قضايا وآراء

جذور العنصرية في التاريخ الأمريكي (2)

1300x600
لم تكن العنصرية الغربية سلوكا عمليا أو تشريعا قانونيا وحسب، بل لعل الأخطر أنها كانت مبررةً بنظريات علمية. فقد تبنى علماء في جامعات هارفارد وبرينستون وكولومبيا أن الأفارقة هم حلقة الوصل بين القردة العليا وبين البشر، وهو ما أسس بداهةً لفكرة التفوق الأبيض " White supremacy" التي قادت إلى مسلسل تاريخي مرعب من الإبادة والاستعباد والعنصرية.

هذا يذكرنا بأهمية أبسط المبادئ التي يرسخها القرآن، والتي قد نغفل عنها لشدة اعتيادها وبداهتها: "هو الذي خلقكم من نفس واحدة".

في عام ١٨٥٩، بعد ثلاثة أشهر من نشر تشارلز دارون كتابه "أصل الأنواع"، أعلن منظم عروض سيرك أمريكي واسمه بي تي بارنوم؛ عن عرض في متحفه بنيويورك بعنوان "الإنسان القرد" . تم إخبار الزائرين أن المخلوق المعروض قد اصطيد في أفريقيا بعد أن اكتشف الصيادون جنسا من المخلوقات يتنقل بين الأشجار مثل القرود، وصرح فريق المتحف أن هذا الكائن وصفه العلماء بأنه حلقة الوصل بين الأفارقة السود والحيوانات الأدنى!

لم يكن ذلك المخلوق المعروض سوى رجل أمريكي أفريقي تمت تسميته بـ"وليام هنري جونسون"، وقد قضى جونسون معظم حياته في المعارض العامة.

وصرحت صحيفة نيويورك تريبيون تعليقا على الإنسان المعروض في دور السينما؛ بأنه خليط بين القرود والأفارقة، وقد بارك علماء طبيعة في ذلك الوقت هذا الوصف.

في عام ١٨٨٠ كانت هناك فتاة اسمها كراو، تم الترويج لها بأنها دليل على نظرية دارون لانحدار الإنسان، بينما لم تكن تلك الفتاة الصغيرة التي يرجع أصلها إلى جنوب شرق آسيا إلا أنها تعاني من زيادة نمو الشعر فوق جسمها.

لم يكن انتزاع الأفارقة من إنسانيتهم وتحويلهم إلى عروض مسلية، في الحالة الأمريكية معزولاً عن الحالة الغربية عموماً، ففي عام ١٨١٠ اختطفت فتاة أفريقية مما صارت تعرف لاحقا باسم "جنوب أفريقيا" وقد أسماها خاطفوها "سارة باتمان"، ووضعت في معرض للجمهور الأوروبي بسبب جسمها وأردافها العريضة.

وجاء العديد من الناس لمشاهدتها لاعتقادهم بأنها ليس إنساناً. وحين ماتت شرَّح جراح فرنسي جسمها واستنتج أنها تملك خصائص تشبه القرد. وقد استعادت حكومة جنوب أفريقيا جثمانها عام ٢٠٠٢ من المتحف الفرنسي الوطني في باريس، حيث بقيت معروضةً لأكثر من 150 عاماً.

في مقال له في الجزيرة الإنجليزية في نيسان/ أبريل الماضي، ينقل الناشط في حقوق الإنسان من زيمبابوي كارستين نوكو عن جوزيف كونراد في كتابه "قلب الظلام" الذي كتبه عام 1899؛ أنه طرح سؤالاً إن كان الناس الذين قابلهم في أفريقيا هم حقاً آدميون، وارتأى: "لا، إنهم ليسوا غير آدميين".

ويعلق كارستين: "لقد كان أسوأ ما في رأيه هو شكه في أنهم غير آدميين، ومن الطبيعي لشخص مجرد أن يطرح مثل هذا السؤال أن يتقبل فكرة "إنسانية من الدرجة الثانية" التي تسمح بنزع أملاك والتجارة في البشر".

