فوجئ شعب
مصر ظهر يوم الخميس (7 تشرين الأول/ أكتوبر 2021) بصور صادمة
لعشرات الآلاف من جرعات لقاح
كورونا وهي ملقاة على شفا مجرى مائي في قرية صغيرة بمحافظة المنيا، بصعيد مصر جنوب القاهرة، في وقت يشكو فيه ملايين المواطنين من عدم القدرة على الحصول على اللقاح رغم التسجيل منذ شهور عبر الموقع الالكتروني لوزارة
الصحة.
وتواردت الأخبار عن نوعية اللقاح وأنه لقاح سينوفارم الصيني وأن تاريخ الصلاحية ما زال ساريا، وقتها سارعت الجهات المعنية في المحافظة لإنكار أن يكون هذا اللقاح من مخازنها، حيث أن رقم التشغيلة الطبية على العبوات غير مطابق لما ورد لديها. ومما زاد من غموض الحادث هو صمت وزارة الصحة التام رغم إعلان النيابة عن بدء التحقيق في الواقعة.
ومن المعروف أن الكمية الأولى من لقاح سينوفارم قد وردت إلى مصر لأول مرة في شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 2020، كهدية مجانية من دولة الإمارات، بناء على ما أسمته وزيرة الصحة وقتها بأنها "مبادرة رئاسية عظيمة". يعني أن اللقاح وصل مصر بقرار سياسي وقبل اصدار أية موافقات علمية وصحية بدخوله، وذلك بالمخالفة لتوصيات منظمة الصحة العالمية، مما أوجد حالة من الشك والريبة عند المواطنين، تطورت مع الوقت إلى خوف لا شعوري نحو ذلك اللقاح رغم ما صدر بعدها من موافقات صحية تشمل على الصلاحية والفعالية والمأمونية، فقد ظل مرتبطا بشخص السيسي الذي أمر بإدخاله مصر بقرار استباقي وبتوجيهات شخصية.
اللقاح وصل مصر بقرار سياسي وقبل اصدار أية موافقات علمية وصحية بدخوله، وذلك بالمخالفة لتوصيات منظمة الصحة العالمية، مما أوجد حالة من الشك والريبة عند المواطنين، تطورت مع الوقت إلى خوف لا شعوري نحو ذلك اللقاح رغم ما صدر بعدها من موافقات صحية
ومن المعروف أن أي برنامج أو مشروع لا بد له من نسبة إنجاز للقائمين عليه، ويقابلها حافز مادي يزيد أو ينقص حسب مستوى الأداء وكمية النشاط، ومن واقع تاريخ الممارسات الإدارية في مصر فقد تم رصد عدة حوادث فساد، منها على سبيل المثال قضايا متنوعة شملت إهدار ملايين العبوات من وسائل تنظيم الأسرة المجانية المختلفة بهدف تحقيق إنجاز كمي، وبالتالي الحصول على الحافز المادي المقابل لها. حدث هذا أيضا بالنسبة لوسيلة "الواقي الذكرى" في بداية التسعينيات في محافظة الغربية، من خلال "مشروع الدكتور" لتنظيم الأسرة، وتكرر بعدها بعدة سنوات في مشروع "التسويق المجتمعي" لأقراص منع الحمل للسيدات في عدة محافظات.
وجميعها كانت جمعيات أهلية، ولكن هذه الواقعة كان غريبا أن تحدث في مؤسسة حكومية هي وزارة الصحة، وإن كان هذا هو التفسير الإداري المقنع لإلقاء تلك الآلاف من عبوات لقاح سينوفارم المجاني في القمامة، وتسجيلها بأسماء وهمية لتحقيق إنجاز وحصد مقابل مادي بأسلوب إجرامي، خاصة وأنه يتم حاليا تنفيذ حملة "معا نطمئن.. سجل فورا" لتنشيط حركة التطعيم بلقاحات كورونا المختلفة، وهي حملة ممولة بمبلغ 46 مليون دولارا من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في مصر، أي بما يعادل أكثر من 700 مليون جنيه مصري، ونظرا لأن لقاح سينوفارم - والذي استقدمه السيسي - مرفوض مجتمعيا نظرا لوجود نوع من اللقاحوفوبيا نحوه، وحيث أن فِرق التطعيم تريد الحصول على حافز الإنجاز، فمن الوارد أن يقوم أصحاب النفوس الضعيفة بنفس الإجراء الذي فعله من سبقهم نحو وسائل تنظيم الأسرة المجانية، وتم التخلص من اللقاح وإعداد سجلات وهمية وعرض الإنجاز الوهمي والحصول على مكاسب غير شرعية، ومن الصعب كشفها في غياب الرقابة والمتابعة الجادة كما هو معروف.
