أُعدِم رئيس الوزراء بيير لافال، وحكم على رئيس الجمهورية الفرنسية الثالثة فيليب بيتان بالسجن المؤبّد بعد تخفيف حكمه بالإعدام. تهمتهما الخيانة العظمى لاعترافهما أو قبولهما بالسيادة الألمانية المحتلة على ثلثي فرنسا شمالاً بموجب اتفاقية الهدنة في العام (1940)، حيث انحسرت الجمهورية الفرنسية في الجزء الجنوبي على ما تبقى من فرنسا، لا سيّما بعد أن صادقت الجمعية الوطنية الفرنسية بالأغلبية المطلقة (في بلدة فيشي الفرنسية) على اتفاقية الهدنة مع ألمانيا النازية.
الذاكرة التاريخية في ذلك الحدث كلمتان؛ الأولى اعتراف شريحة من الفرنسيين بالسيادة الألمانية على جزء من فرنسا، وقيامهم بالتنسيق الأمني مع
الاحتلال الألماني وملاحقة المقاومة بذريعة حماية الجمهورية والمصالح الوطنية للشعب الفرنسي، والثانية تجسّدت في وَسم ذلك الفعل بالخيانة العظمى للشعب الفرنسي ولقيمه الوطنية، ما عُدّ في حينه وإلى اليوم عاراً في تاريخ فرنسا.
نسوق هذا التاريخ لأننا بحاجة للنظر إلى الأشياء عن بُعد وبعيداً عن الغرق في التفاصيل التي نحن جزء منها، والتي قد تخدعنا وتخدع أجيالاً قادمة مطلوب منها أن لا تنسى حقيقة أن
فلسطين كل فلسطين محتلة، مهما طال عهدها بالاحتلال الذي يحاول بدوره إقناع بعضنا (كما اقتنع لافال وبيتان بسطوة النازية) بأنه جزء طبيعي من المنطقة، وبأنه قوّة لا تقهر غير قابلة للتبدّل أو الإزاحة أو الاندثار.
تلك ظاهرة تاريخية، تتكرر في الشعوب المحتلة أرضها، فيقع في شَرَكها ويتحمّل وِزْرها من استسلم لليأس والعجز عن تغيير الواقع المُتوَهّم ثباته إلى الأبد، على شاكلة المارشال وزير الدفاع الفرنسي الأسبق ورئيس الجمهورية الفيشية، فيليب بيتان، الذي بذريعة حماية الشعب وما تبقى من المصالح الوطنية، تحوّل إلى أداة في يد النازية، وتحوّلت حكومته بقيادة بيير لافال إلى وكيل أمني يطارد الشباب الفرنسي في الجبال والغابات لمنعهم من مقاومة الاحتلال..!!
في فلسطين اليوم، سقطت نخبة سياسية واستسلمت لليأس والعجز مظنة أن الاحتلال باقٍ إلى الأبد وليست هناك من قوة يمكن أن تزيله أو تُضْعفه، ولم يبق إلا أن تتسوّل حقوقها المجتزأة التي لا تغني عن الحق شيئاً، رغم وضوح التجرية مع الاحتلال الذي لا يترك مناسبة إلا ويؤكد على عدم إيمانه بالسلام أو العيش المشترك، وأنه وإن قبل بالتفاوض فهو يقبله لاستثمار الوقت لمزيد من مصادرة الأراضي، وتهويد القدس، والحيلولة دون عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه، العودة التي باتت في عقل ومخيّلة ساسة فلسطينيين فكرة طوباوية.
في فلسطين اليوم، سقطت نخبة سياسية واستسلمت لليأس والعجز مظنة أن الاحتلال باقٍ إلى الأبد وليست هناك من قوة يمكن أن تزيله أو تُضْعفه، ولم يبق إلا أن تتسوّل حقوقها المجتزأة التي لا تغني عن الحق شيئاً، رغم وضوح التجرية مع الاحتلال
على ذات الدرب ودون اتعاظ، تتمسك منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة "
فتح" بالتنسيق الأمني وتطارد المقاومين لحماية الاستيطان وأمن الكيان المحتل؛ الذي يتمتّع بالسيادة على ثلثي أرض فلسطين ويتمدد على الثلث الأخير من الأرض، على عين وسمع القوم الذين لا يألون جهداً في الإدانة والتهديد بفتح معركة دبلوماسية شرسة في الأروقة والمحافل الدولية.
على الطرف الآخر من تلك الظاهرة الفيشية، تقف فصائل المقاومة الرافضة لمسار التسوية السياسية على حد الحيرة والاضطراب، يحدوها الأمل في التحرر والانتصار ويشدّها اليأس من الواقع، فتراها متمسكة بالثوابت الوطنية وبسلاح المقاومة، ولكنها تقترب أو تتجه رويداً رويداً نحو من تنازل عن فلسطين وأدار ظهره لحق العودة باسم "الوحدة الوطنية".
