كتبت في مقالي السابق، أني أعول على الأبطال الليبيين،
ثوار فبراير، أن يواصلوا نضالهم ضد المنقلب المجرم "خليفة حفتر" ويدحروا
مليشياته المرتزقة. وقد صدق حدسي، واستطاعوا بعد تحرير كل مدن الساحل الغربي، أن يواصلوا
انتصاراتهم ويحرروا قاعدة "الوطية"، مركز الثقل العسكري للمنقلب "حفتر"،
والتي تصله فيها الأسلحة والذخائر والعتاد والمركبات العسكرية والصواريخ.. إلخ؛ من
كل روسيا وفرنسا والإمارات ومصر والأردن، وغيرهم ممن سنذكرهم فيما بعد.
وألحقوا به هزيمة كبيرة، امتدت إلى مدينتي "الأصابع"
و"مزدة" ومناطق أخرى جنوب العاصمة "طرابلس"، وأحكموا السيطرة
على كافة المعسكرات التي كانت تتمركز فيها مليشياته جنوب طرابلس، ما مكنهم من فرض
حصار كامل على مدينة "ترهونة" معقل المنقلب "حفتر" الشخصي
والرمزي، وآخر حصن له في الغرب، مما منع وصول أي إمدادات لها، وأصبحت قاب قوسين أو
أدنى من السقوط.
وبسقوط "ترهانة" بإذن الله؛ يكون الغرب الليبي
بأكمله حتى الحدود التونسية ومعبر رأس جدير، قد طهر تماما من كل المليشيات
الحفترية.
وما حدث في تونس مؤخرا من فوضى مصطنعة وحرائق مفتعلة
لزعزعة استقرارها والانقضاض على التجربة الوليدة الفريدة في عالمنا العربي للإجهاز
عليها، ما هو إلا رد فعل على انتصارات قوات الوفاق، وأن تونس وقفت محايدة ولم
توافق على مساندة الانقلابي، رجل الثورة المضادة، فجن جنون قادتها وأرادوا معاقبة
تونس وإحداث انقلاب فيها..
لا شك في أن دخول "تركيا" إلى ليبيا وإبرامها
المعاهدات العسكرية مع حكومة الوفاق، الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا، قد غيّر
موازين القوى، فمساعدتها العسكرية واللوجيستية اللامحدودة التي زودت بها الجيش
الوطني الليبي قد غيرت المعادلة في طرابلس لصالح حكومة السراج؛ ما أزعج الدول التي
تدعم حفتر، وهي كثيرة كما ذكرنا آنفا. فلقد اجتمعت ضباع العالم كله حول ليبيا، تنهش
في لحمها وتأخذ ما يستطيع أخذه، ثم تجري تاركة ليبيا تغرق في دمائها.
ولكل مطامعه وأهدافه الخاصة في ليبيا، إلا أنهم اتفقوا
جميعا على أن السبيل الوحيد الذي يمكنهم من نجاح مهمتهم أن يكون الحكم في ليبيا
عسكريا ويتولاه عسكري تابع لهم، فإن كانت دول الغرب كلها تطمع في بترول ليبيا، فلن
تستطع الحصول عليه إلا من خلال عسكري خائن لبلده ولشعبه.
أما محور الشر في المنطقة، الذي تتزعمه دولتا الإمارات
والسعودية، مركز الثورات المضادة الذي تدار منه المؤامرات ضد الأمة بمساعدة
الموساد والسي آي إيه CIA. ويهم دول هذا المحور في المقام
الأول ألا تنجح ثورة ليبيا؛ كي لا يُقام نظام ديمقراطي فيها يحتذى به في المحيط
العربي، وتمتد رياحه إلى عروشهم فتهوي وتذهب مع الريح، لذلك دأبت منذ البداية على
إجهاض الثورة الليبية، كما أجهضت باقي ثورات الربيع العربي، في وسوريا واليمن وبانقلابها
في مصر بعد نجاح أول تجربة ديمقراطية فيها وانتحاب رئيس مدني بإرادة شعبية.
وكانت الثورة الليبية في الطريق إلى ذلك، بل أكثر، فقد
تلافت أخطاء الثورة المصرية، فهي الثورة الوحيدة من ثورات الربيع العربي التي اكتملت
أركانها وكانت تسير في الطريق السليم، طريق الثورات الوهاجة التي تثور على كل ما هو
قديم فاسد وتهدمه لتبني من جديد، ولكن قوى الشر العميلة في المنطقة التي تحركها
الأيادي الصهيو-أمريكية، لم تمهلها وقتا للبناء، وأتت برجلها الذي تربى في أحضان CIA..
