يقدم الفيلسوف التونسي البروفيسور أبو يعرب المرزوقي، في هذه الأوراق التي تنشرها "عربي21"، بالتزامن مع نشرها على صفحة الدكتور أبو يعرب الرسمية، قراءة علمية لواقع النخب في العالم العربي، وعلاقتها بالتغيير المنشود.
ومعلوم أن أولى خطوات العلاج أو الحكم على الشيء تبدأ أولا من التشخيص، وهذا ما انطلق منه الدكتور أبو يعرب في محاولة لتفكيك مفهوم النخبة وعلاقته بالمجتمع في مختلف مكوناته المعرفية والدينية والاقتصادية والسياسية.
وإذ تنشر "عربي21" هذه الورقة في حلقات كل يوم جمعة من الأسبوع، فإنها تسعى لتوسيع النقاش بين المنشغلين بقضايا الفكر العربي حول دور النخب في صناعة التغيير الجاد، وإنجاز مطالب الشعوب في التنمية على جميع المستويات.
حب التأله
سبق أن كتبت بحثا وقدمت محاضرة حول مفهوم "حب التأله" في نظرية ابن خلدون السياسية الشاملة، أي إن حب التأله ليس مقصورا على نخبة الإرادة أي الساسة، بل هو يشمل نخبة المعرفة (العلماء) ونخبة القدرة (منتجو الثورة والتراث) ونخبة الذوق (الفنانون والرياضيون) ونخبة الرؤى (رجال الدين والفلاسفة)؛ لأن حب التأله هو بوعي أو بغير وعي وهم حيازة فعلي الله الأساسيين: "أي الخلق (الإحياء والإماتة) وذلك بالسيطرة على الرزق المادي ورمزها السلطة على رمز الثروة، أي العملة المتحكمة في المائدة والسرير والأمر (تحديد شروط الذوق وكيفيات العيش)، وذلك بالسيطرة على الرزق الروحي ورمزها السلطة على رمز التراث، أي الكلمة المتحكمة في فنيهما وما يجعلهما يسموان على مجرد سد الحاجة العضوية، ليصبحا متعلقين بالحاجة الروحية في كيان الإنسان.
وحتى نفهم هذه العلاقة في روايتها القرآنية، فلا بد من شرح القصة كاملة كما وردت في سورة طه من الآية 83 إلى الآية 101.
وفيها إحدى عشرة مرحلة تبين تكوينيتها عدا ما يؤسس لبدايتها قبلها وعلاقته بما ورد في شرح سورة هود. وقد سبق فخصصنا لها محاولة وهي ذات صلة بقصة العجل؛ لأن ما ورد فيها هو بداية ما ورد في هذه القصة، أي تحرير موسى شعبه من العبودية رمزا للعبودية الثانية، عبودية التاريخ بعد عبودية الطبيعة التي حرر نوح الإنسانية منها.
ونبدأ فنقدم لعرض القصة بتذكير سريع لما أعد لقصة دين العجل ودلالتها في مسألتنا، كما يحددها العنوان "النخب وإشكالية المناعة العضوية والحصانة الروحية".
للفرد والجماعة ودورهما في صعود الحضارات وانحطاطها، فالقصة تتعلق بسعي موسى لتحرير بني إسرائيل من العبودية السياسية في دولة الفراعنة، وهي في التوراة استكمال لقصة تحول مصر إلى دولة مستعبدة لشعبها، عملا بوصية يوسف التوراتي وبخلاف ما عليه القصة القرآنية؛ ذلك أن القصة في طه تتعلق بتحرير بني إسرائيل من العبودية في شعب ليس مؤلفا من العبيد، بل هو على تقاليد المجتمعات القديمة، العبيد يعتبرون غير مواطنين في الدولة حتى لو كان حاكمها حاكما مطلقا مثل الفراعنة.
بدأت القصة مباشرة بعد تجاوز النهر والتخلص من المتابعين فرعون وجيشه. ومرت بالمراحل التالية التي هي إحدى عشرة مرحلة، وهي التالية:
ـ المرحلة الأولى؛ هي لوم موسى على عجلته وتركه قومه قبل أن يتمتن لديهم الدين الجديد ويترسخ، وهي عجلة عللها موسى بطلب رضا الله واطمئنانه بكونه على أثره برعاية أخيه: الآيتان 83 ـ 84
ـ المرحلة الثانية؛ هي الفتنة وامتحان إيمان بني إسرائيل وتحررهم من تقليد العبد لسادته وتعيين من أضلهم: الآية 85
ـ المرحلة الثالثة؛ هي عودة موسى وغضبه وأسفه على عجلته: الآية 86
ـ المرحلة الرابعة؛ هي تبرير قوم موسى فعلتهم بأنهم تخلصوا من الذهب المسروق، وكونوا منه جسد العجل وأتمه السامري بحثوة التراب من أثر حوافر فرس جبريل عليه، ليخرج خواره ليكون إلههم وإله موسى لأنه نسي، وكما تخيلوه قياسا على عجل الفراعنة: الآيتان 87 ـ 88.
ـ المرحلة الخامسة؛ هي حجتان من إله موسى دالتان على غياب العقل عند قوم موسى؛ عدم كلام الله وعدم ضره ونفعه: الآية 89.
ـ المرحلة السادسة؛ هي هارون كان فاهما خدعة السامري والفتنة، لكنهم لم يطيعوه وأصروا على عبادة العجل إلى أن يعود موسى: الآيتان 90 ـ 91
ـ المرحلة السابعة؛ هي لوم موسى أخاه هارون، وتبرير هارون لسلوكه لتجنب تفريق بني إسرائيل في غياب موسى: الآيات 92 ـ 93 ـ 94.
ـ المرحلة الثامنة؛ هي مساءلة السامري ورده ورد موسى بثلاث حجج: رأي ما لم يروى من نزول جبريل وحثيه التراب وتسويل النفس. ورد عليه موسى بثلاثة ردود: عدم عقابه في الدنيا وتأجيل العقاب ليوم الدين وتحريف ربه ورميه في اليم؛ بمعنى أنه ما زالوا قريبين من النهر وهي إشارة مهمة تستكمل عبارة العجلة: الآيات 95 ـ 96 ـ 97.
ـ المرحلة التاسعة؛ هي التذكير بدين الله التوحيد والعلم المحيط: الآية 98.
ـ المرحلة العاشرة؛ هي المخاطب بالقصة محمد: الآية 99.
ـالمرحلة الحادية عشرة؛ هي تأجيل العقاب ليوم الدين الآيتان: 100 ـ 101.
دواء مرض التحريف الأقصى
وهذه المراحل قابلة للرد إلى المواقف الخمسة التي حصلت فيها التي تمثل غاية القصة التي خوطب بها الرسول الخاتم، لتصف له دواء مرض التحريف الأقصى أي دين العجل؛ لأن الرسالة الخاتمة تذكير والرسول الخاتم بشير ونذير باعتماد التجارب المقومة للديني، من حيث هو علاج أمراض الإنسانية، بحيث إن كل القصص القرآني تهدف إلى عرض هذه التجارب واستخلاص الدرس، مما عالجه الدين من أمراض الإنسانية.
التحرر من المطابقتين المعرفية والقيمية يجعل كل علومنا اجتهادية وكل أعمالنا جهادية الأولى خالية من الإحاطة والثانية من التمام، فلا يبقى فهم الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والمتصوفة كافيا ليكون لهم سلطان على غيرهم، بمنطق الاجتهاد والجهاد فرضا عين كما حددتهما سورة العصر.
وطبيعي أن تكون الرسالة الخاتمة علاجا للداء الجامع لكل الأدواء التي تصيب الإنسانية: وهذا الداء الجامع هو دين العجل، أي التحريف المطلق للديني والفلسفي في آن. والمواقف الخمسة هي التالية:
الموقف الأول؛ عبر عنه الرب مخاطبا موسى: العجلة في ترك المهمة التي هي التربية والحكم بالدين وليس ترك الجماعة لوصي والترهبن.
الموقف الثاني؛ عبر عنه موسى مخاطبا أخاه تحميل الوصي مسؤولية خطا الرسول، الذي لم يقم بالتربية الكافية، ولم يؤسس الدولة التي تواصل حماية التكوين المستمر للمؤمنين حتى لا يفتنوا.
الموقف الثالث؛ عبر عنه السامري مبررا موقفه بثلاث حجج كما رأينا.
الموقف الرابع؛ موقف بني إسرائيل مبررين موقفهم الذي جعلهم يتبعون السامري ولا يسمعون للوصي، مدعين أن ما قدمه السامري هو دين موسى وأنهم سيظلون على فهمه حتى يعود موسى.
