في الجزء الأول من دراسته الضخمة عن الأنظمة السياسية "أصول النظام السياسي" يرى الفيلسوف الأمريكي الشهير "فرانسيس فوكوياما" الدولة العثمانية بوصفها الدولة الأكثر حداثة في القرون الوسطى، وفي تاريخ العالم الإسلامي عموماً.
تنطلق تلك النظرة من إشارة الفيلسوف الإيطالي نيقولا ميكيافيللي حين كان العثمانيون آنذاك في أوج قوتهم على وشك فتح المجر والهجوم على فيينا، حيث يقول: "المثالان على هذين النوعين المختلفين من الحكم في عصرنا هما سلطان الترك وملك فرنسا، يحكم مملكة الترك برمتها سيد واحد، والآخرون خدمه، يرسل إلى السناجق التي قسم مملكته إليها حكاماً مختلفين يغيرهم ويبدلهم كما يشاء، أما ملك فرنسا يجلس وسط حشد قديم من اللوردات الذين يحبهم رعاياهم ويعترفون بهم داخل الدول، فيتمتعون بامتيازات لا يستطيع الملك انتزاعها منهم دون تعريض نفسه للخطر، لهذا سيجد كل من يتأمل هاتين الدولتين أن من الصعب الاستيلاء على دولة الترك، لكن من السهل إلى حد بعيد حكمها والاحتفاظ بها، وعلى العكس في فرنسا".
يرى فوكوياما أن هذا التلخيص الميكيافيللي لعصره في تلك الفقرة، يقبض على جوهر الدولة العثمانية، فقد كانت أكثر دولة مركزية ولاشخصانية في أسلوب حكمها من دولة فرنسا في القرن السادس عشر، أي أنها كانت أكثر حداثة من فرنسا، لأن فوكوياما يرى أن حداثة الدول تقاس ببيروقراطيتها وثبات مؤسساتها اللاشخصاني، ودللت الأحداث التاريخية في فرنسا أنها حاولت أن تتبع النسق العثماني في فترة لاحقة من القرن السادس عشر، حين سعوا إلى إقامة نظام مركزي وإداري متسق يجرد الطبقة الأرستقراطية من امتيازاتها.
كيف تبني دولة حديثة؟
ورثت الدولة العثمانية من الدولة المملوكية نظام الرق العسكري، وقامت بتطويره لتظهره في شكله الأخير على شكل نظام حديث لا شخصاني يستطيع أن يقيم دولة بحجم وعظمة الدولة العثمانية عند بزوغ فجرها، حيث نافست كل القوى الأوروبية في ذلك الوقت، وتربعت على عرش إمبراطورية أكبر من أي كيان سياسي أقامه خليفة أو سلطان عربي، كانت أشبه بإمبراطورية الصين الأولى، حيث جمعت بين دولة مركزية قوية، ولاعبين اجتماعيين ضعاف نسبياً وغير منظمين خارج أطر الدولة، بالإضافة لتفوقها على الصين حيث كانت دولتها محددة بالقانون.
ولكن ما هو النظام الذي أدى بالدولة العثمانية لتكون بتلك الحداثة والتفوق على غيرها من الدول آنذاك؟
كانت الدولة العثمانية سلالة غزو حديثة نسبياً، لم ترث مؤسسات قديمة، وإنما شرعت في خلق مؤسسات جديدة من الصفر، قد قام نظام الإدارة الإقليمية العثماني كما تطور في القرن الخامس عشر على السباهي (الفارس) والتعويض الممنوح له أو الإقطاعة (التيمار).
اقرأ أيضا: كتاب يعيد الاعتبار لاهتمام الدولة العثمانية بالعلم وأهله
تألفت أصغر التيمارات من قرية واحدة أو عدة قرى تكفي عوائدها الضريبية لإعالة فارس مع حصانه وتجهيزاته، وكان حجم الإقطاعيات الممنوحة يكبر مع حجم الفارس فقد كانت هناك (زعامات) تعطى للموظفين متوسطي الرتبة، وتلقى كبار الموظفين والضباط إقطاعات تسمى (هاس) أي حصة، وعاش كل سباهي على أرضه وجنى الضرائب من الفلاحين المحليين، مقابل قيامه بوظائف الحكومة المحلية، كتوفير الأمن وتصريف شؤون القضاء، كنظام اللوردات الأوروبي، وكانت مسئوليته تحويل المدفوعات العينية التي يتقاضاها إلى نقد ثم إنفاقها على تجهيز نفسه وتكاليف رحلته للخطوط الأمامية في موسم الحملات العسكرية، وبهذا تمكن السلطان العثماني أن يحتفظ بجيش دائم دون الحاجة إلى زيادة العوائد الضريبية لدفع رواتب الجنود.
كان تقسيم الدولة إلى سناجق يتم حسب ظروفه المحلية وتختلف القواعد المطبقة عليه وفقاً لذلك، وبتوسع السناجق طبق نظام قواعد رسمي ومتسق على جميع الأقاليم، ولم يكن البكوات أو حكام السناجق يوظفون محلياً، بل يعينون من قبل الإدارة المركزية في إسطنبول ضمن جولات عمل تستمر كل منها ثلاث سنوات، وبذلك استطاعت الدولة العثمانية في مهدها القضاء على الفساد الميراثي الوظيفي أو المحسوبية.