لقد تسرّب في وعي حركة "
حماس" والفصائل الوطنية الأخرى أن اقترابها من سلطة الأمر الواقع، السلطة الفلسطينية المدعومة إسرائيلياً ودولياً، يمكن أن يُحدث نقلة نوعية أو أثراً في واقع حركة "فتح" نحو الشراكة الوطنية، أو يمكن أن يحلّ أزمة، أو يوفّر حماية، أو يُشكّل حصان طروادة لعبور أسوار القلعة.. وما كل ذلك إلا وهما وخداعا للذات؛ ليس بحكم التنظير فحسب وإنما بحكم التجربة الغنية منذ الانتخابات الفلسطينية في العام 2006 وما تلاها من حوارات وحوارات كان مصيرها الفشل لأسباب ذاتية وموضوعية بيّنة لم تتغير معطياتها بعد، بل ازدادت تعقيداً.
الاندماج في السلطة الفلسطينية أو الذهاب باتجاه حركة "فتح" وفقاً لسلوكها السياسي (الاعتراف بالاحتلال والتنسيق الأمني)، يُعد دعماً لها ولنهجها، وخداعاً بصرياً لأعين الفلسطينيين باسم الوحدة الوطنية، الأمر الذي سيشوّه لاحقاً المقاومة الوطنية ويطعن في مصداقيتها، فالتقدم خطوة خطوة نحو مآثر اتفاقيات أوسلو سيزيد العبء عليها ويشكل قيداً قد يصعب التخلص منه بعد حين، وهو ما أقدمت عليه حركة "فتح" ووقعت فيه. وهذا بذاته سيُعدّ انتصاراً لصالح الاحتلال الإسرائيلي الذي سيكون قد نجح في دفع المقاومة إلى دائرة الاشتباك والاستنزاف الداخلي مع حركة "فتح"، تحت مظلة استحقاقات أوسلو السياسية والأمنية وفي ساحةٍ يتحكم بأدواتها ويرسم مساراتها الكلية، ما سيُفقد المقاومة الوطنية سِمَتها التي تمايزت بها عن خط التسوية السياسية، ويشكّل بدوره عاملاً إضافياً مُحبِطاً للحالة الوطنية الفلسطينية.
الذهاب باتجاه حركة "فتح" وفق المعطيات السياسية الراهنة لا يمكن أن يُشكّل قارب نجاة للحالة الوطنية، إلا إذا كان محمولاً على مبادئ وأسس سياسية، دقيقة، وواضحة، وحاكمة، وفقاً للثوابت الوطنية المعلومة بالضرورة، وهذا ما لم يكن لحد اللحظة
إنّ الذهاب باتجاه حركة "فتح" وفق المعطيات السياسية الراهنة لا يمكن أن يُشكّل قارب نجاة للحالة الوطنية، إلا إذا كان محمولاً على مبادئ وأسس سياسية، دقيقة، وواضحة، وحاكمة، وفقاً للثوابت الوطنية المعلومة بالضرورة، وهذا ما لم يكن لحد اللحظة ولا أظنه سيكون، لأن السلطة الفلسطينية وحركة "فتح" لا تريد ذلك ولا ترغبه لأنه يشكل قيداً عليها ويحدّ من دورها الذي قامت به وانتهى بها المطاف إليه، حكومة ذاتية سقفها سياسة الأمر الواقع التي يرسمها الاحتلال بدعم أمريكي مباشر.
إنّ حَسْم السلطة الفلسطينية أو حركة "فتح" خيارها مع الاحتلال اعترافاً سياسياً به وتنسيقاً أمنياً معه، في مخالفة صريحة لكافة القرارات الوطنية الصادرة عن منظمة التحرير الفلسطينية أو الصادرة عن لقاء الأمناء العامين الأخير بين بيروت ورام الله، يرمي الكرة في ملعب فصائل المقاومة؛ فإما أن تبقى واقفة على بوابة الانتظار والتعويل على بناء شراكة "وطنية" موهومة محكومة بمفاعيل اتفاقيات أوسلو وسياسة الأمر الواقع الإسرائيلية، مع ما يعنيه ذلك من ضياع للوقت والطاقات، وما قد يحمله من اعتراف ضمني بواقع الاحتلال على أرض فلسطين.. أو أن على فصائل المقاومة استعادة زمام المبادرة بتشكيل جبهة وطنية ينضم إليها ويدعمها فلسطينياً وعربياً كل من يؤمن بفلسطين كل فلسطين وطناً للفلسطينيين وملاذاً للمؤمنين بعدالة القضية، لأنه لا يصح إلا الصحيح، ولأن الاحتلال لا ولن ينسحب من شبر واحد من الأرض إلا إذا دفع الثمن باهظاً وارتفعت كلفة احتلاله إلى حد العجز عن احتماله.