كتاب عربي 21

قضية بيرني ساندرز

1300x600
من أهم ما يثير الاهتمام في دخول بيرني ساندرز سباق الرئاسة في الولايات المتحدة هذا العام هي نوعية المعارضة التي تمخض عنها ترشحه. فالأمريكيون الليبراليون البيض (ومعظم الليبراليين الأمريكيين، من جميع الأعراق، كانوا ولا يزالون إمبرياليين) مرعوبون من أن إمبرياليا ناعما على شاكلة ساندرز، يتبنى نسخة ليبرالية لما يمرر في الولايات المتحدة على أنه "اشتراكية". قد يفوز بترشيح الحزب الديمقراطي ومن ثم يفوز (لا سمح الله) في الانتخابات على الرئيس الأمريكي المحافظ دونالد ترامب، الذي يصر الكثير من منتقديه الليبراليين والإمبرياليين، بمن فيهم الرئيس السابق باراك أوباما مؤخرا، على الإشارة إليه بوصفه "فاشيا."

لكن ما هو العنصر الذي يتعلق بإمبريالية ساندرز الناعمة الذي يخيف الإمبرياليين الليبراليين، بمن فيهم أوباما؟ في واقع الأمر، يتمتع بيرني ساندرز بسجل مؤيد للإمبريالية ومؤيد للحروب الأمريكية على مدى حياته المهنية كلها. ففي عام 1993، دعم ساندرز التدخل العسكري الأمريكي في الصومال، ومن بعده دعم التدخل العسكري الأمريكي في هاييتي والبوسنة وكوسوفو، كما دعم الحرب الأمريكية على أفغانستان. أما بالنسبة إلى معارضته للغزو الأمريكي للعراق في عامي 1991 و2003، فلم تكن قائمة أبدا على أجندة معادية للإمبريالية أو أي شيء من هذا القبيل، بل على أجندة مؤيدة للإمبريالية تماما. فما كان يقلق ساندرز حينها، كما أعلن، هو أن الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 سيضعف النفوذ الإمبريالي الأمريكي: "أنا أتفق مع برنت سكوكروفت، مستشار الأمن القومي الجمهوري السابق للرئيس جورج بوش الأب، الذي صرح بأن الهجوم على العراق في هذا الوقت من شأنه أن يعرض للخطر، أو حتى أن يدمر، الحملة العالمية لمكافحة الإرهاب التي نقودها". وأضاف أنه بدلا من غزو العراق، "يجب على الولايات المتحدة أن تعمل مع الأمم المتحدة للتأكد في حدود زمنية محددة بوضوح تسمح لمفتشي الأمم المتحدة بأداء مهمتهم. يجب على هؤلاء المفتشين أن يبحثوا بلا قيود عن أسلحة الدمار الشامل العراقية وأن يدمروها عند العثور عليها عملا بقرارات الأمم المتحدة السابقة. وإذا قاوم العراق عملية التفتيش على مخزونه من الأسلحة والقضاء عليها، فينبغي أن نكون على استعداد لمساعدة الأمم المتحدة في فرض الامتثال عليه".

في الواقع، وعلى الرغم من معارضته للغزو، فقد صوّت ساندرز لصالح أربعة قوانين استصدرها الكونغرس لتمويل الحرب على العراق.

أما بالنسبة لاشتراكية ساندرز المزعومة، فهي تعبر عن نفسها عبر دعمه للرعاية الصحية الشاملة لجميع الأمريكيين، ودعمه للتعليم العالي العام المجاني، وهذه سياسات يتشارك فيها مع معظم دول أوروبا الغربية الرأسمالية، وكندا، المتحالفة مع الولايات المتحدة. عدا عن ذلك، لم يدعُ ساندرز إلى اتخاذ أي تدابير اشتراكية أخرى، مثل تأميم قطاع الخدمات، كشركات الكهرباء أو الهواتف، أو صناعة النفط، أو البنوك أو الشركات الأمريكية الكبرى، أو أي شيء من هذا القبيل.

