يقول أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، ستيفن والت، في معرض تقييمه لحقبة دونالد
ترامب في السياسة الخارجية: يمكن لترامب أن يدعي عددا من الإنجازات الحقيقية؛ أحدها هو أنه لم يبدأ أي حروب جديدة ولم ينشئ دولا فاشلة جديدة". ويضيف: "قد لا يبدو هذا إنجازا كبيرا، لكن لا أحد من أسلافه الثلاثة يستطيع تقديم ادعاء مماثل".
ركز ترامب سياسته الخارجية والداخلية على جعل أمريكا أقوى وأفضل، بمعنى أو بآخر كان تركيز ترامب داخليا بامتياز، وجعله يتمحور بشكل صارخ حول الذات الأمريكية دون أي اعتبارات دبلوماسية أو حتى سياسية.
يؤكد والت في مقاله التشريحي في مجلة "Foreign Policy" أن ترامب "بدلا من تشجيع الوحدة الوطنية والشعور الواسع بالاحترام الوطني لمواطنينا، أمضى سنواته الأربع في المنصب في زرع انقسامات أكبر".
ويخلص والت في تقييمه إلى أن "أعداء أمريكا أكثر خطورة مما كانوا عليه في عام 2016، وأمريكا أضعف وأكثر مرضا وأكثر انقساما، والعلاقات مع العديد من حلفاء أمريكا أسوأ، وأي تطلعات إلى القيادة الأخلاقية التي ربما كان الأمريكيون يحتفظون بها قد تلطخت بشكل كبير".
مقالة الدكتور والت كانت قبل ثلاثة أسابيع من انتهاء فترة ترامب، ولكن ماذا كان عساه يكتب بعد "غزوة الكونغرس"؟ إنه الانقسام الأخطر والأكثر فجاجة في تاريخ الولايات المتحدة منذ الحرب الأهلية قبل أكثر من 150 عاما.
ربما نجد في مقدمة الدكتور والت جوابا على بروز تلك الانقسامات الموجودة أصلا: "ترامب لم يبدأ أي حروب جديدة ولم ينشئ دولا فاشلة جديدة"، وكان يسعى جاهدا لسحب القوات الأمريكية من الخارج، فما له ولهذا العالم المضطرب!!
ما يعنيه هذا باختصار أن ترامب نقل الصراع إلى داخل الولايات المتحدة بدل الصراع خارجها.
ليست التحليلات فقط، بل تصريحات الرئيس الحالي جو
بايدن وإدارته تتحدث بأن مهمتها الأساسية هي إعادة الروح والوحدة للشعب الأمريكي الذي انقسم على نفسه.
تستشعر الإدارة الحالية مدى خطورة الوضع، فترامب لم يهزم هزيمة منكرة، بل حصل على 75 مليون صوت، ويبدو صوت ترامب أعلى بكثير من صوت جو النعسان، فقد استطاع تأليب عشرات الآلاف ضد نتائج الانتخابات
تستشعر الإدارة الحالية مدى خطورة الوضع، فترامب لم يهزم هزيمة منكرة، بل حصل على 75 مليون صوت، ويبدو صوت ترامب أعلى بكثير من صوت جو النعسان، فقد استطاع تأليب عشرات الآلاف ضد نتائج الانتخابات في بلد يفتخر أن كل خلافاته تحل عبر صناديق الاقتراع وليس عبر صناديق الأعتدة، بل ذهبت الأمور إلى أكثر من ذلك باقتحام الآلاف لمقر الكونغرس الذي يمثل المكان الأقدس للأمريكيين.
الأسوأ أن الأمور بدأت تتضح أكثر؛ إذ أن الاقتحام لم يكن عفويا بل مخططا له من قبل كبار داعمي ترامب كما كشفت "وول ستريت جورنال".
بعيد انتخابه بأيام وعد بايدن بتوحيد الأمة المنقسمة بحدة. وعن مؤيدي ترامب قال: "هؤلاء ليسوا أعداءنا. إنّهم أمريكيّون"، وتابع: "فلتبدأ هنا اليوم نهاية عصر الشيطنة هذا في أمريكا".
في هذه المحطات هناك طريقان لتوحيد الأمة؛ طريق صعب وطويل يتمثل في ترسيخ الثقافة الجمعية ومزيج من سياسة الحزم والتساهل؛ الحزم ضد العناصر والأفكار المتطرفة، والتساهل مع المجموع. لكن في هذه الحالة يبقى شبح الحرب الأهلية مخيما، خصوصا إذا لم يحسن استخدام سياسة الحزم والتساهل.