أدخلوا قوى البلد في صراعات مع بعضها البعض، وتنفس فلول
النظام القذافي الصعداء، وخرجوا من جحورهم معلنين عن مساندتهم للانقلابي
"حفتر"، وتقسمت ليبيا إلى شطرين حتى الآن، ولكل منهما حكومته، شطر شرقي
يتزعمه الانقلابي، رجل الثورة المضادة "حفتر"، وشطر غربي يتزعمه
"السراج" ويُعترف بحكومته دوليا. ومن السخرية بمكان أنهم يعتبرونها
الحكومة الشرعية، بينما هم يدعمون المنقلب العجوز، سرا وعلنا.
وحينما أرسلوا مبعوثا للأمم المتحدة لحل الأزمة التي
صنعوها، اختارته الإمارات واشترته بمالها الحرام كي يظل تابعا لها، لهذا لم يكن
منصفا ولا محايدا. ولم يُضبط متلبسا يوما بإدانة ما يفعله حفتر من جرائم في بنغازي
أمام رؤوس الأشهاد، جرائم تصنف دوليا كجرائم حرب يُعاقب عليها مرتكبوها.
كما أن ذلك المبعوث غض الطرف عن شحنات الأسلحة الكثيرة التي
كانت تصل إلى حفتر من كل بقاع الأرض، وآخرها المفاجأة الثقيلة التي فجرها مندوب
الكيان الصهيوني لدى الأمم المتحدة "داني دانون"، عندما كشف عن إرسال
إيران أسلحة متطورة إلى "حفتر" في ليبيا، وقد وثقها في رسالة بعث بها
إلى مجلس الأمن في 8 أيار/ مايو؛ يقول فيها إن إيران خرقت قرارين لمجلس الأمن، هما
القرار 2231 الصادر عام 2015 والمتعلق بمنع نقل أو تصدير أو تزويد أو بيع أسلحة من
إيران إلى جهات أخرى، والقرار 1970 الصادر في عام 2011 والمتعلق بحظر تصدير السلاح
إلى ليبيا. كما أنه يشير في رسالته إلى أنه تم التقاط صور لأسلحة إيرانية الصنع من
طراز "دهلاوية"، وهو سلاح مضاد للطائرات ويُعد نسخة عن "الكورنت
الروسي"، وهو يستخدم من قبل قوات موالية لحفتر في ليبيا..
حتى إيران دخلت على الخط، ولم لا وقد أصبحت ليبيا مغرما للجميع؟ فإيران ترى في حفتر صورة مصغرة من القذافي ومن حليفها السفاح بشار الأسد، الذي
يدعم حفتر ويرسل له الجنود السوريين الموالين لنظامه، كي يقاتلوا مع فلول القذافي
الذين هم في خندق حفتر، ويخضون معا الحرب ضد ثوار ليبيا!
إيران ترى أن الوقوف بجانب المليشياوي المجرم
"حفتر" وتعزيز وضعه وتقويته، ينعكس بطبيعة الحال على تقوية أسدها الذليل
القابع في قصره المنيف في دمشق، كخيال المآتة.
كما أن إيران تريد أن يبقى الحال كما هو عليه في ليبيا،
في حالة اقتتال مستمر، كي ينشغل العالم عنها وينسى مشروعها النووي إلى أن تكمله
بهدوء دون منغصات ولا مناكفات..
