لا شيء يدعو للتفاؤل بأن ذلك يمكن أن يحصل، غير أن للفرضية مشروعيتها ووجاهتها. ومع أن البعض سيقول هنا هل كسبنا الأولى لنفكر بالثانية؟ أي بمعنى آخر هل حققت تلك الحراكات الشعبية، التي انطلقت من تونس إلى المغرب مرورا بالجزائر، وعلى اختلاف أشكالها ومسمياتها من ثورة وانتفاضة وحراك، كامل أهدافها المعروفة والمعلنة على الأقل، وبات ممكنا بعدها التطلع إلى أهداف وغايات أسمى وأكبر؟
لكن ألا تبدأ مسافة الألف ميل دائما بخطوة؟ وما العيب في السعي لكسب الاثنين معا؟ لا شك بأن جزءا ممن ينكرون تماما، أو يروجون لاستحالة القدرة على التوفيق بين المسألتين لا يتمنون، بل حتى لا يؤمنون أصلا بالكيان المغربي المشترك، وهؤلاء قد لا يختلفون كثيرا عن بعض الحكومات المغاربية، التي كانت ردة فعلها حين خرجت شعوبها للتظاهر، تعبيرا عن غضبها من سياساتها، هي الزعم بأن وجود تلك الدول صار جراء الاحتجاجات المدنية والسلمية، مهددا في الصميم، وأن مثل ذلك العمل لم يكن عفويا بالمرة، بقدر ما كان مدبرا من دوائر أجنبية، حبكت مخططات إجرامية، من خلال تحريض الحشود وتحريكها ودفعها للاحتجاج والثورة، بهدف ضرب الاستقرار، تمهيدا لإعادة تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ.
ومن الغريب حقا أن مثل تلك المبررات ظلت تتردد من وقت لآخر، رغم أن أي حكومة من تلك الحكومات لم تعرض إلى الآن ولو دليلا قويا ومتماسكا يثبت صحة مزاعمها، ولم يعرف بالمثل أن أحدا من المتظاهرين في شوارع الجزائر، أو المغرب، أو تونس، رفع شعارات أو مطالب يمكن أن تدل، أو تكشف من قريب أو بعيد عن أي رغبة انفصالية أو تقسيمية، حتى بعد كل ما قيل خصوصا في الجزائر خلال السنة الأولى من الحراك، من بعض المسؤولين في المؤسسة العسكرية من تصريحات حول وجود مؤشرات جدية على ذلك، مثل رفع بعض الرايات الأمازيغية في التظاهرات، لكن بالمقابل، هل سبق وشاهد أحد في شوارع الجزائر متظاهرا خرج يهتف وينادي مثلا بضرورة تحقيق الوحدة المغاربية الفورية، أو رفع شعارات يطلب من خلالها من قادة الدول الخمس، ولو مجرد الجلوس معا إلى طاولة واحدة؟
وهل حصل أن رأى أحد في شوارع تونس أو المغرب من يتظاهر في أي مناسبة من المناسبات دفاعا عن الغرض نفسه؟
إن جميع من خرجوا ويخرجون مطالبين بالحرية والكرامة، لم يفعلوا شيئا من ذلك القبيل لا لشيء، إلا لأنهم لا يتصورون أن هناك علاقة سببية بين مطالبهم بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وتقرير مصيرهم في كسر القيود والحدود بين دولهم، حتى إن خطر ببال جزء كبير منهم على الأقل، أنه ينتمي إلى تلك العائلة المغاربية الكبيرة. لكن هل يمكن أن تكون للحراكات الشعبية في المنطقة المغاربية، ولو على المدى المتوسط، أو البعيد أهداف أكبر وأوسع من مجرد تحقيق مطالب محلية أو فئؤية محدودة؟
إن حصر أو تحديد تلك المطالب الأصلية أو الأساسية، التي رفعت وما زالت ترفع، في ظل فقدان تلك الحراكات لبرامج أو لقيادات معروفة توجهها، وترسم خططها المستقبلية، وتحدد خياراتها وسقف طموحاتها بشكل دقيق، يبدو أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش، لكن حتى إن خرج التونسيون والجزائريون والمغاربة على امتداد العشرية الأخيرة، وعلى فترات متتابعة إلى الشوارع مثلما يجمع أغلب المتابعين بدوافع تتلخص في مسألتين أساسيتين ترتبطان ببعضهما بعضا، وهما ضيق وانسداد الأفق الحقوقي والسياسي في بلدانهم، وتفاقم إحساسهم بغياب العدالة الاجتماعية فيها، فهل من الوارد أن يكون المنعرج هو تحول الغرض من تواصل حراكاتهم، واستمرار زخمها، ولو في مراحل لاحقة، هو الضغط من أجل تحقيق هدف أسمى وأكبر، أي التأثير في حكوماتهم لدفعها نحو تغيير سياساتها الحالية، والسعي إلى تحقيق التقارب والتكامل والوحدة المغاربية؟ وهل بإمكانها أن تعيد تشكيل توجهات تلك الدول وعلاقاتها ببعضها بعضا، وصولا في وقت ما إلى تحقيق نوع من التكامل أو حتى الوحدة بين أقطارها؟
الشعوب خرجت للشوارع بدون بوصلة حقيقية، وفسحت المجال إن أرادت أم لا للحكومات لتحدد لها طبيعة الحريات التي طالبت بها
إنها الآن وبعيدا عن سباق التسلح والصراع على الزعامة الإقليمية، أمام تحد من نوع خاص يتعلق بقدرتها على أن تكبر وتتطور في اتجاه «فوق محلي أو وطني» إن صحت العبارة، أي أن تتخطى البعد القطري الضيق، وتستجيب لا لمجرد طلبات فئوية أو محلية محدودة، بل لجانب من طموحات وأحلام جماعية للشعوب والأجيال المغاربية. لكن كيف ينظر المغاربيون عموما لتلك الحراكات الشعبية التي شهدتها منطقتهم في السنوات العشر الأخيرة، ونعني بها على وجه الخصوص فضلا عن حراك الجزائر، حراكات أو هبات أو انتفاضات تونس والمغرب؟ وهل يمكن أن يوجد ولو بشكل غير مباشر نوع من المنافسة الخفية، أو غير المعلنة بينها، على من يكون الأقرب في الوصول لتلك الغاية؟
ربما من الجيد أن يتخلى البعض عندما يفكر في ذلك، على الأقل عن المنطق الذي يجعل آخرين يتحدثون فقط عن إعداد الصواريخ والدبابات والطائرات النفاثة، التي تملكها هذه الدولة مقابل تلك، وحقول البترول أو الغاز أو الفوسفات أو الذهب أو المعادن الثمينة الموجودة لديها، بالمقارنة أيضا مع الأخرى، كلما رغبوا في إجراء مفاضلة بين الدول المغاربية، ويستعيض عنها بأشياء مختلفة تماما، ظل مجرد الكلام عنها بصوت عال إلى وقت قريب أمرا متعسرا، وربما حتى محظورا، وهي مدى احترام هذا القطر أو ذاك للمعاهدات والمواثيق الحقوقية المعروفة، ومن ضمنها الحق في التعبير والاحتجاج والتظاهر السلمي، لكن إن نظرنا للأمر فقط من زاوية التقييمات الدولية الصرفة، فلاشك في أن المسألة تبدو شبه محسومة من خلال الأفضلية النسبية لتونس، فمعظم إن لم يكن كل تقارير المنظمات المختصة تضعها في المرتبة الأولى في احترام تلك الحقوق في المنطقة المغاربية، متبوعة في المغرب ثم الجزائر.
غير أن ذلك قد لا يكون مؤشرا أمينا ودقيقا، لتحديد مدى نجاح حراك مغاربي بالمقارنة مع الآخر، ولا في استشراف إمكانيات تطوره أو توسع أهدافه. كما أن السؤال الحقيقي بعدها هو، هل ننتظر أن تنضج الحراكات المغاربية وتفرز محصلة أو نتيجة مقبولة على الصعيد الداخلي لتلك الدول، حتى يكون ممكنا بعدها التفكير في أن تتطور لمدى أوسع؟ وهل أن هناك ضمانة حقيقية في أن ذلك يمكن أن يحصل في تلك الحالة بالفعل؟
قد يكمن جزء من المشكل في الشعوب ذاتها، فهي خرجت للشوارع من دون بوصلة حقيقية، وفسحت المجال من حيث أرادت أم لا للحكومات حتى تحدد لها طبيعة الحريات التي طالبت بها. ومثلما فعلت ذلك، فلا يبدو أنها ستخرق القاعدة الآن لتجبر أنظمتها على السير في طريق وحدة مغاربية، لا تعني لها أكثر من شعار. أما هل تحصل المعجزة وتمسك الحراكات المغاربية، أو ما تبقى منها زمام المبادرة؟ فكل شيء يبقى واردا رغم صعوبة التفاؤل في هذا الظرف.
* كاتب وصحفي من تونس