استفاد المستعمرون البيض في أمريكا من استعباد الأفارقة اقتصاديا، فتحول الرقيق إلى العمود الفقري للاقتصاد الأمريكي خاصة في جنوب أمريكا. وبحسب المؤرخ هاورد زن، فإنه ما بين عامي ١٧٩٠ و١٨٦٠ ارتفع إنتاج القطن في الجنوب من ألف طن إلى مليون طن سنويا، وفي ذات الفترة الزمنية ارتفع عدد المستعبدين من نصف مليون إلى أربعة ملايين.

دفعت الظروف القاسية وامتهان الكرامة التي عاشها المستعبدون إلى تحريض أعداد منهم نحو التمرد والثورة. ففي عام ١٨١١ اندلع تمرد بالقرب من نيو أورليانز شارك فيه حوالي ٤٠٠ مستعبد، فهاجمهم الجيش الأمريكي وأنهى تمردهم. وفي عام ١٨٢٢ حاول رجل أسود حر اسمه دينمارك فيرسي إطلاق تمرد في جنوب كارولينا، لكن السلطات قامت بشنقه هو وأربعة وثلاثين فرداً آخرين. وفي عام ١٨٣١ قاد رجل مستعبد في فيرجينيا اسمه نات تيرنر سبعين مستعبدا معه للثورة عبر المزارع، وقتلوا أكثر من خمسين من سادة المزارع حتى نفدت ذخيرتهم وألقي القبض عليهم وأعدموا.

فريق آخر من المستعبدين الأفارقة بدأوا بالهروب نحو الشمال وكندا والمكسيك، وقد تحول الهروب إلى عمليات منظمة واسعة النطاق. ونظمت امرأة سوداء اسمها هاريت توبمان بعد هروبها من العبودية، 19 رحلة رجوع، مخاطرة لمساعدة المستعبدين على الهروب عبر السكك الحديدية تحت الأرض، وكانت تقول لهم: "ستكونون أحرارا أو موتى".

عرفت أمريكا الرسمية فضل توبمان لاحقاً فكرمتها لدورها البطولي في تحرير العبيد، وأقيم لها متحف في كامبريدج. وفي عام ٢٠١٦ طبعت صورتها على فئة العشرين دولارا.

انبعث صوت الضمير، وتعاطف أقوام من الأمريكيين البيض مع المستعبدين ودعوا إلى إعتاقهم، وبدأوا يكتبون مقالات في الصحف ويلقون خطابات ضد الاستعباد، وقاموا بالتعاون مع النشطاء السود بتنظيم شبكات لمساعدة المستعبدين على الفرار وتوفير بيوت آمنة لهم طوال الطريق.

كانت من بين الحركات التي لعبت دورا في تحرير المستعبدين؛ جماعة الكويكر الدينية. وقد كانت هذه الجماعة، التي يتسم أفرادها بالسلام النفسي ورفض العنف، سابقةً في اتخاذ موقف أخلاقي وعملي، إذ أطلقوا عريضة جيرما تاون في عام ١٦٨٨ ضد العبودية، واستندت تلك العريضة على قول الإنجيل "افعلوا مع الآخرين ما تريدون منهم أن يفعلوه معكم"، وحثت على إعتاق الرقيق، وأكدت أن كل إنسان، بغض النظر عن لونه ومعتقده وعرقه، له حقوق يجب ألا تنتهك. وأكدت العريضة على حق المستعبدين في التمرد. وبالإضافة إلى الجانب الأخلاقي، فقد حذرت عريضة الكويكر من أن استمرار العبودية في أمريكا سيمنع هجرة مزيد من المهاجرين المحتملين من أوروبا إلى الأرض الجديدة.

بعد قرنين ونصف من الاستعباد القانوني للأفارقة، وفي عام ١٨٦٤، أقر مجلس الشيوخ الأمريكي تعديلا تاريخيا في دستور الولايات المتحدة وهو التعديل الثالث عشر، يلغي الاستعباد إلا ما يطبق منه كعقوبة على الجرائم، وبذلك ألغي الرق رسميا في الولايات المتحدة، لكن ذلك لم يعن تحقيق المساواة الاجتماعية والاقتصادية للسود، ولبس التمييز أثوابا جديدة من قوانين التمييز وسوء تطبيق القانون بحقهم، والنظر إليهم بدونية، واستغلالهم في العمل.

يتبع..

twitter.com/aburtema