1- شجاعة في زمن الحرية
ادعاء أي سياسي أو كاتب أو إعلامي الشجاعة اليوم في تونس لم يعد ينطلي على أحد بعد هروب ابن علي، وبعد أن أصبحت الحرية مثل ماء المطر كل يشرب منها ويبتل بها دون كلفة ودون جهد.
الشجاعة لم تعد إلا في مواجهة النفس الأمارة بالسوء والمسكونة بالغرور والأنانية والعُجب حتى لا تدعي ما ليس فيها ولا تدعي باطلا على الآخرين وحتى لا تستسهل العراك والسباب والشتائم والتحريض والدعوة إلى الفوضى.
أغلب الذين يصرخون اليوم ويفتعلون معارك وهمية ويبالغون في استعمال مفردات من قاموس "الفروسية" هم ممن يعانون عقدة نفسية، وفيهم من اهترأت بطونهم من الزحف واحدودبت ظهورهم من الانحناء؛ يريدون اليوم الثأر لأنفسهم من أنفسهم الجبانة حين كان للكلمة ثمنها وحين كان انتزاع مساحة من الحرية شرفا وبطولة.
المهزومون أولئك هم من سمموا ماء الحرية حين تخبطوا فيه، إذ ما زالوا يعانون حالة الصرع اللاإرادي. وهؤلاء هم من حفروا في مناطق صخرية من الذات لتفجير الأحقاد والكراهية، وكانوا يثأرون لأنفسهم ولم يكن يعنيهم شأن وطني ولم يكونوا مسكونين بأشواق ثورة.
بعد هروب ابن علي أصبح التونسيون أمام اختبار تاريخي: ها أنتم تطيرون في سماء بلا سقوف ولا حدود، ها أنتم تسبحون في بحر أرحب وأعمق من أحلامكم مجتمعة، ها هي تونس تستعيدكم وتستعيدونها، ها أنتم قبالة بعضكم بلا حواجز ولا رقيب، فافعلوا ما تؤكدون به كونكم كنتم مظلومين وممنوعين ومجبرين على القعود والعجز والصمت.
2- من الشجاعة إلى الحكمة
كانت المرحلة تحتاج حكمة وعقلانية لا تهورا وشعارات وصراخا، كنا بحاجة إلى فنون إدارة الاختلاف من أجل استخراج أجمل ما في أعماقنا من الحب والشوق والصدق والإيثار والإبداع والكرامة والوطنية.
بعد تسعة أعوام لم نغادر منطقة التجريب، ولم ننطلق في المسار الصحيح، ولم نتوصل إلى" ميثاق" سياسي/ أخلاقي يرسم حدود الالتقاء وكيفيات التعامل من أجل البلاد والعباد.. "ميثاق" يتحمل الجميع فيه وبه مسؤولياتهم أمام الله والناس والتاريخ، حتى لا نظل نتبادل التهم دون أن نكون قد حددنا ما يجب وما لا يجب، ما يجوز وما لا يجوز. كان متاحا إعفاء البلاد مما هي فيه الآن من صداع.
إن أقرب طريق إلى الحق هو إلزام النفس به، وإن أسرع طريق لحل المشاكل هو تحديد مسؤولياتنا فيها والتعجيل بإصلاح ما أفسدناه وما تسببنا في تطيله.
إن المنطلقات الخاطئة تنتهي دائما إلى نتائج خاطئة، وإن الأخطاء كما الكائن الحي تتوالد وتتناسل ما لم نجد لها مضاداتٍ حيوية تقوي مناعة الجسم السياسي والثقافي وتوقف حالة التوالد الجرثومي.