الموقف الأخير؛ توجيه الخطاب إلى محمد لبيان دلالة القصة وحقيقة علاج دين العجل، وضرورة العلاج الذي يؤجل الفصل في التأويلات الدينية إلى يوم الدين؛ لأن الدين حرية لا يمكن تغييرها بغير الإقناع الذي اتبعه القرآن في الدعوة.
وبذلك يتبين أن القصة ليست خاصة ببني إسرائيل، حتى وإن كانت الواقعة حصلت معهم. وهي لا تكتمل إلا في آخر الرسالات المتقدمة على الإسلام أي في المسيحية؛ لأن عبادة العجل أساسها الوساطة والوصاية بالمعنى الكنسي، سواء كان دينيا باسم الله أو علمانيا باسم الإنسان؛ لأن كلا منهما يعود إلى دين العجل كما يتبين من النظامين الثيوقراطي والإنثروبوقراطي: فلا فرق بين الكاثوليكية والماركسية في شيء؛ لأن الحزب هو الكنيسة والحكم الحق الإلهي هو الحكم باسم الطبقة.
وإذن؛ فالقصة لا تقتصر على جماعة معينة بل هي تشمل ذروة الأدواء التي تعاني منها الإنسانية كلها؛ لأن تعدد الجماعات ليس إلا نتيجة لتوزيعها في المكان والزمان من أجل الثروة والتراث بمرجعية معنية هي رؤية للعالم وللوجود. والرؤية التي تفسر الظاهرة بالنسبة إلى الإنسانية كلها هي التي تمكن من فهم ما يجري في أي جماعة، بوصفها عينة من الدوافع الكونية التي تحكم سلوك الإنسان من حيث هو إنسان، وهي متعلقة بما يصبح قابلا للرد إلى مكوني العجل أي معدنه رمزا إلى العملة التي تصبح ذات سلطان على المتبادلين، ولا تبقى أداة تبادل وخواره رمزا إلى الكلمة التي تصبح ذات سلطان على المتواصلين ولا تبقى أداة تواصل.
وهذا التحول هو الذي يحرف الدين والفلسفة، ويعود إلى تحول أدوات التبادل والتواصل إلى أدوات سلطان على المتبادلين والمتواصلية، وهو تحريف سياسة عالم الشهادة عندما يصبح العالم الوحيد وتنسى علاقته بعالم الغيب: عالم الغيب هو الذي يضفي النظام والمعنى على عالم الشهادة، الذي لا يكتفي بنفسه؛ لأنه لا يؤسس المعرفة والقيمة اللتين يمتنع من دونهما علاج علاقة الإنسان بالطبيعة والتاريخ وعلاقته بذاته عضويا وروحيا.
استحواذ دين العجل على كل سلطان
والآن فلننظر في كيفية استحواذ دين العجل على كل سلطان في الجماعة من السلطان على التبادل بواسطة معدن العجل والسلطان على التواصل بواسطة خوار العجل. والسلطان يكون على الإنسان بالسلطان على مقومي وجوده، أعني على كيانه العضوي بتوسط السلطان على المائدة وفنها وعلى كيانه الروحي بتوسط السلطان على السرير وفنه. وما يحصل على الفرد فيهما وبهما يحصل على الجماعة فيهما وبهما، ويحصل على الإنسانية كلها فيهما وبهما، بحيث إن الإنسانية يصبح لا دين لها غير دين العجل، وهو ذلك، هو جوهر العولمة المادية في غايتها الحالية.
وهذا السلطان المطلق على مقومات وجود الإنسان فردا وجماعة وإنسانية قاطبة تقبل الرد إذن إلى المسائل التالية، وكلها تعود إلى علاقات الأحياز التي تحيط بالإنسان ويستمد منها قيامه بالأحياز الذاتية للإنسان التي هي عين قيامه. والأحياز التي تحيط بالإنسان هي الطبيعة والتاريخ والثروة والتراث والمرجعية التي توحد بينها في كل جماعة وفي الإنسانية. والأحياز التي في كيان الإنسان هي بدنه (نظير الجغرافيا) وروحه (نظير التاريخ) والثروة (الزاد الذي في بدنه والذي يعيش به لمدة في غياب المائده وفنها) والتراث (نظير التاريخ الذي يعيش به لمدة في غياب السرير وفنه) ووعيه بذاته من حيث هو هو (نظري المرجعية). وكل الإشكال يعود إلى ملكية هذه الأحياز لمن تعود، فتكون المسائل خمسا وهي التالية:
المسألة الأولى: من يملك الثروتين في الذات وفي المحيط (أصل الاقتصاد): كيف تصبح العملة الأداة وأصحاب ربا الأموال الملاك؟
المسألة الثانية: من يملك التراثين في الذات وفي المحيط (أصل الثقافة): كيف تصبح الكلمة الأداة وأصحاب ربا الأقوال الملاك؟
المسألة الثالثة: من يمكن الجغرافيا في الذات وفي المحيط (أصل الأصل الأول): تقاسم المكان وتحقيق تراتب أجزائه؟
المسألة الرابعة: من يملك التاريخ في الذات وفي المحيط (أصل الأصل الثاني): تقاسم الزمان وتحقيق تراتب أجزائه.
المسألة الآخيرة: من يملك المرجعية في الذات وفي المحيط، التي توحد هذه الأحياز في الذات وفي المحيط (أصل كل الأصول)؟
وهذه المسائل تتكرر، فهي في علاقة بالجماعة وأحيازها الخارجية ومنها نصيب للفرد؛ لأن الفرد هو بدروه مؤلف من الأحياز نفسها. وذلك هو السر في دور المائدة والسرير وفنيهما والتوحيد بينهما هو عين الوعي بالكيان، من حيث هو حي ماديا وروحيا، ومن ثم فللمائدة علاقة مباشرة بالجغرافيا الذاتية وبالثروة العضوية، وللسرير علاقة مباشرة بالتاريخ الذاتي وبالتراث الروحي، ويوحد بينهما التعلق بالأحياز الخارجية وبالجماعة:
1 ـ فبدنه هو جغرافيته الذاتية. فمن يملكه؟
2 ـ وملكيته لها هي ثروته الذاتية.
3 ـ وروحه هي تاريخه الذاتي. فمن يملكها؟
4 ـ وملكيته لها هي أصل تراثه.
5 ـ وسلطانه على كيانه الواحد إرادة ومعرفة وقدرة وذوقا ورؤية هو مرجعيته الذاتية.
وما قلناه عن الفرد يقال عن الجماعة الواحدة، ويقال على كل الجماعات ومن ثم على الإنسانية كلها في كل مكان وفي كل زمان. والإسلام من حيث هو دين تحرير الإنسان من الوساطة والوصاية، يترجم ذلك إلى تحقيق هذه الحريات التي لا تتعين إلا في هذه الملكيات التي هي عين حقوق الإنسان إزاء نفسه، وعين واجباته إزاء الله. ولولا وصولي إلى هذه النتيجة، لما فهمت كيف يمكن للفقه الجنائي الإسلامي أن يعتبر عقوبة سرقة الملكية أكبر جريمة، بل إنها أثقل من جريمة قتل النفس.
ولهذه العلة رفضت القول بنظرية المقاصد التي تحولت إلى تبرير أفعال الطغاة بجعل الفقهاء والمتكلمين وكأنهم يترجمون مقاصد الله، وهي كنسية ضمنية تجعلهم وسطاء بين الله والمؤمن، وهم في الحقيقة يحددون الشرائع اتباعا لوصاية الأقوياء على الشعوب وإفقاد الأفراد والجماعات سيادتهم التي تنبع من كونهم خلفاء لا سلطان عليهم بينهم وبينه ربهم. وهذه الرؤية المحررة من الوسطاء في التربية والأوصياء في الحكم، هي التي تترتب على النظام الشامل للواحد المشترك بين الديني والفلسفي بالمعنى الذي يحول دون القول بالمطابقتين.
من يدرس القرآن وهو متحرر من وهم المطابقتين المعرفية والقيمية يدرك أنه يستعرض تاريخ الإنسانية ببعديه في عالم الشهادة وفي ما يفترضه من غيب يعلل وجوده وكونه على ما هو عليه لا يمكن ألا يفهم أنه درس ديني وفلسفي لتكوينية الإنسانية وعلاجها لما تعاني منه من أمراض.
والتحرر من المطابقتين المعرفية والقيمية يجعل كل علومنا اجتهادية وكل أعمالنا جهادية؛ الأولى خالية من الإحاطة والثانية من التمام، فلا يبقى فهم الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والمتصوفة كافيا ليكون لهم سلطان على غيرهم بمنطق الاجتهاد والجهاد فرضي عين كما حددتهما سورة العصر (التواصي بالحق والتواصي بالصبر). أما الحقيقة كما هي عند الخالق والآمر فهي من الغيب المحجوب.
وحينها لا يمكن أن تصبح مقاصد البشر هي مقاصد الله، ولا يمكن لأي كان أن يدعي معرفة مقاصد الله، فيصبح وسيطا بين الإنسان وربه، ما يجعل التربية وساطة وينبني عليها الحكم الذي يسيطر عليها وصيا بحق إلهي. وبذلك تزول كل معاني الشورى 38 بحيث لا يبقى الأمر أمر الجماعة (طبيعة الحكم) تديره بشوراها (أسلوب الحكم) والإشكال فيها الاستجابة للرب أصلا لعلاج علة علل التحريف كلها، أي دين العجل الذي يحول دون الإنفاق من الرزق لوجه الله، وليس للتحيّل في ربا الأموال وربا الأقوال.
وهما الداءان اللذان خصص لهما القرآن أثقل رد من الله عليهما: إعلان الحرب على ربا الأموال (هو سر الاقتصاد الذي يستعبد كيان البشر العضوي بالسيطرة على أداة التبادل وتحويلها إلى سلطان على المتبادلين)، والمقت على ربا الأقوال (وهو سر الثقافة التي تستعبد كيان البشر الروحي بالسيطرة على أداة التواصل وتحويلها إلى سلطان على المتواصلين). وهذان السيطرتان الاستعباديتان هما دين العجل، وهما أداتا الاستعمار المعولم الحالي ليس على الشعوب المستضعفة وحدها، بل على كل الشعوب بما فيها شعوب المافيات التي لها هذان السلطانان. وليس بالصدفة أن من لهم هذان السلطانان هم من صنعوا دين العجل، كما ورد في القصة الواردة في طه من الآية 83 إلى الآية 101.
والمعلوم أن ابن خلدون اعتبر علة فساد معاني الإنسانية تعود إلى التربية والحكم، عندما يصبح الأولى وساطة بين المؤمن وربه، والثانية وصاية بين المؤمن وشأنه. ورمز إلى ذلك بالعنف في التربية والعنف في الحكم، وهما علة كل الأدواء التي تفقد الإنسان القدرة على مهمتيه في الوجود مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها.
والإسلام يعتبر فساد معاني الإنسان هو الخسر كما حددته سورة العصر، ولا يمكن الخروج منه إلا بفروع الوعي به وهي أربعة؛ أصلها الوعي بالخسر وبضرورة التحرر منه. أربعتها مع أصلها تحدد إنسانيته ببعديها تعميرا واستخلافا، وهي مؤلفة من إرادة حرة ليس عليها سلطان غير سلطان ربه، والعلاج هو الفروع الأربعة لهذا الوعي الأصلي الذي هو الجذر الواحد للسؤال الديني والفلسفي:
اثنان هما الإيمان والعمل الصالح، ولا يكونان إلى فرض عين فردي والأول دليل الحرية المطلقة التي ترمز إليها العبودية لله وحده، والثاني دليل تحققها بمعيار قيم الاستخلاف في التعمير.
اثنان هما التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهو فرض عين جماعي، والأول لطلب الحقيقة بالتواصل بين البشر، والثاني لتحقيقها بالتبادل بين البشر.
والأول معياره النساء 1 أي الأخوة البشرية التي يترتب عليها التواصل من أجل الحقيقة وبها، والثاني معياره الحجرات 13 أي المساواة بين البشر، وهي لا تتحقق من دون التعاون والتعاوض العادل.
وتلك هي شروط التحرر من دين العجل بدين الله الذي تتحد فيه الإرادة العاقلة والمعرفة العاقلة. ومن يدرس القرآن وهو متحرر من وهم المطابقتين المعرفية والقيمية يدرك أنه يستعرض تاريخ الإنسانية ببعديه في عالم الشهادة، وفي ما يفترضه من غيب يعلل وجوده، وكونه على ما هو عليه لا يمكن ألا يفهم أنه درس ديني وفلسفي لتكوينية الإنسانية وعلاجها، لما تعاني منه من أمراض تحول دونها وتحقيق مهمتيها معمرة للأرض ومستخلفة فيها.
النخب واشكالية مناعة الأمة العضوية والحصانة الروحية (5)
الإعدام في تونس.. إنفاذ لأحكام فقهية أم أنسنة لعقوبة جزائية؟
هل يفسر الفقر وتراجع مستوى التعليم استمرار الإرهاب؟ (1/ 2)