آراء ثقافية

زياد العناني.. شمس كثيرة في سماء قصيدة النثر

كان الشاعر الأردني الراحل زياد العناني بدويا يتعاطى قصيدة النثر الحديثة بوهيميا يعيش حياته بسيف الشعر..
في إحدى المناسبات الثقافية َقبل أكثر من عشرين عاما التقيت بالأستاذ زياد العناني ضمن جمع من الشعراء ضم صديقا مقربا ومحبوبا من الجميع سأله هذا الصديق.. يا زياد.. لماذا تغرق باللامبالاة ولا تكترث لصحتك وأنت ذو موهبة شعرية لا تنكر.. ماذا سيحصل لك إذا بلغت الخمسين؟ فأجاب.. بسخرية. ومن قال لك إنني أريد أن أعيش بعد الخمسين؟

وهذا ما حدث بصورة ما للأسف.. لخصت تلك العبارة العابرة للزمن ما حدث بعد ذلك ..

بعد ما يقارب العشر سنوات وفي يوم من أيام شهر آب أصيب زياد بجلطة دماغية جعلته يدخل في خزانة الأسف ولم يتجاوز بعد الخمسين عاما.  كان بارعا في تلخيص ما لا يمكن تلخيصه.. حادا وجارحا يخدش الحقيقة بأظافر من كلماته العارية اإا من المواجهة.. كان يقول لي:  الشعر حالة فرح خاصة.. لكن مراجعة نصوصه الشعرية سوف تترك في نفسك أيها القارئ حموضة حادة لهذا الفرح الخاص.

يقول :

شمسٌ حامضةٌ وصباح
ما بال الكون بلا راوٍ
ما بال الكون بلا مفتاح
يا الله
غرفة روحي خانقةٌ  ليس لها شباك
يالله
هب لي لغة تشرحني
وتفسر ما تاه
هناك.

في التسعينيات كانت قصيدة النثر في أوج مدها الثاني الذي قاده الشاعر العراقي سركون بولص وكان زياد يواصل تجريبه في هذا الفن بعد أن أصدر مجموعة شعرية من شعر التفعيلة والذي أسقطه من مشروعه الشعري فيما بعد  (إرهاصات من ناعور) سنة 1988.

سنة 2000 توج هذا التجريب والنشر بمجموعة شعرية مميزة بعنوان خزانة الأسف.. عبرت هذه المجموعة عن روح قلقة متأملة لا تعرف الراحة ولا اليقين وتنفتح على أسئلة الوجود الكبرى وتخضعها لمنطق شعري أخذ يتشكل منذ هذه المجموعة وترفده موهبة واضحة. وانزياحات مدهشة في المعاني وعنها وتجريب مستمر في شكل القصيدة.

في المجموعة الثانية في الماء دائما وأرسم الصورة أصبح زياد صوتا مميزا في قصيدة النثر في الأردن وفي الوطن العربي. اتخذ طريق القصيدة القصيرة التي لا تلتزم بالإدهاش في الغالب ولكنها تدعو للتأمل وكأنما هي التقاطة خاصة بعين الشاعر ينقلها لنا ولكنها تفتح أفاقا للتأمل والمواجهة والخروج عن المألوف، غير مبال بأي تقليد حتى أن كثيرا من قصائدة جاءت موزونة ،مما يجعلها أيضا تخرج عن مألوف قصيدة النثر، لكنها تبقى ضمن تجربة زياد الخاصة ومفرداته المميزة والتي استطاع صقلها فيما بعد بتجارب ظلت تمتد حتى سنة 2011 عندما كان يعد لإصدار ديوان جديد. ثم فاجأته جلطة دماغية فأجلت ذلك المشروع إلى 2017 حين انبرى الشاعر محمد عريقات لجمع بعض القصائد وإصدارها تحت عنوان: جهة لا بأس بعريها .

في بلدي الأردن لا يستطيع أحد أن يرهن حياته للشعر وحده لأن ذلك يعني إما الانتحار والتسول أو تملق طويل الأجل للنظام السياسي يتذبذب حسب أهواء الفترة ولا يتحصل ذلك إلا للقلة التي انقرضت.

كان بدويا يتعاطى قصيدة النثر الحديثة بوهيميا يعيش حياته بسيف الشعر.. حضوره الطاغي جعل منه قبلة للكثير من أبناء جيلي فأصبح شيخا التف حوله المريدون.. تعانق نصه مع حضوره الشعري وهذا من أفظع الأدلة على طزاجة نصه الدائمة وأبدية صدقه..

كان يردد أيضا إن الشعر ما هو إلا حالة برجوازية باذخة.. لا أدري إلى ما كان يريد أن يوصل تجربته الشعرية فقد كان يتمثل عند هذه العبارة بأحمد شوقي. لقد كان بارعا بالوصول إلى جوهر التجارب الشعرية.. المعاناة عنده ليست طاقة كامنة لتوليد الإبداع لكن الإبداع يتولد دائما من حركة المبدع الدائبة في التأمل بالكون ومحاورة الأشياء بلغة أبجديتها حياة المبدع نفسه لذلك فقد كان من الطبيعي أن تنبثق شعرية نصه من الداخل ولا تستجديها من خارجها.

زياد شاعر كبير متأمل عابث. ساخر من الأشياء ومن نفسه. ظل يحمل وشم طفولته حتى آخر عمره.. ظلت طفولته مثل زيت مرير يضيء قناديله الشعرية.. كلما صادفني تشبيه له لشيء مألوف أحس به طازجا لا يحمل إلا ملامحه السمراء البدوية..
في ديوانه شمس قليلة سنة 2006.. الذي كرس معظم نصوصة لسؤال الحرية والقمع والدولة كان يحرث أرضا جديدة ويطلق تأملاته الخاصة بهذه المواضيع التي ستظل تثير الإنسان في دول العالم الثالث.. دون أن يقع في (ماغوطية) أصبحت مستهلكة لجمهور قصيدة النثر. كان الشعر عبر كل تجاربه هو البطل الأوحد الذي يطلق أشعته القليلة على العدسة التي يرى منها فيطلق آلاف الألوان المبهرة والتي تعيد تأملنا لهذه الطاقة العجيبة المنطلقة عبر روحه الشعرية.

زياد شاعر كبير متأمل عابث. ساخر من الأشياء ومن نفسه. ظل يحمل وشم طفولته حتى آخر عمره.. ظلت طفولته مثل زيت مرير يضيء قناديله الشعرية.. كلما صادفني تشبيه له لشيء مألوف أحس به طازجا لا يحمل إلا ملامحه السمراء البدوية..

يقول راسما ملامح غيابه الأبدي:

البطولة أن تذهب من غير مقاومة
الى نومك الطويل
بعد أن تغلق الباب تماما
في وجه الخرائط والثغور