قضايا وآراء

في الرد على أن صواريخ المقاومة هي الملومة

1300x600
1) كلما تجددت المواجهة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الصهيوني، يعود خطاب توجيه اللوم والإدانة، لأي شكل من أشكال العنف الصادر من طرف فلسطيني. يصدر هذا الخطاب عن العدو الصهيوني، ورعاة مشروعه الاستعماري، وهذا مفهوم ومتوقع. كذلك يصدر مثل هذا الكلام عن القوى الإقليمية المتماهية مع الكيان، من خلال تصريحات المسؤولين فيها، ومخرجات منابرها الإعلامية، والذباب الإلكتروني المفرغ على كشوف رواتبها. وبعض المسؤولين في هذه الدول "يطالب جميع الأطراف بضبط النفس".

2) وحتى بالنسبة لكثيرين ممن يسوؤهم منظر الدم الفلسطيني المراق - بعض أنصار القضية الفلسطينية في الدوائر الدولية - فإن ديباجة لوم "صواريخ حماس" أو "العنف من الطرفين" لازمة في كل موقف يصدرونه مناصرة لفلسطين. دوافع هؤلاء في هذا المضمار متعددة، فهناك من يعتبر أن التسوية بين العنف الفلسطيني والعنف "الإسرائيلي" مدخل جيد للمناورة السياسية.

هناك منظمات إسلامية في الغرب ذات نفوذ يتجاوز "القردين وحارس" بقليل، وتسقف الحق الفلسطيني بحدود 67 قبل "أن تقول مرحبا"؛ كأن الكونغرس يقف على أطراف أصابعه لمعرفة موقفها التفاوضي، وهناك من أنصار فلسطين الدوليين من مبلغ علمه - بل قل جهله - بالقضية الفلسطينية وتاريخها وحاضرها يقوده لمثل هذه التسوية، بين عنف الفلسطينيين وعنف "إسرائيل". وهناك طبعا الانتهازي المراوغ الذي يريد أن يأكل الكعكة ويحتفظ بها في نفس الوقت؛ يريد الحديث باسم فلسطين، وما يحققه هذا الحديث من نفوذ في الوسط العربي والإسلامي، ويريد المحافظة في الوقت نفسه على صفة "الاعتدال".

الدمغة الاعتدالية هذه ضرورية بطبيعة الحال للاستكتاب، والظهور الإعلامي في المنابر الغربية التي تدفع بسخاء، وضرورية لتشبيك العلاقات في الوسط "المهني" – مهنة الاشتغال في الغرب في قضايا فلسطين والدين والإرهاب والعالم الإسلامي، والجنوب الفقير ومهاجريه. موقف "متوازن" كهذا - كما تسول للفاعلين أنفسهم – ثمن مقبول لحضور مؤتمر حوار أديان في جامعة مرموقة، أو حضور إفطار رمضاني فلكلوري في البيت الأبيض.

3) لكن مع بلوغ القلوب الحناجر، واشتداد وحشية الكيان الصهيوني في استهدافه الأطفال والنساء والمدنيين العزل في جولة من جولات المواجهة المتجددة، تبدأ وساوس النفس بالتسلل حتى لبعض جمهور فلسطين الأصيل، المحب لها حبا واعيا قائما على إدراك عميق. هذا الجمهور الذي لا يشك من حيث المبدأ في عدم مشروعية الكيان الصهيوني وكل ما يصدر عنه؛ يبدأ فريق فيه بالتساؤل، عما إذا كان اللحم البشري الممزق، والعظام المسحوقة تحت البيوت المهدمة، ثمنا مقبولا لتوجيه ضربة عسكرية ما للعدو.

4) فهل صواريخ المقاومة ملومة حقا؟ وهل لو ترك القطا الصهيوني ليلا لنام، وطال عمر الشهداء؟

5) في غزة، وحتى بداية المعركة الحالية، مرت سبع سنوات على آخر جولة قتال رئيسية بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني. كانت السنين السبع عجافا، ولم يرفع الحصار عن القطاع. وسواء حاول أصدقاء فلسطين رفع هذا الحصار وفشلوا، أو شغلتهم مشاكلهم وأولوياتهم عن القبض على الملف الفلسطيني بقوة والسعي الجدي لكسر الحصار، فإن المواطن الغزي بقي يجوع ويحترف الفاقة والحاجة والانتظار، تحت رحمة الكيان الصهيوني، ودون أمل يلوح في الأفق.

6) في العام 2019 لجأت غزة لحيلة إبداعية في المقاومة السلمية، هي مسيرات العودة. كانت تلك المسيرات نشاطا جماهيريا خاليا تماما من العنف من الجانب الفلسطيني، وكوفئ اللاعنف الفلسطيني وقتها بقتل وحشي لأكثر من 300 فلسطيني – بمن فيهم أطفال وأفراد طواقم طبية - وإصابة نحو 8000 بالرصاص الحي، مع حمولة ثقيلة من الإعاقات الدائمة. تم كل ذلك تقريبا دون إراقة قطرة دم صهيونية واحدة.. صحيح غرد وكتب أنصار فلسطين الصادقون والمناورون والانتهازيون تعاطفا مع الضحايا، لكن لم يكافئ أحد غزة على تحليها بالصبر، وتجملها باللاعنف.. استمر الحصار والقهر ولم يتغير شيء.

