قضايا وآراء

فضيلة نقد التاريخ

1300x600
يعد المؤرخ "هوارد زن" واحداً من أصدق المؤرخين الأمريكيين وأشدهم انحيازاً للعدل والإنصاف، فيما أعلم، وهو مؤلف كتاب "تاريخ الولايات المتحدة لجيل الشباب" الذي بيع منه أكثر من مليون نسخة.

ميزة هذا الكتاب أنه يتناول تاريخ أمريكا من زاوية الضعفاء المضطهَدين، لا من زاوية الأبطال المنتصرين، كما جرت العادة. فهو يرى الأحداث بعيون السكان الأصليين الذين أبيدوا، والأفارقة الذين استعبدوا، والمكسيكيين الذين سرقت أمريكا أرضهم، والعراقيون الذين دمرت حكومة الولايات المتحدة بلادهم، وفي ذات الوقت يقدم هوارد زن بطلاً تاريخياً في وزن كريستوفر كولومبوس بأنه مجرم وليس فاتح البلاد.

في لقاء تلفزيوني سألت الإعلامية إيمي جودمان المؤرخ هوارد زن سؤالاً يُسأل كثيراً:

"هل من المناسب لجيل الشباب أن نقلل لهم من رموزنا التاريخيين مثل كريستوفر كولومبوس، وثيودور روزفلت؟

أجاب:

هل يحب علينا إخبار الأطفال بأن كولومبوس الذي أخبرونا أنه بطل عظيم، قام باختطاف وقتل وتشويه الهنود الحمر أثناء سعيه وراء الذهب؟

وهل يجب علينا إخبار الناس بأن روزفلت الذي صوروه رئيساً عظيماً كان متعطشاً للحروب ومهووساً بالبطولات العسكرية، وهنأ أحد الجنرالات على ارتكابه مذبحةً في الفلبين؟

يخلص هوارد زن إلى العظة الأخلاقية:

"نعم، يجب أن نكون صادقين مع الشباب وألا نخدعهم، وعلينا أن نقدم لهم قائمةً بالأبطال الحقيقيين عوض الأبطال المزيفين". ويقصد بالأبطال الحقيقيين الذين كانت لهم مواقف أخلاقية عوضاً عن الذين امتلكوا السلطة.

إن الخوف من خدش الصورة البطولية الجميلة أمام الأجيال يكون حائلاً بين إخبار الناس بالحقيقة والصدق، وهو ما يحتاجونه فعلاً من أجل الإلهام.

في حزيران/ يونيو 2020 وفي أعقاب مقتل جورج فلويد شهدت أمريكا وأوروبا حوادث تحطيم تماثيل رموز حقبة الاستعباد، فقد أسقط متظاهرون في بريطانيا تمثال إدوارد كولستون، أحد أهم تجار العبيد في القرن السابع عشر، وألقوه في النهر، وفي ذات الوقت أسقط حشد من المحتجين تمثالاً لكريستوفر كولومبوس في ولاية مينيسوتا الأمريكية، كما تعرّض تمثال لملك بلجيكا الأسبق ليوبولد الثاني، قرب العاصمة بروكسل، للتخريب، وهو الملك المتهم بإبادة ملايين الكونغوليين.

هذه الأفعال الرمزية تدل على الشعور بالعار من الحقبة التاريخية التي تاجر فيها الأوروبيون بالبشر واستعبدوهم، وهذه الأصوات التي تعلو في نقد التاريخ، وإن كانت لا تمثل التيار السائد بعد، لكنها تبعث الأمل بإمكانية تصحيح الأمم مساراتها ودخولها في حالة "توبة جماعية" تقود إلى براءة من ممارسات الظلم وعبادة الأصنام.

الأمم الحيّة هي التي تملك الجرأة على نقد تاريخها وتجاوز أخطائه، إذ إن التشبث بإرث الأجيال السابقة والعجز عن تمحيصه يدخل الأمم في حالة صنمية، وهو ما يعني انطفاء الروح وجمود العقل.

في كتاب "العرب من وجهة نظر يابانية" يقول نوبواكي نوتوهارا:

"كثيرا ما واجهت هذا السؤال في الدول العربية: لقد ضربتكم الولايات المتحدة بالقنابل الذرية فلماذا تتعاملون معها؟

طرح المسألة بهذه الطريقة لا يؤدي إلى شيء، فعلينا نحن اليابانيين أن نعي أخطاءنا في الحرب العالمية أولاً، ثم نصحح هذا الأخطاء، لأننا استعمرنا شعوباً آسيويةً كثيرةً ثانيا.. المشكلة ليست في أن نكره أمريكا، المشكلة أن نعرف دورنا بصورة صحيحة، ثم نمارس نقدا ذاتيا بلا مجاملة لأنفسنا، بعد ذلك نختار الطريق الذي يصحح الانحراف، ويمنع تكراره في المستقبل".

لم أستمع إلى مزيد من الأصوات اليابانية لفحص إن كان هذا النهج يمثل توجهاً عاماً، إلا أن تجربة اليابان العملية تؤكد فعلاً أنها أمة حية وقادرة على ممارسة نقد ذاتي لتاريخها، فقد تمكنت هذه الأمة سريعاً من الإفاقة من صدمة الضربة النووية وسلكت طريق النهضة الصناعية والاقتصادية، ولا يمكن الفصل بين الثمار الحضارية والبذور الفكرية والنفسية.

