قضايا وآراء

واشنطن وفلسطين.. وسياسة إطفاء الحرائق

1300x600
حاولت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب شطب القضية الفلسطينية عبر صفقة القرن؛ التي جاءت بمعايير سياسية وأمنية إسرائيلية أحالت التصور المستقبلي للصراع وفكرة حل الدولتين إلى مجرد حكم ذاتي تحت السيادة الإسرائيلية، ولكن الرفض الفلسطيني أسقط الصفقة وغابت عن المشهد بخروج ترامب من البيت الأبيض.

مع استلام جو بايدن الرئاسة، عمل على تأخير الاهتمام بالقضية الفلسطينية حرصا منه على التخفّف من قضايا الشرق الأوسط الشائكة والمعقّدة، واعتقادا بأن فلسطين أصبحت قضية شبه غائبة حتى عن رادار الدول العربية بعد تقدم مسار التطبيع، وذلك لصالح الاهتمام بمعالجة ملفات حساسة كالصعود الصيني، وروسيا، والملف النووي الإيراني، وملفات البيئة وحقوق الإنسان في العالم، لا سيّما وأن للرئيس بايدن شخصيا تجربة سلبية مع بنيامين نتانياهو عندما كان نائبا للرئيس باراك أوباما؛ الذي آثر بدوره إنهاء الرعاية الأمريكية لمسار التسوية السياسية المتوقّف منذ ذلك الحين في العام 2014، نتيجة تعنّت بنيامين نتنياهو ورفضه الاستجابة للرئيس أوباما ونائبه بايدن بوقف أو تجميد الاستيطان في القدس؛ التزاما باستحقاقات اتفاقيات أوسلو، وكمدخل لتنشيط العملية السياسية المتعثّرة.

التصعيد الصهيوني الأخير ضد الفلسطينيين العُزّل في القدس وتوسّع دائرة الاشتباك مع المقاومة في غزة، وعموم الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والمدن الفلسطينية المحتلة عام 1948، وشيوع حالة الاستنكار  والإدانة عالميا لجرائم الاحتلال العنصري ضد المدنيين الفلسطينيين، خاصة داخل الحزب الديمقراطي (حزب الرئيس بايدن) ولدى الرأي العام الأمريكي الذي عبّر عن غضبه بقوة في شوارع نيويورك وواشنطن، ومن ثم بروز حالة من الإرباك السياسي والأمني والعسكري لدى قيادة الكيان الإسرائيلي، كل ذلك استدعى تدخّل الرئيس جو بايدن شخصيا لوقف العدوان والسلوك الإسرائيلي المستفز باتصالات متعددة، استدعت الفظاظة والحدة في أحد المكالمات مع بنيامين نتنياهو لوقف القصف الإسرائيلي وقتل المدنيين والأطفال في غزة.
محاولة أمريكية لإنقاذ الاحتلال الإسرائيلي من نفسه، ومن الغرق في غطرسته وتطرفه وجنوحه نحو القوة المفرطة والعشوائية التي أثارت العالم ضده، والتي لو استمرّت كان يمكن أن تُخْرج المشهد عن السيطرة

بناء عليه، جاءت زيارة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن على عجل وبغير تخطيط مسبق إلى المنطقة؛ لتثبيت وقف إطلاق النار الذي رعته مصر وقطر والأمم المتحدة، في محاولة أمريكية لإنقاذ الاحتلال الإسرائيلي من نفسه، ومن الغرق في غطرسته وتطرفه وجنوحه نحو القوة المفرطة والعشوائية التي أثارت العالم ضده، والتي لو استمرّت كان يمكن أن تُخْرج المشهد عن السيطرة، خاصة بعد اندفاع الجماهير في الأردن نحو الحدود مع فلسطين، وإطلاق جهات فلسطينية - حسب الرواية الإعلامية للدولة اللبنانية - العديد من الرشقات الصاروخية من لبنان، في وقت فقد فيه الاحتلال زمام المبادرة.