هل كان ممكنا منع تحول عبير موسى إلى ظاهرة سياسية لا تكف عن تصديع رأس البرلمان وعن توسيع دائرة الاهتمام بها داخليا وخارجيا؟ هل كان ممكنا "وأد" لغو أحد نواب حركة الشعب حتى لا يتحول لعود ثقاب لإشعال حريق في النسيج السياسي الضعيف؟ هل كان ممكنا ألا تنجر بعض الأسماء المحترمة في النهضة وفي حركة الشعب نحو معارك غير محترمة، وأن تبقى قوة تعديلية وتوجيهية حماية لائتلاف حكومي هش في زمن رث؟
هل كان ممكنا منع وضع بلادنا قبالة لعاب الطامعين فينا فيستسهلون النيل من وحدتنا وكرامتنا ومن سيادتنا الوطنية؟
3- المقدمات الخاطئة والمآلات الخاسرة
كثيرون يتأملون بخار القدر ولا ينظرون أن تحته نارا، ولا يفكرون في كون النار لم تكن تشتغل لصاحب القدر بل كانت تشتغل لصالح نفسها وهي تلتهم الحطب بنهم وشراسة. وحده الحطب هو الذي لا مصلحة له لا في النار ولا في القدر ولا في البخار.
إن المعارك الصغيرة يخسرها الكبار دائما، ولأن الكبار إذا جاروا عبث الصغار خسروا.
كان ممكنا منع حصول حالة رابح/ خاسر، منتصر/ مهزوم، كان ممكنا صناعة مشهد يربح فيه الجميع وينتصر فيه الوطن وتعالج فيه الخلافات الحقيقية في مكان آخر، كما يفعل الكبار عادة حين لا يتعاركون أمام بيوتهم حفاظا على زجاجها وعلى سلامة أبنائهم، بل يتعاركون في فضاءات بعيدة وقد تكون معاركهم في بيوت من يحتقرونهم ويتخذون منهم تُبّعا.
مساء الجمعة 22 أيار/ مايو الجاري، أعلنت رئيسة الحزب الدستوري عبير موسى الحر وأمام حشد من أنصارها "الانتصار"، وفكت اعتصام كتلتها وتكلمت بلغة مَن فَرِحَ بمكسب هو أكبر مما انتظر وأكبر من تضحياته، بل كان بمستوى أخطاء الطرف المقابل، وأخطاء الطرف المقابل كانت نتيجة نصائح أصنفها "غشا"، لأن من لا يعلم لا يحق له أن يمارس النصح، خاصة في قضايا كبرى يتعلق بها مسار ديمقراطي وسلم أهلي وسيادة وطنية.
مكتب مجلس البرلمان كان أعلن صبيحة الجمعة أنه سيعقد جلسة عامة يوم 03 حزيران/ يونيو القادم لمناقشة لائحة عبير موسى، رئيسة كتلة الحزب الدستوري الحر، وللتحاور حول الدبلوماسية البرلمانية في العلاقة بالملف الليبي.
حصل هذا بعد أن استطاعت عبير موسى جر عدة كتل برلمانية للتماهي مع موقفها وبعد صدور بيان للتيار الديمقراطي؛ يحاول فيه إرضاء عبير موسى وعدم إغضاب الغنوشي في نفس الوقت.
كل ما حدث ويحدث عنوانه "الغنوشي"، وجوهره حركة النهضة، وخلاصته المسار الديمقراطي، وكل ما يحدث وراءه قوى داخلية ودوائر خارجية، وهذا مؤكد ومنتظر، ولكن مسؤولية خسارة المعارك لا يتحملها الخصوم، إنما يتحملها الخاسرون حين لا يحسنون إدارة المعارك، وحين يحولون بعضا أو كثيرا من المخالفين من وضعية المختلف إلى وضعية الخصم.
هل كانت حركة الشعب خصما؟ هل كان اتحاد الشغل خصما؟ هل يمكن وضع الطرفين المذكورين في نفس السدة مع الدستوري الحر؟ هل تستطيع حركة النهضة تحمل التقاء المختلفين معها والمعادين لها ضدها؟ ماذا لو التقت القوى اليسارية والنقابية والعروبية والدستورية تحت عنوان مشترك هو "محاصرة النهضة"؟
4- المعارك الخاطئة
حسب تقديري ثمة معركتان خاطئتان انزلقت إليهما حركة النهضة:
- المعركة مع حركة الشعب كان يمكن تفادي توسيعها وتعقيدها، وثمة معارك يتم إخمادها بحكمة عند انقداح شرارتها الأولى قبل تحولها إلى حريق.