طريق صعب وطويل يتمثل في ترسيخ الثقافة الجمعية ومزيج من سياسة الحزم والتساهل؛ الحزم ضد العناصر والأفكار المتطرفة، والتساهل مع المجموع. لكن في هذه الحالة يبقى شبح الحرب الأهلية مخيما
وهناك طريق سهل وسريع النتائج طالما جربه كثيرون؛ إنه ببساطة خطر خارجي داهم يجعل الجميع يتوقف لمواجهته، إنه ببساطة "صناعة عدو" وهي آلية برعت فيها أنظمة حكم كثيرة على مر التاريخ.
وربما يمكن المزج بين الطريقتين؛ على أن تكون الطريقة الثانية هي الأساس، لأنها قد تساعد في تنفيذ الطريقة الأولى بأقل الكلف.
فإذا ما أرادت إدارة بايدن، أو ربما الدولة العميقة كما يحب أن يسميها دونالد ترامب، اختيار الطريق الأول فمن عساه أن يكون العدو المناسب الذي سيلتف الشعب الأمريكي حوله؟
مجموعات اليمين المتطرف
عزز اقتحام الكونغرس من قبل مجموعات متطرفة يمينية من إمكانية ظهور تلك المجموعات على أنها الخطر الداهم والعدو المفترض الذي يجب على الأمريكيين التوحد من أجل صده.
يحلو للأمريكان وصف الجرائم التي يقوم بها اليمين المتطرف بالإرهاب المحلي، وذلك لتخفيف مصطلح "
الإرهاب" الذي بات على ما يبدو ماركة مسجلة باسم الإسلام.
إن وصف الإرهاب بالمحلي يعكس تساهلا مع هذا الإرهاب، وأنه ليس بتلك الخطورة، لكن ما حصل من اقتحام الكونغرس قلب الموازين، لدرجة تجعل كاتبا معروفا في مجلة "Foreign Policy" يدعو للتعلم من دول استبدادية كيفية حماية نظام الحكم من خلال مراقبة عناصر الجيش والأمن.
وصف الإرهاب بالمحلي يعكس تساهلا مع هذا الإرهاب، وأنه ليس بتلك الخطورة، لكن ما حصل من اقتحام الكونغرس قلب الموازين، لدرجة تجعل كاتبا معروفا في مجلة "Foreign Policy" يدعو للتعلم من دول استبدادية كيفية حماية نظام الحكم من خلال مراقبة عناصر الجيش والأمن
تشكل المجموعات المسلحة ذات الأيديولوجيا اليمينية جزءا من المشهد الأمريكي منذ وقت طويل. وألقى توقيف 13 رجلا كانوا يخططون لخطف حاكمة ميشيغان وبدء "حرب أهلية"، قبل أسابيع من الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، الضوء على وجود تلك الجيوب المسلحة لليمين المتطرف والتي تشكل بحسب الشرطة الفيدرالية، التهديد الإرهابي الأول في عهد دونالد ترامب.
مع وصول دونالد ترامب إلى السلطة، ظهرت تلك المجموعات بمشاركة مناصريها في تجمع لليمين المتطرف في شارلوتسفيل في فرجينيا عام 2017، ثم بمشاركتهم أيضا في المظاهرات المناهضة للقيود الهادفة لاحتواء فيروس كورونا المستجد خلال الربيع، أيضا خلال المظاهرات ضد وحشية الشرطة في الصيف.
وأكثرها شهرة هي مجموعة "ثري بيرسنترز" و"أوث كيبرز" و"براود بويز" وكذلك "بوغالوس بوا" و"باتريوت براير". وتشترك تلك المجموعات بدفاعها عن حق امتلاك السلاح والعداء للحكومة والسلطة والأفكار اليسارية.
وبعضها مؤيد للأفكار الداعية بتفوق العرق الأبيض ولديها ارتباطات بحركات للنازيين الجدد، وتعتبر أن قوات الأمن عملاء حكومة استبدادية، فيما تحضر أخرى لثورة وطنية أو حرب عرقية.
وفي بعض الأحيان، يعتنق أصحابها أفكار حركة اليمين المتطرف "كاي أنون" المؤمنة بنظرية المؤامرة، والتي تعتبر أن ترامب يخوض حربا سرية ضد جماعة ليبرالية عالمية مؤلفة من متحرشين بأطفال وعبدة شياطين.
وبحسب خبراء، تضم هذه المجموعات آلاف المؤيدين في البلاد، وهي تتواصل برسائل مشفرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وفق تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية.
فهل تصلح تلك المجموعات لتكون العدو الجديد؟
يمكن أن تشكل تلك الجماعات تحديا أو حتى تهديدا، لكن تحويله إلى عدو يجب التوحد للتصدي له مشكوك فيه، فعلاوة على أن تلك الجماعات تعبر بطريقة أو أخرى عن الشخصية الأمريكية، إلا أنها ليست على قلب رجل واحد، وقد يكون من الخطورة التعامل معها على هذا الأساس، لأن ذلك قد يعني ببساطة أن تجعلها تتوحد، كما أن الاصطدام معها ككتلة واحدة قد يعني فعلا حربا أهلية.
وهذا علاوة على أن الحقيقة التي يجب أن لا تنسى أن عناصر تلك المجموعات هم من البيض الذين يشكلون عصب أمريكا، ولا يمكن لإدارة بايدن المطعمة بالعناصر الأمريكية "الوافدة" أو "الملونة" أن تكون الجهة المثالية لشن حرب على تلك العناصر والمجموعات المتطرفة. بمعنى أن "الدولة العميقة" التي يمثل البيض عصبها، وهي ذاتها التي حاربها ترامب، لن تقبل بخوض حرب كهذه.
عناصر تلك المجموعات هم من البيض الذين يشكلون عصب أمريكا، ولا يمكن لإدارة بايدن المطعمة بالعناصر الأمريكية "الوافدة" أو "الملونة" أن تكون الجهة المثالية لشن حرب على تلك العناصر والمجموعات المتطرفة
الصين
قد تبدو الصين عدوا مثاليا يمكن تصوره واستخدامه لغايات التحشيد والوحدة وتمتين الجبهة الداخلية، فهل يمكن أن تتحول الصين إلى اتحاد سوفييتي جديد بالنسبة للأمريكيين؟
المفارقة أن ترامب الذي خلق مشكلة الانقسام هو ذاته الذي هيأ الأرضية لجعل الصين عدوا.
منذ أكثر من 10 سنوات والسياسة الخارجية الأمريكية تصوب بوصلتها تجاه الشرق "المارد الصيني" الذي بات يعتبر منافسا استراتيجيا للولايات المتحدة.
الصين القوة الاقتصادية العظمى التي ربما تتخطى الولايات المتحدة قريبا، تعتبر الشاغل الرئيسي للسياسة الأمريكية بغض النظر عن فوضوية ترامب في التعامل مع الملف الصيني، كما يقول الخبير في الشأن الأمريكي السيد أسامة أبو ارشيد في حوار مع "عربي21".
ما يشغل بال الولايات المتحدة هو أن تحول الصين قوتها وقدرتها الاقتصادية الهائلة إلى قوة وقدرة سياسية.
يصعب تخيل تحول الصين إلى اتحاد سوفييتي جديد، فطبيعة العلاقات الأمريكية الصينية تجعل من ذلك صعبا.
إن جعل الصين عدوا يحتاج إلى فصل الاقتصاد الأمريكي عن الاقتصاد الصيني؟ فهل يمكن تصور ذلك؟
وفقاً لدراسة أجراها مؤخراً مجلس الأعمال الأمريكي- الصيني، فإن أكثر من 90 في المائة من الشركات الأمريكية العاملة في الصين ترغب في البقاء فيها وتعارض مقولة الفصل بين أكبر اقتصادين في العالم. والمفارقة أن حجم التجارة زاد بين البلدين بنسبة 8.3 في المائة في عام 2020 عن العام السابق.
في مقالة للبروفيسور الصيني شوي تشينغ نشرتها صحيفة الشرق الأوسط، يشير فيها إلى تصريحات لأغنى رجل في العالم، الأمريكي إيلون ماسك صاحب شركة تسلا، تلك التصريحات تشيد بالحكومة الصينية، ورغم أن تلك التصريحات قد تعتبر من باب المجاملة، إلا أن تشينغ يذهب إلى ما وراء المجاملة. ولماذا يحتاج أغنى رجل في العالم لمجاملة الصين؟ لأن الزيادة السريعة لثرواته ترجع أساساً إلى علاقاته الوثيقة بالصين، إذ إن سوق الصين شكل ثلث مبيعات سيارات تسلا في عام 2020، هذا هو الأمر ببساطة.
الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات التي يهيمن عليها الأمريكيون لن تسمح بتدهور العلاقات الأمريكية مع الصين إلى درجة القطيعة
ببساطة، فإن الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات التي يهيمن عليها الأمريكيون لن تسمح بتدهور العلاقات الأمريكية مع الصين إلى درجة القطيعة.
الإرهاب
لم يفقد الإرهاب المرتبط بهجمات تتبناها جماعات تعتبر نفسها إسلامية؛ جاذبيته في الولايات المتحدة.
يكفي هجوم مرتبط بتلك الجماعات يقع ضحيته أمريكي واحد أن يولّد ردود فعل وتغطية إعلامية واسعة وانشغالا شعبيا، مقارنة بمجزرة قد يذهب ضحيتها عشرة أمريكيين يقف خلفها ما يعرف بالإرهاب المحلي.
يعتقد كثير من السياسيين والمحللين أن الولايات المتحدة وجدت ضالتها فيما يعرف بالإرهاب الإسلامي كبديل عن العدو التقليدي الذي نشأت عليه أجيال أمريكية؛ وهو الاتحاد السوفييتي والشيوعية.
ويقال إن ألكسندر ارباتوف، وهو المستشار الدبلوماسي لآخر رؤساء الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، عدّ تفكيك الاتحاد السوفييتي كارثة للغرب، ويروى أنه قال: "إننا سوف نؤدي لكم - يقصد الغربيين - أسوأ الخدمات، ذلك أننا سوف نحرمكم من عدو"، وبالفعل فقد الغربيون العدو الذي مكنهم من الوقوف جبهة موحّدة متماسكة أمام تهديدات الشيوعية.
لكن ما لم يحسب ارباتوف حسابه هو أن العدو يمكن أن يُصنع صناعة لتأدية الدور الذي يؤديه العدو الحقيقي والوصول إلى ذات النتائج، ويعبر عن ذلك بدقة المفكر الأمريكي صموئيل هنتغتنون في كتابه صدام الحضارات.
ببساطة، لقد تحول الإسلام أو الحضارة الإسلامية إلى العدو الجديد، ورغم الانتقادات الكثيرة التي وجهت لأطروحة هنتنغتون من ناحية نظرية، إلا أن الواقع العملي أثبت صحتها إلى حد ما، لكن هذا الإثبات كان بحاجة إلى عملية كبير أو صدمة، وهو ما حدث في هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، أي بعد 10 أعوام من انهيار الاتحاد السوفييتي و"فقدان العدو" كما يقول ارباتوف.
وبغض النظر عن الجدل حول إن كان الإسلام يشكل تهديدا بحد ذاته للحضارة الغربية، أو أن ذلك التهديد كان بفعل فاعل وصُنع صناعة على أعين البعض، فإن النتيجة التي آلت إليها الأوضاع بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمر هي أن الإسلام بات في الواجهة، وأنه بات الشغل الشاغل للسياسة الغربية والأمريكية على وجه الخصوص.
تحركت مياه كثيرة منذ 2001، لكن الإرهاب الموسوم بـ"الإسلامي" لم يعد تهديدا للغرب فقط، بل أصبح "تهديدا" للعالم أجمع تقريبا وللأنظمة العربية والإسلامية، خصوصا بعد ظهور النسخة الجديدة "تنظيم الدولة" وتمكنه من الاستيلاء على مساحات شاسعة من العراق وسوريا وتأسيسه "الخلافة".
بايدن الذي نجح بفضل الأقليات ومنها المسلمة، قد يجد صعوبة في ذلك، بل قد يقاوم الشهية لإعادة الإرهاب "الإسلامي" كموحد للشعب الأمريكي، وقد يحاول محاصرة ردود الفعل على أي هجمات منسوبة إلى جماعات إسلامية ليبقيها في نطاق "الحرب على الإرهاب"
تبدو الأمور هنا مواتية، لتحويل الأنظار إلى هذا التهديد، خصوصا بعد الأنباء التي بدأت تتواتر عن توسع "التنظيم" في أفريقيا، بل وعودة نشاطاته في سوريا والعراق؛ المنطقة التي تضم آلاف الجنود الأمريكيين. وحسب تقرير حديث للأمم المتحدة، فالتنظيم لديه حوالي 10 آلاف مقاتل في العراق وسوريا، ويمتلك 100 مليون دولار كمخزون نقدي.
فهل سنشهد صحوة كبيرة لتنظيم الدولة؟ وهل سيبدأ بتشكيل خطر على القوات الأمريكية في المنطقة؟
تبدو الصورة ضبابية هنا؛ فبايدن الذي نجح بفضل الأقليات ومنها المسلمة، قد يجد صعوبة في ذلك، بل قد يقاوم الشهية لإعادة الإرهاب "الإسلامي" كموحد للشعب الأمريكي، وقد يحاول محاصرة ردود الفعل على أي هجمات منسوبة إلى جماعات إسلامية ليبقيها في نطاق "الحرب على الإرهاب" بشكل عام. ولكن السؤال: إلى أي مدى تستطيع إدارة بايدن أن تقاوم؟ خصوصا وأن أطرافا أخرى قد تدفع إلى جعل الإرهاب "الإسلامي" في مقدمة أجندة وأوليات إدارة بايدن، على رأسها إسرائيل ودول خليجية.
يبدو أن الانقسام الذي تعاني منه الولايات المتحدة لن يكون من السهل معالجته في الوقت الحاضر.