يمنّي الكثير من النخب السياسية نفسه بأن يلتزم الرئيس قيس سعيد أجل الشهر الذي أعلنه فيعود بالبلاد إلى الوضع الدستوري الطبيعي، لكن ظهور الرئيس يوم 16 آب/ أغسطس في المطار وتصريحه بصوت عال أنه لن يتراجع عما قرره وأنه ماض قدما في مشروعه لتغيير النظام السياسي برمته؛ حدد اتجاه الفعل السياسي القادم، وقد بدأ برفض كل دعوات الحوار التي صدرت عن النقابة وعن الأحزاب السياسية.
هذا الإصرار يضع النخب الحزبية والنقابية والشخصيات الوازنة في موضع غير مريح، إذ يبقي أمامها خيارين ضيقين: إما الاستسلام لمشروع الرئيس الذي سيتبلور خارج البرلمان وضده، أو الخروج إلى الشارع وإسقاط المشروع، وبالتالي إسقاط صاحبه بقوة الشوارع المتقابلة بما في ذلك من احتمالات العنف المنفلت.
ما هي عناصر قوة الرئيس بخلاف العناد والمكابرة؟ ولماذا يظهر معارضوه خائفين ومترددين في حسم موقفهم من مشروعه؟
تردد النخب قوة للرئيس
نهاية الشهر تقترب والرئيس مصرّ، والنخب صامتة حتى الآن رغم بعض الأصوات الخجولة والمترددة. هذا هو المشهد في الأسبوع الثالث للانقلاب. المعطى المكشوف للرئيس ولفريقه المتحمس لحركته هو الاختلاف العميق بين معارضي الانقلاب، فهم في الغالب فريقان: فريق الديمقراطيين المتمسكين بمؤسسات الدولة التي ورثوها ودافعوا عنها ولم يبنوا خيالا سياسيا لدولة مختلفة. ومن هؤلاء أساتذة القانون الذين يعارضون الرئيس، وزعماء سياسيون مثل السيد نجيب الشابي والدكتور المرزوقي (الرئيس الأسبق)، ومنهم أيضا في ما يبدو من تصريحات متناثرة؛ النقابة وجمهورها المسيس، فضلا عن أحزاب صغيرة غير ذات قواعد وازنة.
والفريق الثاني هو حزب النهضة وأصدقاؤه في ائتلاف الكرامة، وهم الذين بادروا إلى رفض الانقلاب منذ الساعات الأولى.
والفريقان متفقان في رفض الانقلاب لكنهما مختلفان في سبل معارضته (حتى الآن على الأقل)، لأن اتفاقهما الإجرائي المحتمل يؤدي بالضرورة إلى إعادة توطين حزب النهضة في المشهد السياسي بعد أن غنم البعض إبعاده على يد الرئيس (وهو مكسب مهم لهذا الطيف الذي عجز بنفسه وقدر بغيره)، وأي لقاء حركي مع النهضة والائتلاف سيكون هدية سياسية للنهضة قد تنهي حديث الإقصاء إلى الأبد. ليس لهذا الطيف المتعدد شارع يخيف الرئيس، وليس لديه استعداد للاعتماد على شارع النهضة المنظم.
يعرف الرئيس هذا الخلاف ويستغله ليتقدم على ساحة مفككة، ولديه في ما يبدو يقين أنهم لن يتفقوا ضده في الشارع.
هذا الفراغ غنيمة باردة تفسر الكثير من عناده وإصراره على عدم التراجع. هكذا تقدم ابن علي بعد انقلابه، وأظن الدرس قابلا للتكرار.
النهضة لن تواجه وحدها
في الجانب الآخر من الصورة يعرف الرئيس أن حزب النهضة لن يواجهه في الشارع، فقد فضل الانسحاب خلال الشهر الجاري وفي خياله الوضع الذي حُشر فيه إخوان مصر بعد انقلاب السيسي. هذا الانسحاب لن يكون بعده رجوع إلى المواجهة لأن مذبحة رابعة معلقة فوق رأس الحزب.
وإذا كان الرئيس قد غفل عن الحزب حتى الآن أو أجّل المواجهة معه حتى يستقر له الأمر، فلا نراه يتردد في فتح جبهة مع الحزب إذا مضى في إلغاء الدستور وفرض تنظيم مؤقت للسلطات.
يعتبر حزب النهضة أن دستور 2014 منجزه ومادة فخره السياسي، وإسقاط هذا الدستور يترك الحزب في العراء السياسي. وهو مُقْدم على وضع غير حميد إذا دافع عن الدستور وواجه الرئيس وحمل كلفة المواجهة وحده (كما حصل له مع ابن علي)، وإذا تخلى عن الدستور ورضخ من خوف وخشية و"تكتيك" خسر نفسه، رغم أنه نظريا قادر على العودة إلى السلطة بالانتخاب على الأشخاص، كما قد يقترح الرئيس في مشروعه. ولكن بين الإمكان النظري والواقع مسافة سيغلقها الرئيس (فلا نراها تغيب عنه)، إذ نعتقد أن تعديل مرسوم الأحزاب سيكون من أولويات الرئيس والذريعة موروثة من عهد ابن علي: "منع تشكيل الأحزاب على أسس دينية"، فضلا على أن الرئيس أعلنها مرارا بعدم إيمانه بالأحزاب والمنظمات، وهو الأمر الذي قد ينقض غزل الرئيس أنكاثا.
تغيير شكل الدولة والتقاليد السياسية مغامرة غير محسوبة
ما سبق ذكره من خلافات النخبة مفيد حتى الآن للرئيس، ولكن احتمال رفض التغيير العميق طبقا لما أعلن من مشروع الرئيس قد يثير خوفا عميقا على التقاليد السياسية المرعية، وعلى مؤسسات الدولة التي بُذل جهد كبير في بنائها.
فإذا أضفنا إلى ذلك احتمال إلغاء الحياة الحزبية والاتجاه إلى نوع من الديمقراطية المباشرة دون مؤسسات حزبية، فإن دولة أخرى ستقوم ولن تجد فيها النخب الحزبية والنقابية مكانا (وحديث أنصار الرئيس حتى الآن يثير خوفا كبيرا، فقد حولوا كل معارض للرئيس إلى ممسحة أقدام على بابه).
لا يقدم الرئيس أية تطمينات لأي كان، وصورته التي يروج لها الإعلام (والذي ناصره بلا تحفظات إلا أصوات مستقلة ومعزولة) هي صورة محارب يخوض نزاله منفردا ضد الجميع، مستعملا أشد العبارات ضراوة ضد خصومه، مثل وصفهم بفئران مجاري وتهديدهم بالمشانق.
هل يوحد الخوف خصوم الرئيس ضده وضد مشروعه؟ لا أرجح هذا الاحتمال، فالنخبة التي طمعت في ابن علي لا تزال تدير جزءا من المشهد المترقب لمكرمات قيس سعيد، وهو يعري جبنها ويخزيها. لذلك نرى أجل الشهر يسقط والدستور يلغى والوقت الثمين يذهب سدى، ووحدها الأزمة الاقتصادية ستنهي هذا المشهد الغريب بكل مكوناته، ثم يكون حديث آخر لزمن آخر بثمن قاس لكنه بمثابة نار الغابات.
الانقلاب التونسي والمستفاد من سقوط آخر الأوهام!