الدوشيرمة
كان الإختلاف الفارق في الدولة العثمانية الإقطاعية عن الدول الأوروبية، يكمن في حقيقة أن الإقطاعات التركية على عكس نظيرتها الأوروبية، لا يمكن تحويلها إلى ممتلكات قابلة للتوريث، ولا نقلها إلى ذرية السباهي، وفي العام 1528 كان 87% من أراضي الدولة تملكه مباشرة الدولة العثمانية، ومنحت التيمارات لأصحابها حصراً طيلة حياتهم، مقابل خدمات عسكرية، يمكن نزعها عند عدم أداء تلك الخدمات، وكان أبناء السباهي يعودون إلى الحياة المدنية كمواطنين عاديين ليست لهم أية إمتيازات طبقية، أما الفلاحون العاملون في الأراضي فكان لهم حق الإنتفاح بأراضيهم، وحق نقل هذه الحقوق لأبنائهم، وهكذا خلقت الدولة العثمانية أرستقراطية جيل واحد، ومنعت ظهور أرستقراطية زراعية قومية تمتلك قاعدة موارد وامتيازات خاصة تعطيها قوة في وجه مركزية الدولة.
ظهر الرق العسكري في الدولة العثمانية كوسيلة لترسيخ دولة أكثر مركزية لاشخصانية، ولاحظ أوجيه غيزلن دي بوزييك سفير عاهل الإمبراطورية الرومانية إلى بلاط سليمان القانوني، أن غياب طبقة نبلاء وراثية أتاح للسلطان اختيار أرقائه وترقيتهم تبعاً لمقدراتهم، وأن شخصية الراعي الذي ترقى ليصبح رئيس وزراء لامع ما فتئت تسحر ألباب المراقبين الأوروبيين.
استطاع العثمانيون تطوير النظام المملوكي بالحفاظ على تمايز صارم بين المجندين في المؤسسة الحاكمة كعبيد غير مسلمين (العسكر) وبين بقية مواطني الإمبراطورية المسلمين وغير المسلمين (الرعية).
سمح لأعضاء الرعية بتأسيس أسر وبحق التملك والتوريث للذرية، وسمح لهم بتنظيم أنفسهم ضمن مجتمعات شبه مستقلة وحكم ذاتي على أساس الانتماء المذهبي المعروف بنظام (الملل).
أما طبقة العسكر فكانت تتجدد على الدوام برفدها سنوياً بمجندين مسيحيين جدد تتقطع كل روابطهم بأسرهم ليصبح ولاؤهم المطلق للسلطنة، ويربون تربية خاصة بعد هدايتهم للإسلام، وعرف ذلك النظام باسم (الدوشيرمة) وكان الغرض من منعهم من الأسرة أو الزواج هو خلق ولاء مطلق ودائم للسلطنة وعزل طبقة العسكر عن اللعب في السياسة أو الإنقلابات المتكررة في تاريخ الدول الإسلامية.
دولة قانون
لم يسع العثمانيين في أوجهم لاستخراج المعدل الأقصى من الضرائب، بل رأوا أن دورهم يكمن في الحفاظ على معدل ضريبي أساس ومحدد، وحماية الفلاحين من ابتزاز النخب الأخرى التي يرجح أن يتصرف أفرادها كجماعات جريمة منظمة.
اقرأ أيضا: قراءة في انهيار الدولة العثمانية وأسباب أفول العالم الإسلامي
كانت الحاجة للإعتدال متأصلة في صلب نظرية الدولة العثمانية، وردد العديد من الكتاب الأتراك الأوائل صدى تلك المشاعر المحتفية بالقانون ونقشوها على ما يسمى "دائرة العدل" القائمة على المقولات الثماني التالية:
"لا سلطة ملكية بلا جيش\ لا جيش بلا ثروة\ الثروة تنتجها الرعية\ الرعية يحكمها السلطان بإشاعة العدل\ العدل يقتضي الانسجام في العالم\ العالم حديقة أسوارها الدولة\ الدولة دعامتها القانون الديني\ القانون الديني لا دعم له بلا سلطة ملكية".
كانت تلك المقولات تكتب بطريقة دائرية بحيث تقود المقولة الثامنة إلى الأولى، إشارة إلى أن الشرعية الدينية (الثامنة) تدعم بالضرورة السلطة الملكية (الأولى)، وتعد دائرة العدالة تعبير استثنائي عن جدلية العلاقات الداخلية بين السلطة العسكرية والاقتصاد والعدالة والشرعية الدينية، وتشير بوضوح إلى أن الحكام الأتراك لم يروا أن أهدافهم ضيقة إلى حد استخراج الريوع الاقتصادية القصوى كما كان شائعاً في عصرهم، بل زيادة قوة الدولة الكلية إلى حدها الأقصى عبر توازن السلطة والموارد الشرعية.
إلا أن النظام العثماني كان يحمل نقطة ضعفه التي ستقوض أركانه فيما بعد في داخله، حيث أنه لم يرسخ نظاماً لتوريث البكورة وهو ما جعله فعلياً أقل استقراراً من الملكيات الأوروبية المعاصرة له، وجعل المطالبين بالخلافة يستندون بالعسكر، ما أدخل العسكر في لعبة السياسة في النهاية.