يقدم الفيلسوف التونسي البروفيسور أبو يعرب المرزوقي، في هذه الأوراق التي تنشرها "عربي21"، بالتزامن مع نشرها على صفحة الدكتور أبو يعرب على صفحته الرسمية، قراءة علمية لواقع النخب في العالم العربي، وعلاقتها بالتغيير المنشود.
ومعلوم أن أولى خطوات العلاج أو الحكم على الشيء تبدأ أولا من التشخيص، وهذا ما انطلق منه الدكتور أبو يعرب في محاولة لتفكيك مفهوم النخبة وعلاقته بالمجتمع في مختلف مكوناته المعرفية والدينية والاقتصادية والسياسية.
وإذ تنشر "عربي21" هذه الورقة على مجموعة من الحلقات، فإنها تسعى لتوسيع النقاش بين المنشغلين بقضايا الفكر العربي حول دور النخب في صناعة التغيير الجاد، وإنجاز مطالب الشعوب في التنمية على جميع المستويات.
عن الحب والسعادة والأسرة
ليس صحيحا أن المال يضمن للمرأة الاستقلال لأنها في غياب ما يجعلها محبوبة تصبح مضطرة لدفع المال حتى تنال حظها من الحب أو على الأقل من الجنس، فتصبح جارية تشتري لحظة سعادة بعرقها ممن يوفر لها ذلك بمقابل تدفعه أي تجارة الجنس المعكوسة.
ومن يلاحظ ذلك بدقة، يفهم الفشل شبه الدائم في العلاقة بين الجنسين لدى من يعتبرون أنفسهم حداثيي،ن قلما ينجحان في تأسيس أسرة مستقرة؛ لأن كلفة الأسرة الروحية وخاصة إزاء الأطفال مما لا يطاق إذا فقد الحب والتضحية، وخاصة من المرأة أو ما يسمى بعاطفة الأمومة.
وكم أتألم لما أرى أحوال الأسر التي تدعي الحداثة وما تعاني منه من حرب دائمة بين الجنسين. لكن نفس هذه المرأة لا تقبل من زوجها أدنى تنازل عن كبريائها، تجدها أذل من حيوان أهلي وديع مع عشيقها، فتقبل تبعية تصل إلى حد العبودية.
وهي تكون في الغالب مستعدة للتخلى عن كل كبرياء، بل وتدفع من مالها لتنال لحظة سعادة ولو في شكل مسرحية "شراء الحبيب"؛ لأن الذكور يمكن أن يكونوا عاهرين مثلما يمكن للإناث أن يكنّ عاهرات. وهذا من الأمور البينة في السياحة وحضور الكثير من الأثرياء ذكورا مخنثين وإناثا محرومات للحصول على "حصة" جنسية دسمة من جوعى وفقراء، لكنهم قادرون جنسيا على إشباع حاجاتهما وذلك بمقابل تؤديه العملة، مصحوب بنقاق تؤديه الكلمة، ما يعني أنه لم يبق من المائدة إلا الأكل ومن السرير إلا الجماع.
معركة السلطة
لم أطل الكلام في هذا المستوى من فشو السلطة في مجالات حميمة بالصدفة؛ لأن وراء كل نهم سلطوي في ما وراء ذلك مما تبدو فيه معركة السلطة أمرا طبيعيا، وهي في الحقيقة من نتائج ما وصفنا في المستوى الحميم؛ ذلك أن كل سلطة بين هذا المستوى الدنيّ من ظهورها والأعمق في كيان الإنسان، والمستوى الأعلى والأكثر سطحية في السياسة بمعنى قوامة أي مجال من المجالات الخمسة التي بيّنا.
فهي تمثل سنفونية نظام الفعل السياسي، هدفها تحقيق أفضل الفرص لنيل ذلك الجزاء العضوي والروحي، ليس بالضرورة بالفعل بل بمجرد الاطمئنان عليه بالإمكان؛ أي بالقوة. فمن يكدس المال مثلا ليس حبا فيه، بل حبا في ما يوفره من سلطة بالفعل أو بالقوة؛ لأنه المال السائل يحقق وظيفتي الملكية لما تصبح ذات فاعلية آنية:
1 ـ القدرة على الاستفادة من كل الفرص في المبايعات؛ لأن أصحاب الملكية العينية قد يضطرون للتفريط ولو بخسارة لعدم التفريط في فرصة لا تنتظر، ومن ثم فالمال السائل أشبه بالقوة الجاهزة لضرب الخصوم في الحين، والاقتصاد يغلب عليه الطابع الحربي؛ لأنه يتلعق بالأرزاق والكبرياء، وهما علة كل الحروب بين البشر.
