استطاع
الفلسطينيون في
القدس الاحتفاظ بتجديد همتهم العالية في التصدي لغطرسة الاحتلال وعدوانه على أحياء المدينة العربية ضد الاستيطان والاقتلاع، وذلك بفضل الثبات على إرادة مقدسية وفلسطينية.
والتفاف الشارع الفلسطيني حول نفسه شدّ من أزر شوارع عربية جددت انتماءها لقضيتها المركزية، رغم القمع والتزوير المزدوج الذي يمارسه الاحتلال مع أنظمة عربية مستبدة ومتصهينة لم تتعد بياناتها المنددة بالعدوان عتبة الخجل الدارج في صياغة خطاب المطالبة "بوقف التصعيد" بجمل غائمة ومخدرة. إلا أن المقدسيين نجحوا بقرع جرس المخاطر مجددا، وبرهنوا على أن حصارهم بالخذلان والتآمر ومحاولة استنقاعهم في عصر التصهين بأكاذيب صهيونية (تخليهم عن حقهم وأرضهم) لا تعدو أكثر من تلفيقٍ وتزويرٍ؛ تعرى مجدداً في باحات المسجد الأقصى وأحياء باب العمود والشيخ جراح وبقية المناطق في فلسطين التاريخية التي استطاعت شحذ همم عربية من المحيط إلى الخليج.
استنهاض إرادة عربية، تقوم على وحدة وجماعية الطموح بالتخلص من الاحتلال والاستبداد، عبرت عنها مشاهد الاشتباك مع الاحتلال في القدس وفي المساحة التي يمارس فيها الفلسطيني حريته الحقيقية بقرار التصدي البطولي لسياسة الاقتلاع والتهجير، كتعبير عن إرادة لن تنكسر ورغبة لن تنقطع بالدفاع عن الأرض والمقدسات. وما انكسر وانقطع هو المحصور بقرار أنظمة عربية تنظر "ببالغ القلق" لما يجري في القدس ولصمود أصحاب الأرض ومقاومتهم ورباطهم، لأنها وسائل تكشف عن عجز وتخاذل وتآمر رسمي عربي ضد حريتهم من الاحتلال. وظن كثيرون من العرب المتصهينين مع أنظمة القمع والاستبداد أن انكفاءهم لمواقع تناقض التاريخ التحرري العربي كله وصلت لمنتهاها.
تمسكا بحقيقة المصاعب وبهشاشة المواقف العربية من الاعتداءات الإسرائيلية، يُفسَح المجال أمام تعاظم المخاطر على الوجود الفلسطيني فوق أرضه. ويتجلى هنا دور الكيانات العربية التي تبدو هشاشتها في لفظ دورها المعبر عن رفض ارتجالي خجول للعدوان الصهيوني على المقدسيين، بما ينسجم مع سياسة فلسطينية رسمية وفق إعادة تجريب كل شيء والرهان على أي شيء رغم الفشل التاريخي.
صار لهذا كله تأثير في إضعاف الشارع الفلسطيني ودوره المشكل نقاط القوة لمواجهة هجمات المستوطنين في القرى والبلدات والمدن الفلسطينية، بحيث فقدت السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية بفضل الرصيد المتكون من التنسيق الأمني لحماية قطعان المستوطنين وردع أي فعل لمواجهته؛ القدرة الكافية على أن تقول "لا" حقيقية للعدوان إلا أمام شاشات التلفزة التي تخاطب من خلالها مجتمعا ودوليا أصمّ منذ سبعة عقود..
معنى ذلك أن مواجهة الشارع المقدسي ومن خلفه الشارع الفلسطيني للاحتلال وسياساته العدوانية؛ لم تكن في حدود إبطال قرارات صهيونية بمعركة "قانونية " في الشيخ جراح أو سلوان أو باب العمود بالاستيلاء على الأرض وممتلكات أصحابها، ولا تنحصر بالاحتجاج على القمع والحصار الإسرائيليين، بل هو فعل المواجهة للمشروع الصهيوني برمته الذي يستهدف اختزال المطالب الفلسطينية بالحاجة البيولوجية للإنسان الفلسطيني في مستواها الأكثر فقراً. ومعركة الفلسطينيين منذ قرن محصورة بمناهضة المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين والمنطقة العربية، معركة مختلفة عن المعارك التي يخوضها نظام المخفر والشرطي والجلاد العربي من أجل الحفاظ على امتيازات ذاتية ووظائف تخدم مشروع السيطرة الإسرائيلية.
يبرهن الفلسطينيون من خلال معركتهم في القدس على قدرة التصدي للغطرسة الصهيونية، ومحاصرتها وفضحها، ولا زالت حناجر المقدسيين تندد بالردة وتدافع عن معنى فلسطين والحرية. ولا يزال الشارع العربي وشبابه وشيوخه يسمعون ويشاهدون ويصفقون لبطولة مشتهاةٍ في زمن عربي آسن، ويتأملون كلمات الفلسطينيين وقبضاتهم وصدورهم العارية المواجهة للغطرسة الصهيونية، يصفقون بألمٍ أو لا يمنعهم ألمهم الكبير بالقهر والاستبداد والطغاة من رفع الصوت في لحظة التآمر والتصهين إن حضر اسم فلسطين والقدس إلى الميدان. أن ينهض ويصفق له على أمل تجديد حلم قديم ينطوي على عشق عدالةٍ وحريةٍ، واستقامة الأشياء لا تكون إلا بالإنسان المتمرد على الطاغية والمستعمر.
يقول الفلسطينيون عن مواجهتهم للمشروع الصهيوني، إنهم لا يمتلكون مفعول السحر لهزيمته، لكن وجودهم وثباتهم الملموس فوق الأرض يأخذ مساراً تاريخياً وفعلاً متدرجاً عبر سيرورة تاريخية من الصراع؛ تقود في نهاية الأمر لإحداث التغيير المطلوب لإجلاء الاحتلال عن أرضنا، وما اختبار المواجهة في القدس إلا فصل من فصول النضال المكملة والشاقة في طريق تحرير فلسطين؛ بإدامة الاشتباك مع المستعمر الصهيوني بكافة الأشكال والوسائل والأساليب، وأن القصور الذي شاب عمل القوى والفصائل والأحزاب والسلطة والمنظمة، لم يعد مقبولاً أو مبرراً، وأنه آن الآوان لتوحيد الفعل الوطني الكفاحي السياسي والجماهيري، لاستعادة بعض المصداقية المفقودة في الشارع الفلسطيني، ولتأسيس مرجعية وطنية معترف بها من الشارع الفلسطيني ومن الشتات. المواجهة في القدس فرصة مناسبة لتأكيد الحضور الفعل الموحد المنسق والملموس.
دون ذلك، تبقى شحنات الغضب والتضحيات التي قدمت وشلالات الدم التي أريقت في سبيل استرداد فلسطين، تختزل أحلاما كبيرة في رحاب أرض فلسطين المحررة، إلى أوهام سلطة فاشلة وهزيلة تبرهن في كل لحظة مواجهة على أنها "جديرة" بالخضوع لإملاءات المحتل وتنسيقه الأمني، أما الاختبار العربي الرسمي في القدس الذي التزم صمته السعيد بالتنديد بعنف "إسرائيل" ومطالبتها والشعب الفلسطيني بعدم التصعيد، ستبقى تشير لزمن التصهين القريب، ولزمن الطغاة البعيد، الذي من أجله تقاتل شوارع عربية وتقتل وتُدمر للحفاظ على رداءة زمنٍ عربي يؤشر فعل الشارع الفلسطيني والعربي لعدم ديمومته.
twitter.com/nizar_sahli