تحتلّ شركات الإنتاج السينمائي موقعاً متقدماً ضمن أهم وأخطر مؤسسات البروباغاندا في أمريكا، التي تروّج لكل ما هو أمريكي ثقافياً وسياسياً، ولا يقلّ دورها أهمية عن دور القوى العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية في معارك الهيمنة وحماية المصالح الأمريكية حول العالم.
وبوصفها الصناعة الأكبر عالمياً في مجالها، ولتمتعها باستقلالية ليبرالية كاملة، فإن
السينما الأمريكية تمتلك قوة تأثير هائلة، داخل البلاد وخارجها، تمكنها من قيادة الرأي العام وتغييره وصناعته، بما في ذلك مراجعة السياسات والتوجهات والقرارات وتقييمها، ونقدها نقداً شديداً إذا تطلّبت المصلحة الوطنية ذلك.
ومنذ نشوئها بداية القرن العشرين، انتجت صناعة السينما الأمريكية أفلاماً لا حصر لها، واكبت المحطات التاريخية، والتحولات الاجتماعية، والأحداث السياسية الكبرى في القارة الشمالية، منذ المستوطنة الأولى للمهاجرين البيض القادمين من أوروبا، وحتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وما تلاها من حروب شنتها أمريكا على دول مثل أفغانستان والعراق، وعلى جماعات إرهابية مسلحة في أكثر من قارة.
والمتتبع للسينما الأمريكية يلاحظ أنها كرّست إمكانياتها الهائلة، ووضعت قوتها الناعمة شديدة التأثير، خلف صانع القرار السياسي في محطات مفصلية محددة، أهمها قرارات المشاركة الأمريكية في الحربين العالميتين الأولى والثانية، والانخراط في الحرب الباردة ضد المد الشيوعي العالمي إبان الحرب العالمية الثانية، وحركة الحقوق المدنية في أمريكا إبان ظهورها في الستينيات، وسياسات ما سمّي بالحرب على الإرهاب إبان التسعينيات ومطلع الألفية.
وفي مقابل التحشيد المعنوي الذي قدمته السينما الأمريكية، بالتوازي مع السياسات العامة للإدارة الأمريكية، وإبداعات هوليود الخالدة في تكريس النموذج الأمريكي بوصفه الضامن لقيم الخير والعدل والحرية، بل والمحتكر لهذه القيم دون غيرها من النماذج، حتى المشابهة لها في أوروبا... في مقابل هذا التزاوج بين الفن والسياسة، تبرز الحرب الأمريكية على
فيتنام (1955- 1975)، مثالاً شاذاً على التعارض بين ليبرالية هوليود وتقليدية العاصمة واشنطن في التعاطي مع ذلك الملف.
تبنّت السينما الأمريكية الاتجاه المعارض للحرب على فيتنام، متخذة من الانقسام المجتمعي الكبير حيالها، ذريعة لدحض المبررات السياسية لتلك الحرب، وفضح الممارسات اللاأخلاقية للجيش الأمريكي في ذلك البلد البعيد والضعيف.
وأنتجت هوليود مجموعة من الأفلام المتقنة الصنع، أزالت من خلالها ورقة التوت عن عورة المؤسسة السياسية التي ورّطت البلاد في تلك الحرب، وكان لتلك الأفلام تأثير هائل في ضمير الشعب الأمريكي، دفع المؤسسة السياسية إلى تجنّب الخوض في حروب مباشرة مدة تزيد عن الربع قرن.
ومن أهم الأفلام التي نقدت الحرب على فيتنام، فيلم (The deer hunter) 1978، للمخرج مايكل سيمينو. وفيلم (Apocalypse now) 1979، للمخرج فرانسيس فورد كوبولا. وفيلم (Platoon) 1986، للمخرج أوليفر ستون. وفيلم ( Full metal jacket) 1987، للمخرج ستانلي كوبريك.
رصدت هوليود الانقسام المجتمعي الأمريكي حيال الحرب على فيتنام، فاستجمعت شجاعتها لتعلن الحرب على المؤسسة الأمريكية، وأطلقت يد مخرجيها الكبار لينقلوا الصورة الرهيبة لتلك الحرب، ويضعوها أمام المواطن الأمريكي عارية من غير رتوش، مستغلين الخسارة الكبيرة في الأرواح التي ناهزت ستين ألفاً، إضافة إلى الخسائر المادية والمعنوية التي تكبدتها البلاد جراء تلك الحرب الطويلة.
دحضت هوليود ذرائع الحرب التي ساقتها المؤسسة السياسية، ونجحت في فصلها عن سياق الحرب الباردة، وقدمتها للمواطن الأمريكي بوصفها حرباً عبثية لاأخلاقية.
الدور الذي قامت به هوليود تجاه الحرب الفيتنامية، وعدّ مَعْلماً في تاريخ السينما الأمريكية، لم يتكرر في صفحة أخرى أحدث من صفحات التاريخ الامريكي، هي صفحة الحرب على
العراق 2003.
