مقالات مختارة

غزة تقاوم وتفاوض: قبلة على جبين الصامدين

عبد الحميد صيام
جيتي
جيتي
علمتنا تجارب الشعوب التي ناضلت ضد الاستعمار والاحتلال والعنصرية والفاشية والاضطهاد، أن التنازلات لن تؤدي إلى رحيل الاستعمار والاحتلال الأجنبي، وأن المقاومة العنيدة والتمسك بالمبادئ والمواقف الاستراتيجية، التي لا يمكن التنازل عنها ورسم الخطوط الحمر في نهاية الأمر، هي التي ستنتصر. فمن يتنازل عن بعض حقوقه سيخسر الجزء الآخر، والعالم لا يحترم الضعيف الذي يتذلل عند أقدام الأقوياء والظلاّم وتجار الحروب والعنصريين، لكنه يحترم من يقلع عيونهم بقوته وصموده والتمسك بكرامته، ولو أن في ذلك ثمنا يدفع وتضحيات توجع وعيونا تدمع وصيحات ألم لا تسمع.

ـ لقد رفض نيلسون مانديلا من زنزانته أن يتخلى عن السلاح مقابل وعد من جلاديه بإطلاق سراحه، فرفض رفضا قاطعا قائلا: «أتساومونني على حريتي الشخصية مقابل التخلي عن حرية شعبي؟»، وبقي متمسكا بمبدأ إنهاء الأبرتهايد وكنسه للأبد من جنوب افريقيا وفعل.

– وتمسك الثوار الجزائريون بسلاحهم ومهاجمة مواقع الاستعمار الفرنسي وقطعان المستوطنين، بينما كان الوفد المفاوض في «إيفيان» يصر على الاستقلال الناجز غير المنقوص للبلاد، واستعادة هوية البلاد العربية الإسلامية، رغم الثمن الباهظ، وتم لهم ذلك بعد قناعة الرئيس ديغول بأن الحل العسكري فشل نهائيا.

– وطرح الوفد الفيتنامي خطة للتسوية مع الوفد الأمريكي أول مرة يجلسان للتفاوض في عام 1968 رفضها الوفد الأمريكي فورا، وكثف هجماته الإجرامية. وعندما عاد الوفدان للتفاوض في باريس عام 1973 طرح الوفد الفيتنامي المقترحات نفسها دون تعديل أو تغيير، فأذعن الوفد الأمريكي وتجرع الهزيمة بعد اجتياح فيتنام الشمالية للجنوب وتمزيق فكرة دولتين معترف بهما، وهرب آخر الأمريكيين من على سطح السفارة في سايغون في 30 أبريل 1975.

– وفاوض الوفد الأمريكي حركة طالبان في الدوحة لأكثر من سنة، وكان وفد طالبان يتلكأ أكثر ويشعر الأمريكيين بأنه ليس في عجلة من أمره إلى أن تم توقيع اتفاقية الانسحاب الشامل بتاريخ 29 فبراير 2020 وأعطي الأمريكان 14 شهرا للرحيل. وشاهدنا الطريقة المذلة التي انهارت فيها حكومة العملاء بقيادة أشرف عبد الغني، وهروب آخر الجنود الأمريكيين في أغسطس 2021 بطريقة مهينة ذكّرت العالم بما جرى في سايغون.

مفاوضات المقاومة الفلسطينية في غزة- نضال وصمود واتفاق مشرف، غزة المحاصرة برا وجوا وبحرا منذ عام 2007، أتقنت فنّ الصمود والقتال بيد، وزراعة الورد وبناء الجامعات والمدارس والعيادات والمؤسسات باليد الأخرى. تعرضت لظلم الجار العربي وسلطة أوسلو، التي قطعت عنها كل الموارد. كان الكيان الصهيوني يهاجم عسكريا والجار العربي يحاصر ويغلق كل المنافذ، وسلطة أوسلو تفرض العقوبات.

لقد شهدت غزة قبل الطوفان ست عمليات عسكرية، فماذا نتوقع من الجيل الذي نشأ على أصوات المدافع وأزيز الرصاص وطنين المسيرات وانفجارات القنابل؟ وأود فقط أن أذكر بما تعرض له القطاع من اجتياحات وعمليات عسكرية قبل طوفان الأقصى، الذي يصوره الغرب المنافق وكأنه بداية التاريخ:
كيف لهذه الفئة الصامدة الصابرة العظيمة تستطيع أن تبني قدراتها الذاتية سياسيا وعسكريا واجتماعيا

– عملية «غيوم الخريف» في بيت حانون في نوفمبر 2006 وعملية «الرصاص المصبوب» بين 27 ديسمبر 2008 و18 يناير 2009، وعملية «عامود السحاب» – من 14- 22 نوفمبر 2012، وعملية «الجرف الصامد» بين7 يوليو و26 أغسطس 2014، ومسيرات العودة 2018-2019 ، ومعركة «حارس الأسوار/ سيف القدس» بين 1 و21 مايو 2021.

فكيف لهذه الفئة الصامدة الصابرة العظيمة تستطيع أن تبني قدراتها الذاتية سياسيا وعسكريا واجتماعيا، وتقاتل وحدها لمدة 467 يوما في ظل تلك العزلة، واختلال موازين القوى واستخدام القوة العسكرية المفرطة، بدعم شامل للكيان من الغرب الاستعماري، خاصة الولايات المتحدة التي فتحت كامل ترسانتها العسكرية والمالية والاستخباراتية والدبلوماسية، إضافة إلى تآمر عدد من الدول العربية ومد يد العون، لا للمحاصرين، بل لمن يحاصرهم. وفي النهاية، يتفاوض الطرفان لأكثر من سنة، ويتمسك الجانب الفلسطيني بمواقفه الثابتة، وتتهاوى الأهداف الإسرائيلية الواحد بعد الآخر:

– كانوا يريدون التهجير وإفراع غزة من سكانها ففشلوا؛
– وعدوا بتحرير الرهائن بالقوة المسلحة وفشلوا في ذلك؛
– تعهدوا بهزيمة ساحقة ماحقة لحركة حماس وحركات المقاومة في غزة، وفشلوا فشلا ذريعا؛
– كانوا يريدون لقادة المقاومة أن يرفعوا الرايات البيضاء ويستبدلوا سلامتهم الشخصية بانهيار المقاومة وفشلوا؛
– حاولوا خلق روابط قرى لإدارة غزة على طريق ما جربوه في الضفة الغربية، وفشلوا وانتهت الفكرة؛
– طرحوا فكرة عودة الاستيطان إلى غزة وكان سموتريتش وبن غفير يعدان جماعات تابعة لهم لهذا الهدف وفشلوا، وستبقى غزة خالية من المستوطنين؛

– طرح خيار الاحتلال الدائم لغزة، كما هو الحال في الضفة، لكنهم يعرفون أن الاحتلال سيكون مكلفا وسيستنزفون قواته إلى أن يجبروه على الهروب كما هرب عام 2005،
– طرحت فكرة إقامة حكم دولي يشرف عليه الناتو وقوات غربية مدعومة بوجود عربي وفشلت هذه الفكرة. كما أن فكرة إدارة غزة من قبل أنظمة عربية انتهت إلى سلة المهملات.
أصبحت قضية فلسطين بوصلة عالمية لكل المناضلين والباحثين عن العدالة الدولية

ستقوم لجنة الإسناد الفلسطينية بإدارة القطاع مؤقتا، لعل وحدة وطنية حقيقية تخلو من المطبعين والمنسقين الأمنيين، تقوم لإدارة القطاع ودمجه في الضفة الغربية والقدس ليس من أجل التنسيق الأمني، بل من أجل تصليب الموقف الفلسطيني المستند إلى بحر من التضحيات واستمرار العمل من أجل كنس الاحتلال. لقد وقف نتنياهو يتبجح بكل عنجهية في قاعة الجمعية العامة يوم 22 سبتمبر 2023 قبل طوفان الأقصى بأيام، وعرض على المجتمع الدولي خريطة إسرائيل الجديدة، التي ألغت أي وجود لفلسطين. لكن الأمور تغيرت كثيرا.


لقد أصبحت قضية فلسطين بوصلة عالمية لكل المناضلين والباحثين عن العدالة الدولية وأتباع الحق ورفض الظلم. فلسطين أصبحت صرخة ملايين البشر من كل الأجناس واللغات والأعراق والقارات والشعوب والتجمعات. فلسطين على جداول أعمال كل المنظمات الدولية، خاصة محكمة العدل الدولية التي ستصدر فتواها في ما جرى في غزة أهو حرب إبادة أم لا؟ وقد انضمت إلى جنوب افريقيا في دعواها كل من، كوبا وتركيا وإسبانيا والمكسيك ونيكاراغوا وكولمبيا وليبيا وإيرلندا، بل إن إيرلندا أغلقت سفارة إسرائيل فيها وهذه خطوة تمنينا لو أن الدول العربية المطبعة قامت على الأقل بإغلاق ولو مؤقت لسفارات الكيان.

أما المحكمة الجنائية الدولية فقد أصدرت مذكرات اعتقال لمجرمي الحرب الأكثر خطورة في الكيان، نتنياهو وغالانت، وسيتبع ذلك أسماء أخرى. وقد تعهدت معظم الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي للمحكمة أن يعتقلوا مجرمي الحرب الإسرائيليين لو مروا من بلادهم.

صحيح أن هناك دمارا واسعا وآلاف الضحايا وستتطلب من الشعب الفلسطيني والأطراف الداعمة سنوات للإعمار. لكن التحول السياسي نحو وحدة طنية حقيقية بعد غربلة القوى السياسية قد تكون نقطة الانطلاق لإعادة بناء وتصليب منظمة التحرير الفلسطينية القائمة على وحدة الشعب والأرض والقضية، والعمل على تحقيق برنامج الاستقلال الوطني في دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشريف. قريبا سيعود آلاف الأسرى إلى أهاليهم وذويهم.

قريبا يعود المهجرون لتفقد أماكن ذكرياتهم، قريبا ستدخل مئات الشاحنات المحملة بالمساعدات، حيث عجز رؤساء 57 دولة عربية وإسلامية عن إدخال قارورة ماء لغزة المحاصرة، لكن صمود المقاومة هو الذي فرض هذه التغييرات. قريبا ستشهد غزة راحة المحارب وتمسح عن جبينها غبار القنابل العنقودية. سينام الأطفال أو من تبقى منهم دون صوت الزنانة. تحية للشعب العنيد في قطاع غزة. تحية للشهداء والجرحى والأسرى.

تحية للمفاوضين الذين ظلوا قابضين على الجمر ولم ينجروا لتجريح الانهزاميين.
إنها القاعدة الذهبية: المقاتل العنيد هو المفاوض العنيد، وما نراه بعيوننا الآن مقارنة مع تنازلات أوسلو التي شكلت النكبة الثانية واضح..واضح

القدس العربي
التعليقات (0)