في اليوم الخامس من حدوث الواقعة صدر بيان النيابة العامة بأن اللقاح يتبع محافظة المنيا فعلا، وأنه تبين وجود عجز كبير في كميات اللقاح الموجودة في المخازن، وقررت النيابة حبس ثلاثة متهمين على ذمة التحقيق، وهم الصيدلي مسئول الاستلام من القاهرة، وسائق الشاحنة، وأمين المخزن مسئول الاستلام والتخزين والحفظ في المحافظة.
ووردت عدة روايات متضاربة على لسان المتهمين، وتلك الروايات تلقى بالمزيد من الغموض على الواقعة، كما أنها تضرب بقوة في أمن وسلامة وفعالية "سلسلة التبريد"، وهي الإجراءات التي تضمن وصول أي لقاح سليما وفعالا، بداية من المخازن المركزية وحتى فريق التطعيم أيا كان مكانه، فمن المفروض أن يتم النقل داخل شاحنة مجهزة بمبردات ضخمة محكمة الغلق، ويتم الرصد لحركة الشاحنة حتى دخولها مخازن الصحة في المحافظات تحت حراسة ورقابة وتأمين تام. وهذا الأمر غاب تماما في تقرير النيابة كما ورد على لسان المتهمين، لأنه ليس من المنطقي أن تتعرض الشاحنة لسطو مسلح دون إبلاغ الشرطة، ومن المستحيل أن يتم فتح الشاحنة وسرقة كميات كبيرة من اللقاح دون معرفة السائق؛ الذي ادعى بأنه كان يجلس في استراحة على الطريق وقتها. والأمر الأكثر غرابة في تقرير النيابة هو قيام اللصوص بسرقة كميات تقدر قيمتها بأكثر من خمسة ملايين جنيه مصري ثم يتم التخلص منها في أكوام القمامة وفي مكان ظاهر للجميع على شاطئ مجرى مائي بجوار الطريق العام في إحدى القرى وسط السكان.
من الواضح أن تقرير النيابة جاء ليعطي الإيحاء المبدئي لما سبقه من تصريحات من الأبواق الإعلامية الرسمية؛ تعلن عن وجود "جريمة إرهابية" مدبرة تستهدف النظام المصري، وزاد أحدهم واتهم جماعة الإخوان المسلمين بأنها تتحكم في مفاصل الدولة، وأنه توجد "خلية إخوانية" وراء تلك الجريمة
ومن الواضح أن تقرير النيابة جاء ليعطي الإيحاء المبدئي لما سبقه من تصريحات من الأبواق الإعلامية الرسمية؛ تعلن عن وجود "جريمة إرهابية" مدبرة تستهدف النظام المصري، وزاد أحدهم واتهم جماعة الإخوان المسلمين بأنها تتحكم في مفاصل الدولة، وأنه توجد "خلية إخوانية" وراء تلك الجريمة، وذلك على النهج المتبع من النظام المصري في استخدام فزاعة الإخوان وإلقاء تبعية التقصير الإداري، والقصور الحكومي على نظرية المؤامرة بأسلوب صار مفضوحا أمام المواطن المصري، خاصة وأن تقرير النيابة جاءت فيه اعترافات متناقضة من المتهمين حول تلك الجزئية، بما يقطع يقينا بعدم مصداقيتها.
كانت الملاحظة الإيجابية صحيا في قرار النيابة هي فساد اللقاح وعدم إمكانية إعادة استخدامه ثانية لتعرضه لظروف تخزين سيئة، رغم أن تاريخ الصلاحية ما زال ساريا، وهذا يعطي اطمئنانا نحو التخوف من إعادة تدويره من مقلب القمامة ثم استخدامه، وتلك جزئية هامة واجب على وزارة الصحة التركيز عليها، إضافة إلى مهمة أخرى مطلوبة من الصحة وهي السعي نحو كسر الحاجز النفسي عند المواطنين نحو هذا اللقاح تحديدا، مع الاهتمام بصورة عاجلة بالتعاون مع النيابة على إخراج سيناريو حقيقي مقنع لجماهير شعب مصر حول حقيقة إلقاء لقاح سينوفارم في القمامة، وذلك بشفافية ومكاشفة أيا كانت قسوتها، حتى تتم زيادة الترويج ونشر لقاح كورونا بصورة عامة لتحقيق هدف منظمة الصحة العالمية، والوصول إلى نسبة تطعيم لعشرين في المئة على الأقل من الشعب بنهاية العام الحالي 2021.