إضافة لذلك، فقد حرصت واشنطن من خلال جهودها الدبلوماسية على حماية سمعتها وهيبتها عالميا، عبر الإسراع بوقف الاشتباك حماية لأمن إسرائيل بكونها قاعدة أمريكية متقدمة، ومن ثم وقف ارتكابها مزيدا من جرائم الحرب بأسلحة أمريكية، استفزّت المشرّعين الأمريكيين الذين يرفعون لواء الدفاع عن حقوق الإنسان.

على المقلب الآخر، يبدو أن واشنطن تسعى لتغيير طريقة التعامل مع قطاع غزة والمقاومة الفلسطينية، بعد أن فشلت خطط الاحتلال على مدار خمسة عشرة عاما من الحصار في النيل من المقاومة أو بإثارة الرأي العام الفلسطيني ضدها، رغم الآثار الكارثية التي خلّفها الاحتلال في اعتداءاته المتكررة على غزة في الأعوام  2008، و2012، و2014.

في هذا السياق، تبدو المقاربة الأمريكية الجديدة ستعتمد على تخفيف الحصار وإعادة الإعمار، عبر القاهرة والسلطة الفلسطينية في رام الله، الأكثر إيمانا بمسار التسوية السياسية مع الاحتلال بعيدا عن لغة القوة وثقافة المقاومة. ومُراد ذلك؛ إحداث اختراق في وعي الحاضنة الجماهيرية في غزة، عبر الزعم بأن المقاومة تجلب الخراب والدمار، وبأن من يؤمن بالمفاوضات والمفاوضات حصرا، يجلب الإعمار والكهرباء والماء والعلاج وحرية الانتقال والسفر، لعزل المقاومة شعبيا وتعويم السلطة الفلسطينية بدعم أمريكي ورعاية مصرية معنية بإنقاذ فريق أوسلو كعنوان رسمي للفلسطينيين، عقب سقوطه المريع في أعين الفلسطينيين في الأحداث الأخيرة. هذا ناهيك عن استخدام إعمار غزة كمدخل لابتزاز المقاومة ودفعها نحو مقاربة سياسية، عبر التقارب مع فريق أوسلو استنادا للقرارات الدولية وشروط الرباعية الدولية (الاعتراف بالاحتلال، وباتفاقيات أوسلو، وبنبذ "الإرهاب"/ المقاومة)، مقابل رفع اسمها عن لوائح الإرهاب وإدماجها في العملية السياسية.
الدور الأمريكي الحالي، لا يعدو أكثر من محاولة لخلق مقاربة تكتيكية جديدة لحرمان الفلسطينيين والمقاومة من أكبر إنجاز حازت عليه الأخيرة؛ بتعزيز موقعها دفاعاً عن القدس والقضايا الوطنية الكبرى، الذي يؤهلها لقيادة الشعب الفلسطيني نحو التحرير والعودة

الدور الأمريكي الحالي، لا يعدو أكثر من محاولة لخلق مقاربة تكتيكية جديدة لحرمان الفلسطينيين والمقاومة من أكبر إنجاز حازت عليه الأخيرة؛ بتعزيز موقعها دفاعا عن القدس والقضايا الوطنية الكبرى، الذي يؤهلها لقيادة الشعب الفلسطيني نحو التحرير والعودة، وهذا ما لا تريده واشنطن وبعض العواصم العربية.

واشنطن في الأفق المنظور ستعمل وفق سياسة إطفاء الحرائق والاستثمار في ابتزاز المقاومة، غير معنية بتفعيل مسار التسوية السياسية والبحث عن حلول للصراع، الأمر الذي عبّر عنه وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في أثناء زيارته للمنطقة، بقوله: لم يحن الوقت للحديث عن حل الدولتين؛ لأن إدارته تدرك بأن معطيات انطلاق المفاوضات نحو النجاح غير متوفرة، لأسباب، أهمها: جنوح الاحتلال الإسرائيلي نحو اليمين واليمين المتطرف الذي يرفض حل الدولتين، والانسحاب من القدس، وتفكيك المستوطنات في الضفة الغربية، ما يعني إمكانية عودة الصدام مجددا، في أقرب فرصة.