7) في العام 2021، وعلى مستوى فلسطين المحتلة عام 67، قدمت حماس تنازلات مرة لصالح فريق السلطة الفلسطينية، وقبلت دخول الانتخابات، وأخذت حماس مشروع الانتخابات هذا سياسيا وإعلاميا على محمل الجد، لدرجة أن البعض رأى في مسعى حماس تحللا ضمنيا من عبء القضية الفلسطينية، واستسلاما لانسداد الأفق والطريق أمام القضية. بل ذهبت أصوات فلسطينية مقدرة، إلى حد التصريح باتهام القيادة السياسية لحماس بتبني نهج قيادة السلطة في التعاون مع المحتل.

وخلص "جوزيف مسعد" في مقاله المنشور في موقع عربي 21 بتاريخ 25 شباط/ فبراير إلى القول بأن "أي شكل من أشكال "الوحدة الوطنية" بين حماس وفتح في ظل هذه الظروف لن يكون إلا وحدة التعاون مع العدو والمحتل الإسرائيلي. وإذا كان الأمر كذلك، فإن شرخا رئيسا سينشأ قريبا بين القيادة السياسية لحركة حماس وقيادتها العسكرية المستقلة: حيث ستنضم الأولى إلى صفوف المتعاونين بينما ستظل الأخيرة، التي لم تدعم الجهود المبذولة لـ"الوحدة" مع المتعاونين، من المقاومين الصامدين ضد جهود إسرائيل المتواصلة لإلغاء كافة الحقوق الوطنية والسياسية للشعب الفلسطيني." أي أن قيادة حماس كانت من المرونة بمكان، بحيث أنها اقتربت من السير على خطى السادات - وفق منظور أحد أبرز أساتذة السياسة الفلسطينيين والعرب. فكيف كافأ "المجتمع الدولي" هذه المرونة؟ أقدمت السلطة الفلسطينية، من موقعها كأداة من أدوات الاحتلال، على الغاء الانتخابات، تجنبا لخسارة مرجحة. كل الذرائع والحجج والتحليلات خلف هذا الإلغاء لا تهم، والذي بقي واستقر من مشروع الانتخابات أن إرادة الشعب الفلسطيني بكل فصائله وقواه لا قيمة لها حين يشعر المحتل بشيء من القلق إزاء توجهات هذه الإرادة. والعالم مع الكيان لا يكترث لدوس إرادة الفلسطينيين "المسالمين".

8) سيقول البعض إن "عسكرة" النضال الجماهيري في الأقصى والشيخ جراح فوتت الفرصة على إظهار وجه شعبي للمقاومة الفلسطينية، و"خطف" قرار المواجهة من الجمهور. لكن يفشل هذا البعض في منحنا ولو فرصة واحدة، للنظر للبلورة السحرية التي رأوا من خلالها حي الشيخ جراح في المستقبل، وقد نجا من غول الاستيطان، فقط بفضل المظاهرات والاعتصامات. ويفشلون في الإقرار بأن المبادرة العسكرية من المقاومة ألغت لأول مرة مسيرة إحياء ذكرى احتلال القدس، وهذا منجز ملموس لم نحتج للبلورة السحرية لمعاينته لأنه وقع فعلا. وطبعا، لا يرى هذا البعض التناقض بين حساسياته الفائقة تجاه دور الجمهور، وبين تجاهله لهتاف عين هذا الجمهور للمقاومة، مناديا عليها لتتدخل.

9) لكن لندع الضفة وغزة والقدس جانبا ولندرس تجربة فريق فلسطيني آخر؛ وأعني هنا أبناء شعبنا داخل فلسطين المحتلة عام 48.. هل استفاد هؤلاء من اجتناب المبادرة بالعنف؟ هؤلاء الفلسطينيون هم قانونيا وسياسيا "مواطنون" في "دولة إسرائيل" (لا يمكن استعمال عدد كاف من علامات التنصيص حول هذه المفردات) وهم بالكاد عبروا عن شعورهم بالتضامن مع إخوانهم في فلسطين المحتلة عام 67 - من جهة أنهم ضحايا للممارسات الاستيطانية الإحلالية ذاتها - وعن رفضهم بالرأي والكلمة للتهديد الذي تتعرض له مقدساتهم. لم يكن في صندوق أدوات هؤلاء أية صواريخ أو أنفاق أو ضفادع بشرية، فهل أغنى اللاعنف عنهم شيئا؟ يعيش هؤلاء "المواطنون" الآن أجواء رعب واستهداف من جيش النظام الصهيوني وشرطته، وقطعان مليشيات إجرامية انفلتت في أحيائهم مثل الوحوش المسعورة. جرى خطف واعتقال المئات الذين يتعرضون للضرب المبرح والتعذيب في مراكز الشرطة، وأحرقت المساجد والمحال والبيوت، وشاهدنا بثا حيا لسحل شاب فلسطيني، وحرق أطفال بين جدران منزلهم. إما أن الشاب والأطفال نجحوا في إخفاء بطاريات الصواريخ الخاصة بهم قبل أن يبدأ التنكيل بهم، أو أنهم على الأرجح لا يملكون أية ترسانات صاروخية. ومع ذلك، تناوشتهم جموع الصهاينة، المستقوين كعادتهم على المدنيين العزل.