نعم، لِمَ الدهشة من دخول إيران أرض المعركة في ليبيا
وقد دخلتها ضباع الأرض جميعا، أليس من حق الضبع الإيراني أن يكون له نصيب من
الغنيمة؟ أليست إيران قوة إقليمية كبرى في المنطقة، ولن تسمح للمارد التركي الذي
يدعم حكومة الوفاق بأن يسحب البساط من تحت أقدامها ويمتد إلى سوريا أيضا، خاصة بعد
سيطرته على أجزاء كبيرة من شمال سوريا، فكان لزاما عليها الوقوف مع الطرف الآخر
المنقلب وتقويته كي لا ينتصر الجانب التركي الممثل للمحور السني في المنطقة؟
ويشاركها نفس التخوف من انتصار تركيا؛ الجانب الأمريكي
أيضا. فعلى الرغم من ارتياح أمريكا لإفشال مخطط روسيا في ليبيا وهزيمة السلاح
الروسي في معركة "طرابلس" الأخيرة، بعد تدمير عدد من منظومات الدفاع
الجوي الروسية المتطورة، فهي لم تكن راضية على النفوذ الروسي في ليبيا، إلا أنها
في الوقت ذاته لها مخاوفها من تنامي الدور الإقليمي التركي بزعامة الرئيس
"أردوغان"، بما يمثله من اتجاه إسلامي على الوضع في ليبيا، وخاصة أن الانتصار
الكامل لقوات الوفاق بمكونها الإسلامي المعروف، قد يمتد إلى باقي مناطق ليبيا،
وربما تمتد روحه لخارجها، فيتنفس إخوانه الصعداء ويعطيهم الأمل لتكملة مشروعهم الذي
أجهض من قِبلهم، وهي قوى غير مرغوب في تصدرها المشهد في المنطقة، لأنه يتعارض مع
مصالح أمريكا وأهدافها في المنطقة، ومن شأنه إضعاف "حلفائها" وربما
هزيمتهم، أقصد عملاءها في المنطقة؛ الذين يقفون على الجانب الآخر ويدعمون
"حفتر"..
لهذا سارع وزير خارجية أمريكا "بومبيو" للاتصال
برئيس حكومة الوفاق "فايز السراج"، وطلب منه وقف إطلاق النار وتجميد
العملية العسكرية الكبيرة الجارية لتحرير "ترهونة"، منعا للانكسار
الكامل للمنقلب "حفتر". فعلى الرغم من هزيمته العسكرية وانتهائه عمليا،
إلا أن المشروع الدولي لا يزال قائما ومستمرا في ليبيا، فما "حفتر"
إلا واجهته الأمامية فقط، لذلك يفكرون الآن باستبداله بعميل آخر يكمل مشروعهم الانقلابي..
ولم يكن الكيان الصهيوني بالطبع بعيدا عما يحدث على الأراضي
الليبية، بل كان ضلعا أساسيا فيه، ليس في التخطيط فقط في غرفة عمليات مركز "الثورة
المضادة"، بل عمليا أيضا. فقد كشف مؤخرا مصدر عسكري تابع لحفتر، عن سحب
منظومتي دفاع جوي إسرائيلية تم تركيبها بمدينة "ترهونة"، وأن هذه
المنظومات أعاقت الطيران المسير التركي من الإغارة على المدينة طيلة الفترة
الماضية.
وأكد المصدر أن خبراء عسكريين إسرائيليين وفرنسيين وروسا،
إضافة إلى المنظومات، تم تهريبهم من قاعدة الوطية إلى تونس والمنطقة الشرقية بتغطية
جوية. وأضاف أن أكثر من 200 آلية عسكرية انسحبت من قاعدة الوطية، بينها تسع آليات
عسكرية إسرائيلية، تحمل قرابة 30 منظارا ليليا إضافة إلى منظومة تشويش إلكتروني
إسرائيلية، ناهيك عن أكثر من 120 قناصة إسرائيلية متطورة، خلال فترة الهدنة التي
تلت عملية سيطرة قوات الوفاق على مدن الساحل الغربي لليبيا.
وتابع بأن إسرائيل سحبت كل ما يتعلق بها في محاور غرب
ليبيا من معدات عسكرية؛ كي لا يكون عليها أي دليل لدعم "حفتر" بعد
حصولها على معلومات تفيد بانشقاق مقاتليه، ما يتيح دخول قوات حكومة الوفاق
للمعسكرات والمدن التي يسيطر عليها حفتر..
إن ثوار فبراير الأبطال، أحفاد المختار، يواجهون حربا كونية من كل ضباع الأرض، وإن ربهم لقادر على نصرهم وسحق كل أعدائهم، وما الهزيمة
العسكرية التي لحقت بأعدائهم في الغرب الليبي إلا قطرة من غيث سيمطر عليهم، بإذن
الله..
إن تحرير الغرب الليبي خطوة هامة في طريق طويل وشاق ضد
الثورة المضادة وإفشال مشروعها الانقلابي في المنطقة. وكما قلنا في مقال سابق، فإن
معركة طرابلس معركة فاصلة بين قوى الثورة وقوى الثورات المضادة. إنها الفيصل بين
الحق والباطل، والحق لا بد أن ينتصر مهما طال أمد الباطل.
twitter.com/amiraaboelfetou