- معركة "مساءلة" رئيس البرلمان، إذ لا أشك لحظة في كون الأستاذ راشد لا تعوزه الحجة للدفاع عن وجهة نظره كما عهدناه دائما، وقد حصلت معه "مساءلة" من قبل ولم يعترض ولم يجد حرجا، بل أثنى على من قالوها وألزم نفسه بسماعها. والغنوشي أحرص من يكون على تحويل العنوان الديمقراطي إلى أخلاق سياسية، وإلى تحويل الصلاحيات القانونية إلى جدارة واقتدار واحترام.
لا أرى جدوى في توصيف المعركة قانونيا، فهي أبسط من ذلك بل وأكبر أيضا، لأن قبول رئيس البرلمان بسماع وجهة نظر برلمانيين منتخبين حول قضايا تهم البلاد ومصالحها وعلاقاتها الخارجية؛ هو من صميم مهامه ومن صمام أمان الديمقراطية، أيضا من ضمانات الشفافية التي تساعد في طمأنة الشعب، وفي إزالة الغموض ودفع "الشبهات" وتكذيب "الاتهامات".
شخصية الغنوشي الحوارية والشجاعة أيضا لا أراها هي صاحبة الموقف الرافض لـ"المساءلة"، فللرجل حججه دائما، ولكن أعتقد بوجود من "نصح" بذلك بنيّة "حماية" مكانة الرجل من التطاول والتهريج المبالغ فيه. وثمة ما يبرر مثل تلك المخاوف، خاصة حين نتابع بعض التدخلات المبالغة في افتعال المعارك أو في الخروج بتلك المعارك؛ حين تكون مشروعة عن مساراتها وأدواتها وقاموس صياغتها.
في المعركة الأولى، ثمة عقلاء في الحركتين يمكنهم تبريد الأجواء وعقلنة "الخصومة"، لتكون سياسية وبمستوى عال من الخطاب والاحترام والفكر حتى لا يسيطر الشعبويون على المشهد؛ يوترون الأجواء ويلوثون المشهد السياسي إما بحماسة صادقة مع سوء تقدير أو بحسابات خاصة تتعلق بصراع داخلي حول "التموقع" وهذا معلوم ومفهوم.
في المعركة الثانية: أرى أن يكون الأستاذ راشد كما هو، فيستمع لمن أراد طرح أسئلة متعلقة بصميم مهام النائب، وهو شخصية وطنية وعالمية يجمع بين صفته الحزبية كرئيس لأكبر حزب في البلاد وفي الائتلاف الحكومي، وبين صفته كرئيس للبرلمان من حقه وواجبه عقد لقاءات وإجراء اتصالات خدمة لبلده وشعبه.
يمكن البحث عن معالجة قانونية داخل المجلس أو معالجة أخلاقية لكل التجاوزات تحت قبة البرلمان، حتى لا يحط نائب من قدر نائب أو كتلة أو رئيس برلمان، كما يجب أن يلتزم النائب داخل المجلس بمهامه التي انتخب لأجلها وهي خدمة الناس والدفاع عن مصالحهم، وهنا يجب الامتناع عن خوض الدعاية السياسية أو مهاجمة أطراف سياسية أخرى. ونقد نائب أو كتلة برلمانية يجب أن يكون بناء على الممارسة والأداء، وليس بناء على الانتماء الحزبي أو الأيديولوجي.
كل المعارك نحن من يجعلها معقدة بدون حل أو معقولة وفي متناول العقل المبدع تسويتُها، والسياسي الفاشل هو الأكثر اختلاقا للعداوات والمعارك التافهة.
"صندوق الزكاة" في تونس: حلّ أم مأزق جديد؟
ماذا بعد حلّ المكتب التنفيذي لحركة النهضة التونسية؟
الدولُ يبنيها العقلاء ويخربها السفهاء.. تونس في قلب العاصفة
على وقع محاكمات التيك توك في تونس.. الحرية الأخلاقية والمسؤولية (2-2)