وضعت الحرب على قطاع
غزة أوزارها، وبدأ التقييم وظهرت حسابات الربح والخسارة، وطفت على السطح انتقادات متوالية لمن أدار المشهد، كما كان عليه الحال في الحروب الماضية التي شنها الاحتلال على القطاع. لكن أكثر ما لفت انتباهي هو التعاطف الشعبي الجارف الذي حظيت به القضية
الفلسطينية محليا ودوليا، وإعادتها إلى واجهة الأحداث مرة أخرى، بعدما توارات خلف النكبات التي تعرضت لها دول الربيع العربي، وهو ما لم يرق لمن تعودوا الاصطياد في الماء العكر، وتشويه صورة المقاومة، من أجل تبرير انبطاحهم وشرعنة تطبيعهم.
وكان الهجوم الشديد الذي تعرض له السيد إسماعيل
هنية من أبرز تجليات المشهد خلال الأيام الماضية، وقامت الدنيا ولم تقعد لمجرد شكره
إيران على دعمها للفصائل الفلسطينية. ولا أدري هل كان يتعين على الرجل الإشادة بمن أحكم الحصار على قومه وشوه صورتهم إقليميا ودوليا، ولم يبال بالوفاء بالتزاماته الأخلاقية نحوهم، أو حتى دفع حصته من الأموال التي أقرتها الجامعة العربية لإغاثة أهل فلسطين.
لاحظت أن أغلب منتقدي الرجل يمثلون تيارا من أبناء المدرسة السلفية تدعمه السعودية، ويتحركون وفقا لمقتضى الحال في المملكة، وما يصدر عنها من تصريحات أو حتى إشارات ضمنية، وهؤلاء ينقسمون إلى فريقين، أحدهما يتحرك بعاطفة دينية دون حسابات سياسة، والآخر عبارة عن طائفة من المتحزبين وأصحاب المصالح، وضيقي الأفق، الذين لا يرون صوابا قد يصدر عن مختلف في الرأي.
مما لا شك فيه أن إيران لها مشروعها الخاص في المنطقة، الذي يتحرك بالتوازي مع مشروع تركي، وآخر لدولة الاحتلال، وهي حقيقة لا يختلف عليها اثنان؛ لكن في المقابل ماذا فعل دعاة السلفية الجامية إزاء هذا المشروع؟ وهل بشر هؤلاء بمشروع سني كبير يضم الدول العربية لينافس المشروع الشيعي الإيراني؟
على عكس ذلك تماما، حاربت السعودية - العدو الافتراضي لإيران الشيعية - الإخوان المسلمين، أكبر جماعة سنية في العالم، وبذلت الغالي والنفيس للقضاء عليها، وفي سبيل ذلك لم تبال بسقوط صنعاء في يد الحوثيين، أملا في التخلص من حزب الإصلاح اليمني، لتفقد عمقها الاستراتيجي، بعدما أضحت حديقتها الخلفية مرتعا لإيران تعبث بها كما تشاء.
هذه النظرة الضيقة للإخوان كمنافس محتمل يهدد عروش الأنظمة الخليجية، والتي تولى كبرها حكام الإمارات، ورطت السعودية في دعم انقلاب مصر، وأدخلتها في مستنقع اليمن الذي لم تستطع الفكاك منه حتى الآن، لتشكل مع الإمارات محورا معاديا لتحرر الشعوب العربية؛ بعدما أصبح المنافس السياسي المحتمل أشد وطأة على حكام الخليج من إيران ومشروعها، حتى تغيرت قائمة الأولويات لديهم، وأضحى القضاء على الإخوان المسلمين على رأس تلك القائمة المختلة.
المرونة التي أظهرها هنية، وقراءته السليمة للمشهد؛ ربما كانت السبب الرئيس الذي أزعج حكام الخليج الغارقين حتى آذانهم في وحل التطبيع دون أي مقابل، سوى محاولاتهم البائسة لتثبيت عروشهم بعيدا عن الحاضنة الشعبية، التي تمثل حجر الزاوية في إدارة الصراع، وتعطي المشروعية لمن يحمل هم القضية داخل فلسطين وخارجها.
لست بحاجة إلى تأكيد المؤكد؛ فالسياسة بطبيعة الحال لا تعرف الأبيض والأسود، ولذلك تتغير المواقف من الدول والهيئات والحركات بديناميكية متسارعة تتناسب طرديا مع المعطيات الجديدة والمستجدات على أرض الواقع، وهذا ما لم تدركه بعض الأنظمة العربية، أو بالأحرى ما لا تريد قبوله. فعلى سبيل المثال أمريكا التي ترسم خارطة طريق معظم الأنظمة العربية وتحدد مسارات سياساتها الخارجية، لم تمانع في الجلوس على طاولة مفاوضات واحدة مع حركة طالبان، بعد سنوات من الحرب في أفغانستان. وهذه البراجماتية الشديدة التي تغلب المصلحة الداخلية من أهم العوامل التي تساعد أمريكا على تعديل وجهتها دائما إلى المسار الصحيح، وتجعل منها قوة عظمى.
لم يعد الحديث إذن عن وحدة المصير يجدي نفعا في ظل التغيرات المتسارعة في توازنات القوى الإقليمية بالمنطقة، ولم تعد دغدغة المشاعر بأغاني القومية العربية تؤتي أكلها أو ينبني عليها عمل نافع، وهذا ما أدركه من يديرون المشهد في غزة والداخل الفلسطيني؛ فاحتفظوا بعلاقات متوازنة مع الجميع، وأعطوا نوعا من التقدير المعنوي لداعميهم. وهي سياسة ينتهجها دائما من لديه بعد نظر وتقدير للأمور؛ فالرسول الكريم لم يكن يستند إلى سابق فضل أو يعول على دعم لاحق عندما قال "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، وهي جملة بسيطة حملت في طياتها ذكرا أراح قلبا محبا للفخر، وخلص نفسا من شوائبها العالقة، ولم يشكل ضررا يذكر على الدولة أو مواطنيها.
هذه السياسة التي تعتمد على الموازنات وفقه المآلات غابت عن حكام دول النفط، التي ناصبت العداء لكل من يحمل فكرا مغايرا، فلم تتمكن من إقامة مشروع خاص بها، ولم تستطع تحجيم المشروع الإيراني الشيعي، أو حتى الدخول في شراكة مع المشروع التركي لتكوين حلف سني قادر على مجابهة المشروع الإيراني، لتبقى محصورة دائما في خانة ردة الفعل، مكتفية بإلقاء اللوم على من يناور ويستخدم إمكاناته المتاحة، ويجيد التحرك في مساحة الممكن لخدمة قضيته.