2 ـ القدرة على تحصيل أي بضاعة أو خدمة قبل أي منافس إذا كنت قادرا على المزايدة عليه بما يتوفر لديك في الحين، وهي إذن ليست أداة حرية فسحب، بل هي أداة سلطان على الزمان (فاعلية في الحين) والمكان (سهلة النقل مع صاحبها). ويمكن القول إن الاقتصاد بضائع وخدمات لم يبدأ حقا إلا معها.
3 ـ وما قلناه عن العملة يقال عن الكلمة؛ لأنها فضلا عن كونها أداة في مجال التواصل ولها مثل العملة في مجال التبادل، فإنها تتبعها؛ لأن كلمة صاحب العملة عملة بمعنى أن وعد صاحبها ليس دينا يغامر من يقبله بل هو أشبه بوعد الحر؛ أي إن المتعامل معه واثق من أنه قادر على الإيفاء.
4 ـ ومن هنا، فإن العملة يمكن أن تصبح أداة تواصل، وأهم علاماته هو رمزية الهدايا التي تترجم عن التضحية بالمال من أجل الحب، وكل حب النساء للحلي علته أمران: الشعور بأنها غالية عند صاحب الهدية، والشعور بأنها بذلك تفضل غيرها من المنافسات. ولا توجد امرأة لا تعتبر غيرها من النساء منافسات محتملات على الذكور.
والعكس صحيح بالنسبة إلى الرجال في التنافس على النساء. فكلا الجنسين بوعي أو بغير وعي يعتبران تبادل الوظيفة بين أداة التبادل وأداة التواصل، أمرا ضروريا في التنافس على الجنس بالمقابل مع الجنس نفسه.
5 ـ ولولا هذا الجذر العميق، لاستحال أن يدمن الإنسان على السلطة السياسية، وهو ما يكاد شبه مستحيل تحريرها من الاستبداد للحفاظ عليها بمنع المنافس والفساد للحصول على أداة التبادل وأداة التواصل في خدمة السلطة التي يتشبث بها. فالسياسي بمعنى القوامة أي من حيث هو إحدى الوظائف الخمس، يعسر أن يتحرر من دين العجل أي من معدنه (سلطان العملة أو ربا الأموال أداة إفساد الإرادات) وخواره (سلطان الإيديولوجيا أو ربا الأقوال أداة إفساد العقول).
ونادرا ما يكون المدمن على السلطة بريئا من هذين المرضين ومن ثم من عبادة العجل. وليس ذلك خاصا بالسياسة بمعناها الحصري في قوامة الحكم والدولة، بل بالمعنى الأعم الذي يشمل المعرفة والقدرة والذوق والرؤية. لكن هذه لا تصل إلى استعمال ربا الأموال وربا الأقوال إلا بتبعيتها للقوامة السياسية، التي لها سلطة التنفيذ الفعلي بما لها من سيطرة على أدوات فعل الدولة؛ أي إدارة مؤسسات السلطة اللطيفة والسلطة العنيفة.
فهي كلها مجال إرادة عاقلة أو غير عاقلة، وهي كلها مجال فشو السلطة التي يمكن أن يتأله صاحبها فيطغى ويعبد دين العجل، ويمكن أن يتحرر منه بالإسلام ولا وجود لغير الإسلام بلسما من هذا الداء. ولكن قبل الكلام عن البلسم، لا بد من بيان عمل بعدي العجل في سلوك الإنسان الاقتصادي (قيم ما يسد الحاجات المادية) والثقافي (قيم ما يسد الحاجات الروحية) وتبادل والوظيفة بينهما بأن يكون كلٌّ منهما غاية أو أداة، وبهما يتحدد سلم القيم بنوعيه.
اقرأ أيضا: النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (1)
اقرأ أيضا: النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (2)
اقرأ أيضا: النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (3)
النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (3)
النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (2)
النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (1)