست ضمن خطة الحكومة، ولا تنال الاهتمام الكافي من البرلمان أو الجهات المسؤولة عنها، مطالبة إياهم بتحمل مسؤوليتهم تجاه تاريخ مصر ومستقبلها أيضا.


لا يوجد ميزانية


ومدينة رشيد بمحافظة البحيرة شمال مصر، ثاني المدن من حيث عدد الآثار الإسلامية، حيث تضم 22 منزلاً أثرياً ومساجد ومتحف وقلعة وآثار أخرى، بالإضافة إلى تاريخها من النضال ضد الإنجليز.

 

اقرأ أيضا: مخاوف من مخطط "سيادي" لخصخصة آثار مصر.. كيف؟

وتعاني رشيد إهمالا متعمدا وجسيما ينذر بضياع جزء كبير من آثارها أو جميعها، وهي آثار تجسد تاريخ مصر في العصر العثماني والمملوكي، وتسبب تهالك وانهيار عدد من المنازل والمساجد والمناطق الأثرية في غلق كثير من الأماكن الأثرية أمام الزوار والسياح، منها متحف رشيد القومي.


وقال مدير منطقة آثار رشيد محمد تهامي، في تصريحات لصحيفة الأخبار المصرية، إنه تم مخاطبة هيئة الآثار أكثر من مرة لتوفير ميزانية مالية، دون جدوى.


فيما تساءل مدير عام المتابعة بمنطقة رشيد السابق "السيد حمام" عن أسباب تأخر أعمال ترميم تلك المناطق الأثرية التاريخية، مؤكدا أن تداخل الوزارات في أعمال الترميم أدى إلى تضارب القرارات، وتوقف الترميم لمدة تزيد على ١٠ سنوات، ما أدى إلى تزايد نسب المياه الجوفية في العديد من المناطق الأثرية برشيد، وتهالك أغلبها، وسقوط مآذن أحد المساجد الأثرية.


الأمر ذاته أكده النائب بالبرلمان المصري سابقا عن المدينة محمد عباسي، قائلا إن رشيد عانت على مدار السنوات الماضية من الإهمال، وآن الأوان لتطويرها ووضعها على مصاف المدن السياحية العالمية.


ملايين أُنفقت على مواكب


وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، أعيد افتتاح طريق الكباش الرابط بين معبدَي الكرنك والأقصر في أقصى جنوبي البلاد، وأقيم حفل فني كبير، وبلغت تكلفة الطريق ٣٠ مليون جنيه، حيث قوبل حفل الافتتاح بانتقادات واسعة من حقوقيين وإعلاميين، مشيرين إلى التكلفة الكبيرة لإقامته في وقت تواجه فيه مصر صعوبات اقتصادية.


طريق الكباش ليس هو الأبرز، ففي نيسان/ أبريل 2021 كان موكب نقل المومياوات الملكية في مصر، حيث تم نقل 22 مومياء فرعونية من المتحف المصري بالتحرير إلى متحف الحضارات الجديد في منطقة مصر الفاطمية، وهو حفل أثار أيضًا جدلا واسعا؛ بسبب تكلفته الباهظة التي قُدرت بما يتراوح من 15-20 مليار جنيه مصري.


وهو ما طرح العديد من التساؤلات حول لماذا تنفق مصر على الاحتفالات الفرعونية ملايين الجنيهات، رغم أن أقل من نصف هذه التكلفة يمكنه ترميم كثير من المناطق الأثرية المصرية، وإعادة إحيائها من جديد، بما يضمن تحولها إلى مصدر جذب سياحي لملايين السياح من خارج مصر وداخلها، ويعيد تنشيط قطاع تحتاجه مصر بشدة، خاصة في هذا الوقت.

 


واستنكرت الباحثة إ.ع في حديثها مع "عربي٢١" إنفاق مصر الملايين على طرق وحفلات، بينما يمكن بملايين الجنيهات ترميم آلاف الآثار المصرية التي ستدر لمصر لاحقا الملايين وربما المليارات إن تم الاهتمام بها وإعادة ترميمها والاعتناء بها.


مئات الآثار المهملة آثار مصر المنسية.. كنوز دفنها الإهمال (١)
محافظة الشرقية أيضًا (شمال مصر) تزخر بثرواتها الأثرية، وتنفرد بوجود ١٠٢ موقع أثري تم التنقيب في 80% منها، والكشف عن آلاف من القطع الأثرية التي ترجع إلى عدة عصور تاريخية متعاقبة، بدءًا من عصر ما قبل التاريخ حتى العصر اليوناني والروماني.


ورغم ذلك، إلا أن الإهمال لا يزال هو سيد الموقف، ولا يزال يسيطر على هذه الآثار الهامة والكنوز المدفونة بمصر، بالإضافة لمواقع أثرية هامة بعدد من المدن المصرية تحوي آثارا مصرية لا تقدر بثمن، ويمكنها إنعاش وإحياء مدن مصرية بأكملها.


لكن وبذات الحجة التي تكررت في القاهرة القديمة ورشيد، بداعي "عدم وجود مصادر تمويل كافية" أو عدم التفات المسؤولين بالوزارات المصرية المعنية لهذه المدن وهذه الآثار، فلا تزال مهملة حتى اليوم.


مصر تزيل آثارها من أجل "الكباري"


وتساءل د.أبو الغار بمقاله قائلا: "هل من المعقول أن نزيل آثار سجلت في واحد من أهم كتب العالم الخاصة بمصر، ونعرف أنه قد أنشئ كوبري في مكانها؟ هل من المتخيل أن نقوم بإزالة الجبانات التاريخية، والتي أصبحت جزءا من القاهرة التاريخية وانضمت للتراث العالمي عام 1979؟"


وطرح أبو الغار عدة تساؤلات تستنكر تعمد هدم الآثار منها: "هل تعرفون يا سادة ويا سيدات أن مدفن ابن خلدون والمقريزي -وهما من أهم مؤرخي مصر وكتبهما يقرأها الملايين- قد تمت إزالتها عند إزالة جزء من قرافة (مقبرة) باب النصر عند السور الشمالي للقاهرة الفاطمية؟ وأنه عندما أقيم محور الفردوس الذي سبق أن رفضه جهاز التنسيق الحضاري في عام 2014 تمت إزالة عدد من جبانات شخصيات مصرية مهمة مثل أحمد لطفي السيد الذي سمي أستاذ الجيل؟".


وتابع: "وهل يهدم قبر إحسان عبد القدوس الصحفي والروائي والمدافع عن الحرية والفن والجمال في مصر بسهولة، وقبر محمد التابعي أهم صحفي مصري في النصف الأول من القرن العشرين، وزكي بك المهندس أحد الرعيل الأول الذي وضع نهضة تعليمية في مصر، ومقبرة نور الدين طراف رئيس وزراء مصر أثناء الوحدة مع سوريا؟".


فهل يمكن إنقاذ آثار مصر التاريخية أمام طوفان الكباري والمحاور والطرق الذي يجتاحها في القاهرة، وفوضى الإهمال في باقي المحافظات؟