فبرغم اقتراب الذكرى العشرين لتلك الحرب، لم تسع السينما الأمريكية إلى النفاذ إلى أسرارها وبواطنها العميقة كما فعلت في الموضوع الفيتنامي.
وبرغم انتاجها لعشرات الأفلام التي تناولت تلك الحرب، كلياً أو جزئياً، إلا أنها لم تنتج فيلماً جامعاً يمكن أن يعدّ العمل المفتاحي (Masterpiece) الكاشف عن حقيقة تلك الحرب من حيث، الأسباب والمجريات والخفايا والتفاصيل.
ولسد النقص وتبييض سجلها، احتفت هوليود عام 2009 بإنتاجها فيلم (The hurt locker) للمخرجة كاثرين بيغيلو، الذي يتناول موضوع الاحتلال الأمريكي للعراق. وتوجته بأهم الجوائز السينمائية، ووصفه أهم مخرجي هوليود جيمس كاميرون، بأنه تحفة سينمائية لا تقل فنياً عن فيلم (Platoon).
وإذا كان فيلم (Platoon) استحق، من ناحية الشكل والمضمون، صفة التحفة الفنية، فإن فيلم (The hurt locker ) لا يرقى إلى مستواه في أبسط معايير المقارنة.
فالفيلم الأول يعدّ من أكثر الأفلام جرأة على نقض فكرة الجيش الأمريكي الذي لا يقهر. بل أن كاتب الفيلم ومخرجه أوليفر ستون، وظف براعته السينمائية الاستثنائية في اقتناص اللحظة التاريخية الأضعف في تاريخ الإمبراطورية العظمى، في حربها الفيتنامية أواخر الستينيات، ليخلّد لحظة تمرّغ أنفها بالوحل.
يصور الفيلم الجيش الأمريكي ضعيفاً مشتتاً عاجزاً عن مواجهة المقاومة الفيتنامية في غابات بلادها، وبين سكان قراها المساندين لها. ويصور الفيلم الجندي الأمريكي خائفاً من عدوه، وشاكياً من قسوة ظروف القتال الجهنمية التي رمته القيادة السياسية والعسكرية في أتونها من دون إعداد كاف، وإسناد لازم بالمعدات ووسائل الاتصال.
وبلجوئه إلى استخدام الأسلحة الأشد فتكاً، والقصف الجوي الذي لا يميز جنوده من جنود عدوه، ولجوئه إلى أشكال الإبادة وإعدام المدنيين وإحراق القرى، يظهر الجيش الأمريكي أضعف وأكثر ارتباكاً. ويغرق في انقسامات وصراعات بين ضباطه تصل حد تآمر بعضهم لقتل زميل لهم خشية فضح إعمالهم غير الأخلاقية.
ويلخص الفيلم حالة الهزيمة بعبارة على لسان بطله بالقول: "نحن لا نقاتل عدواً خارجياً، إنما نقاتل أنفسنا والعدو الكامن فينا".
مقارنة بهذا النقد العنيف، لا يعدو فيلم (The hurt locker) أن يكون بروباغاندا متقنة الإخراج، برغم عيوب واضحة سببها اضطرار مخرجته إلى اختيار الأردن مكاناً للتصوير وليس العراق.
لا يتطرق الفيلم إلى تهافت مبررات الحرب على العراق، بل يتساوق مع الدعاية التي روجتها المؤسسة السياسية الأمريكية للدوافع الإنسانية للحرب، وأهمها تحرير الشعب العراقي من نظام الحكم الديكتاتوري. ويبرز بطل الفيلم، الضابط المتخصص في إبطال العبوات الناسفة، حريصاً على سلامة العراقيين، وحماية أرواحهم، كحرصه على حماية أرواح الجنود الأمريكيين.
وتبلغ البروباغاندا السينمائية ذروتها في مشهد ضابط المفخخات، وهو يجري وحيداً في شوارع بغداد، بين حشود العراقيين، في محاولة منه لإنقاذ حياة طفل عراقي.
بعد مرور ما يقارب العشرين سنة على الاحتلال الأمريكي للعراق، ما زالت هوليود بعيدة عن توظيف نفوذها السحري في الموضوع العراقي. فمجساتها الحساسة لم تستشعر انقساماً قوياً في هذا الموضوع داخل الرأي العام الأمريكي. وهي مثل غيرها من مراكز التأثير وجماعات الضغط، لا ترى ضرورة ملحة لفتح هذا الملف الشائك، لا سيما والمؤسسة العسكرية التي ما زالت منخرطة فيما يسمى الحرب على الإرهاب.
وعلى الرغم من أن العالم كله بات مدركاً تهافت الربط بين احتلال العراق والحرب على الإرهاب، إلا أن هوليود بقدراتها المذهلة على قراءة أحداث التاريخ السياسي، ما زالت تنأى بنفسها عن هذا الصداع.