في الحالة العربية ينظر عموم الناس بريبة إلى نقد التاريخ، ويحدث خلط بين التاريخ البشري والدين الإلهي، فيظن كثير من الناس أن نقد أشخاص التاريخ وأحداثه استهداف لثوابت الدين، مع أنه لا يوجد أي دليل يعطي عصمةً لتاريخ المسلمين ويمنحهم استثناءً ليس لغيرهم.

من اليسير ملاحظة التوجه العام للقرآن الكريم في التعامل مع التاريخ، فالقرآن يخاطب المؤمنين بأنهم بشر ممن خلق وأن الله لن يحابيهم على غيرهم، بل إنه يظهر احتمال انحراف الأمة في تجربتها التاريخية فيقول: "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".

وجيل المؤمنين الأوائل الذين هم خير جيل، وقد كان القرآن يتنزل عليهم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، ومع ذلك خاطبهم القرآن في سورة آل عمران: "منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة". فإذا كان خير جيل بينهم من يريد الدنيا، فهذا يعني أنه لا يوجد ضمانة بالعصمة لخليفة أو فاتح أو عالم بعد ذلك..

صحيح أن تجربتنا التاريخية سلمت من التورط في جرائم من وزن جرائم التاريخ الغربي في الاستعباد والاستعمار، فالتاريخ الغربي مروع في تسببه بمئات ملايين الضحايا، لكن مبدأ النقد الذاتي ينبغي أن يظل حاضراً لأنه هو الذي يضمن التصحيح الدائم والترقي الأخلاقي، ويبقي البشر وتجاربهم التاريخية في حدود بشريتهم ولا يحولهم إلى أصنام تعكف الأجيال اللاحقة عليهم ولا تستطيع الفكاك من سلطتهم؛ فيؤدي ذلك إلى جمود الفكر والعجز عن صناعة الحاضر.

من الملاحظ في تعامل العرب المعاصرين مع تاريخهم أنه تستهويهم مواطن القوة والهيمنة، حتى وإن تضمنت تلك المواطن تناقضاً مع مبادئ القرآن الأخلاقية، ومع ذلك تجذب تلك النماذج كثيراً من الناس ربما أكثر مما تفعل نماذج الرحمة والتسامح:

مثال الحجاج الذي اشتهر بالظلم والبطش، ومع ذلك تجد من المسلمين من يترحم اليوم عليه ويقول إن شعوبنا تحتاج رجلاً مثل الحجاج.

ومثل قصة هارون الرشيد الشهيرة حين كان يخاطب السحابة في السماء: أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك. تستهوينا هذه القصة ونكررها فوق المنابر، ونشعر بالنشوة النفسية معها، مع أنها مقولة تدل على الهيمنة والعلو، ورسالة القرآن في جوهرها رسالة هداية وليس هيمنةً وعلواً: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً".

بل يتجاوز الفخر التاريخ الإسلامي إلى الفخر بقيم الجاهلية مثل الثأر والعصبية القبلية، وقصص الزير سالم وقصة السيد الذي يغضب معه مائة ألف سيف لا يسألونه فيم غضب، وهناك من ينشد منتشياً قول الشاعر الجاهلي: "أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا.. فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَـا".

قد يجد بعضنا مبرراً لهذا الميل أن الأمم في أحوال ضعفها تبحث عن مواطن القوة والعزة، وبحث الناس عن القوة معتبر، لكن المشكلة تتمثل في القصص التي تبرر العصبية العمياء والعدوان والبغي، وما ينثر اليوم بذوراً في العقول والقلوب هو الذي يشق طريقاً حين تتاح له الوسيلة والفرصة فيصير واقعاً مادياً، لذلك فإن التأكد من صواب البوصلة الأخلاقية ليس عملاً خاصاً بفترات الظهور والغلبة، لأن الضعيف إن لم يمتلك وضوحاً أخلاقياً فإن الفرق بينه وبين القوي الغاشم الظالم يتعلق بالفرصة المتاحة وحسب، وليس فرقاً جوهرياً.

هناك من يجادل بأنه لا ينبغي أن نثير النقاش في تاريخٍ قد انتهى وأمة قد خلت، ويسألون: ما الذي يضمن أن الحجاج لم يظلم في التاريخ؟ وما يدريك ربما كانت قصة هارون والسحابة مختلقةً؟ وربما كانت ظروف السابقين مبررةً لأفعال لا نفهم حكمتها اليوم..

هذا الاعتراض مردود عليه بسهولة، فنحن لا نناقش التاريخ الذي مات، إنما نناقش المفاهيم المعاصرة الحية تجاه ذلك التاريخ.. لا تهمنا الشخصية الحقيقية للحجاج بقدر ما تهمنا الصورة التاريخية التي وصلتنا للحجاج، ولا تهمنا قصة السحابة إن كانت حقيقةً أو مكذوبةً بقدر ما يهمنا رواج هذه القصة اليوم والدلالات النفسية لذلك. فالتاريخ لا يؤثر على الحاضر بحقيقته بل بصورته واعتقاد الناس فيه.

نقد قصص التاريخ وأساطيره الشائعة ليس نبشاً في الماضي، بل هو تحليل للشخصية الثقافية والاجتماعية الحاضرة، فالأمم والأفراد يتشكلون وفق المفاهيم والأفكار والأساطير التي يؤمنون بها.

twitter.com/aburtema