10) إذن، لجأ الفلسطينيون من البحر إلى النهر للمقاومة السلمية، والعمل الجماهيري، وأدوات لا عنفية شتى ولم يرض القاتل. تخلى بعضهم عن فلسطين ووحدة التراب وحقوق الشعب الفلسطيني، ولم يرض القاتل. يتفضل المحتل أحيانا بالحفاظ على مستوى القهر (استمرار احتلال الضفة واستمرار حصار غزة واستمرار التمييز ضد العرب داخل الخط الأخضر) ويطلب مقابلا سخيا تجاه "اعتداله" هذا. قبل الفلسطينيون بحل الدولتين والانتخابات تحت الاحتلال وحل الدولة الواحدة - مع الإقرار الضمني بأنهم سيكونون في قاع سفينة هذه الدولة - لكن الغاصب لا يريد. أحد الفلسطينيين أطلق مؤخرا مقترحا لإقامة كونفدرالية فلسطينية- "إسرائيلية". لا تدري هل هو طول الأمل، أو "الزهق" أو لعله الإحباط الذي يقود لانتاج أفكار تولد ميتة كهذه؟

11) إن غزة، بل فلسطين كلها، رهينة محتجزة على يد أبشع ما اجترحته البشرية من عناصر إجرامية. قلما تجد عصابة احتجاز رهائن مثل العصابة الصهيونية؛ تجمع الطمع المادي البدائي للسرقة والغصب والاستحواذ، مع التعطش الدائم للدماء، مع التأصيل الديني والتاريخي المدعى، لمشروعية مسلسل جرائمها المستمر. وكمثل كل عمليات احتجاز الرهائن، يتقاطر خبراء إدارة أزمات احتجاز الرهائن، لمعالجة هذه القضية. لكن ويا للعجب، يركز هؤلاء جهودهم للحديث مع الضحية، ولومها، وحثها على تقديم مبادرات الطمأنة، ويبذلون جهدا فائقا في عدم المس بقدرة المجرم على إدارة جريمته، أو تدبير حلقات جديدة من عدوان قادم.

12) إن لوم صواريخ المقاومة، وتحميلها المسؤولية عن الإجرام الصهيوني هو فعل يفتقر للعقلانية والمصداقية، ويفتقر للأخلاق. هو فعل غير عقلاني، لأن اللائمين يعجزون عن إظهار فاعلية "بوليصة التأمين باللاعنف" في حفظ دماء الفلسطينيين واسترداد حقوقهم المشروعة. وهو فعل لا أخلاقي، لأن الأخذ على يد الضعيف جبن وخسة ونذالة، خصوصا حين تصدر دعوات اللاعنف من نشطاء آمنين في سربهم، ويقيمون في دول تمتلك ترسانات تكفي لتدمير الأرض والقمر معا.

13) حتى الساعة، قرأت لعرب وفلسطينيين كثر نصوصا فائقة الجمال - شكلا وموضوعا - في مديح الصواريخ الفلسطينية وأثرها السياسي والعسكري والاجتماعي والثقافي في صقل وعينا وشخصيتها. وأنصح القراء بمتابعة ما يكتبه في هذا المضمار ساري عرابي وعوني الجيوسي وهاني عواد، وآخرون كثر في مقالاتهم ومنشوراتهم في وسائل الاتصال الاجتماعي. فعيوننا بحاجة لأن تغتسل بهذه النصوص من وسخ الكلام الناقص، لمدرسة أولاد "الآل" وأشياعهم.

لكن هل يحتاج الفلسطيني لأن يتعلم كيف ينظر لصواريخ المقاومة؟ هل حقا يحتاج المرء لمقولات موجزة أو مسهبة في مديح التنفس وأثر الأكسجين على الدماع والعضلات؟ إن العمل الدؤوب لجسر الهوة في ميزان القوى هو طريقنا الشرعي والوحيد لتحرير فلسطين. هذه بديهية، وليس على المقاومة أو الشعب الفلسطيني الاعتذار عنها أو الخجل بها. لا حاجة لشرح أهمية ذلك - من موقع المبرر المتوتر - أمام أخ عربي مسلم اختلطت عليه الأمور، أو آخر يبحث عن دور في واشنطن أو لندن، أو أمام صديق دولي يصر على أن يرى قضية الفلسطينيين من منظور قضية النضال الأيرلندي، أو نضال السود في أمريكا.

لا يجوز ترك أجندة وخطاب الشعب الفلسطيني رهنا بجهل أو انتهازية أحد في هذا العالم. وكما قال عزوني (من أهالي عزون) يتفحص موقع سقوط أول صاروخ للمقاومة قريبا من قريته: "شموا يا شباب، هذه (الحفرة) فيها رائحة غزة".
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع