رغم أنها يمكن أن تتراوح بين
صفقة القرن (التجارية/ الصناعية) وخيانة القرن (الجيو – سياسية/ الدفاعية)، تبدو
حكاية عقد الغواصات الفرنسية الذي فسخته الحكومة الأسترالية في منزلة وسطى على نحو
ما؛ بين مبدأ، قديم قدم تاريخ السياسة العالمية ومناهج القوى العظمى، يُعلي
المصالح الفردية لهذه الدولة أو تلك على كلّ ما عداها من مواثيق تنتظم التحالفات
والصداقات؛ ومبدأ قديم بدوره، لكنه يستجدّ دائماً ويتجدد كلما احتاجت الولايات
المتحدة إلى تنظيم كواكبها وأجرامها من حول هذه أو تلك من سياسات المواجهة.
ذلك لأنّ الأصل في الحكاية هو أنّ التعاقدات
أياً كانت، التجارية/ الصناعية مثل الجيو – سياسية/ الدفاعية، يمكن أن تُبطلها
اعتبارات الأمن القومي للطرف الأقوى في العقد؛ بصرف النظر عن تواريخ الصداقات
والتحالفات وشتى أشكال الحروب التي خاضها الطرفان معاً في زمن مضى، أو يُحتمل أن
يضطرا إلى خوضها معاً في أيّ زمن قادم. تحصيل حاصل، قد يقول قائل تعليقاً على
السطور السالفة، محقاً تماماً في الواقع؛ لولا أنّ نقض عقد قيمته أكثر من 60 مليار
دولار، من جانب واشنطن ضدّ الحليف في باريس، بالتواطؤ مع بلد خارج أوروبا اسمه أستراليا،
وبلد خرج لتوّه من أوروبا اسمه المملكة المتحدة، ضربة ليست مألوفة، ولا تُوَجّه
كلّ يوم، بكلّ هذا الاستخفاف والاستهانة و»الطعن في الظهر» حسب وزير الخارجية
الفرنسي.
فكيف وتوقيت الضربة يأتي قبل أشهر معدودات من
انتخابات رئاسية فرنسية، بعض ما يضعف موقع الرئيس الفرنسي الحالي/ المرشح الرئاسي
إمانويل ماكرون فيها، ذلك الاتهام بأنه واقع في غرام الاتحاد الأوروبي والحلف
الأطلسي على حساب ما يتوجب عليه أن يُغرم به فرنسياً أوّلاً. وكيف إذا كان الرئيس
الأمريكي جو بايدن قد أثبت، في حكاية الغواصات هذه، أنه لا يختلف عن سلفه دونالد
ترامب إلا في قلّة استخدام منصة تويتر؛ هنا، كذلك، حسب تعبير الخارجية الفرنسية.
وكيف، ثالثاً، إذا كانت سخرية الإعلام الأمريكي من خطوة ماكرون الكاريكاتورية
المتمثلة في استدعاء السفير الفرنسي لدى واشنطن، ثمّ إعادته سريعاً بعد مكالمة مع
بايدن، لا تذكّر إلا بسخرية الإعلام ذاته من فرنسا أيام غزو العراق سنة 2003، حين
ابتدأ التهكم من الجبنة الفرنسية المتعفنة، ولم ينته عند… الغواصات العتيقة، إياها!
كل هذا بمعزل عن صحة ما تردد بصدد حبكات
بوليسية، جديرة حقاً بمخيّلة إيان فلمنغ مبتكر شخصية جيمس بوند، انطوت على تآمر
الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا لصياغة تحالف «أوكوس» في قلب اجتماعات
مجموعة السبع في كورنوال البريطانية، حزيران (يونيو) الماضي؛ ولكن بعيداً عن
الأنظار والعدسات وأسماع الحلفاء، خاصة فرنسا صاحبة العقد مع كانبيرا. وأمّا صحيفة
ّنيويورك تايمز»، القادرة على إماطة اللثام عن أسرار كواليس البيت الأبيض، فقد
أوضحت أنّ البذور الأولى لتحالف «أوكوس» لم تبدأ مع بايدن، وليس حتى مع سلفه
ترامب؛ بل كانت مشروعاً جيو – سياسياً وُضعت خطوطه الأولى العريضة في عهد الرئيس
الأمريكي الأسبق باراك أوباما. ولم تكن احتمالات الحرج الناجم عن مباغتة الحلفاء الأوروبيين
والأطلسيين بهذه الخطة، التي تضعهم على خطوط التماس، مدعاة تردد من جانب أوباما،
ولم تكن استطراداً سبباً موجباً لإدخال تعديلات تكفل إلحاق بعض الحلفاء بالركب.
ولامرئ أن يتساءل، محقاً هنا أيضاً: أكلّ هذا
خشية الخطر الصيني، أو لإحكام السيطرة على مياه المحيطين الهندي والهادئ؟ وهل عزّت
على الرئيس الأمريكي بواعث نفخ الحياة في جثة الحرب الباردة، شبه الهامدة، حتى
يشعل الشرارة من هنا، وسط الازدحام الجيو – ستراتيجي بين الصين وروسيا واليابان
والهند وتايوان والكوريتين…؟ وبعد أكثر من 500 سنة على نجاح فرناندو ماجلان في
عبور المحيط الهادئ، هل يعتزم بايدن إحلال جيمس بوند محلّ المستكشف الملاح؟
(القدس العربي)