بالإضافة إلى هذه الاتهامات المجحفة، تعرض ساندرز أيضا للهجوم نتيجة ما أدلى به من بعض كلمات التعاطف مع الضحايا الفلسطينيين للاجتياحات الإسرائيلية والاحتلال الإسرائيلي، وهي خطيئة كبرى أدت إلى هجوم اللوبي المؤيد لإسرائيل عليه مؤخرا. يبدو أن اللوبي قد نسي دعم ساندرز الكبير والمستمر لإسرائيل في الماضي والحاضر، وليس أقله تصويته لصالح المساعدات الأمريكية السنوية للمستعمرة- الاستيطانية الصهيونية. لكن بما أن اللوبي الإسرائيلي يعاني من فقدان الذاكرة الانتقائي، فإن ساندرز ملتزم بتذكير اللوبي بـ"عشقه" الثابت لإسرائيل من خلال تصريحه الذي لا يتوقف عن تكراره: "أنا أؤيد إسرائيل بنسبة 100 في المئة".

أما في ما يتعلق بالحروب التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين، فلم يجد ساندرز أي حرب منها لم تعجبه. بل في الواقع، كان دعمه الثابت لآلة القتل الإسرائيلية في غزة لا سيما في اجتياح عام 2014، لدرجة أنه هاجم وبغضب أعضاء من جمهوره الذين دافعوا عن الضحايا الفلسطينيين الأبرياء للمذبحة الإسرائيلية. فعندما سأل أحد الحضور ما إذا كان للفلسطينيين "الحق في المقاومة"، صاح به ساندرز قائلا: "اخرس! الميكروفون معي أنا وليس معك!" وهدده باستدعاء الشرطة. وبالفعل، لا ينفك ساندرز يتكلم بإعجاب عن إقامته في عام 1963 في الكيبوتس الإسرائيلي (والكيبوتسات هي عبارة عن تجمعات اشتراكية للعرق اليهودي السائد، وهي مخصصة حصريا لليهود الأشكناز) "شَعَر هَعَمقيم" الذي أقامه المستوطنون الصهاينة التابعون للمجموعة الصهيونية "هشومير هتصعير" على أراضي قريتي الشيخ بوريك والحارثية الفلسطينيتين، والتي تم طرد سكانهما قسرا في عام 1933 لإفساح المجال أمام المستوطنين المستعمرين اليهود. قاوم السكان الفلسطينيون الأصليون الإخلاء لصالح المستعمرين اليهود، ما دفع القوات البريطانية الانتدابية إلى إطلاق النار عليهم، ما أسفر عن مقتل أحد الفلاحين الفلسطينيين وإصابة العديد منهم.

في الأشهر القليلة الماضية، تحدث ساندرز عن احتمال أن يضع شروطا، في حال انتخابه رئيسا، لإرسال المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل تعتمد على استعدادها "للتفاوض" مع الفلسطينيين، ولكنه فعل ذلك نتيجة موقفه المؤيد للإمبريالية والموالي لإسرائيل: "سوف أضع شروط على المساعدات المالية التي تبلغ 3.8 مليار دولار وهذا مبلغ هائل، ولا يمكننا أن نمنحه إلى الحكومة الإسرائيلية أو إلى أي حكومة على الإطلاق بدون شروط".

وفي الواقع، كان ساندرز قد عارض قرار ترامب بالاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل على نفس الأسس الإمبريالية، محاججا بأن القرار "سيقوض بشكل كبير احتمالات التوصل إلى اتفاق سلام إسرائيلي فلسطيني وسيضر بشدة، ربما بشكل لا يمكن إصلاحه، بقدرة الولايات المتحدة على التوسط في هذا السلام. ما يجب على الولايات المتحدة فعله الآن هو جمع الخصوم في الشرق الأوسط سعيا للتوصل إلى حلول مشتركة، وليس مفاقمة التوترات في هذه المنطقة شديدة التقلب".

وقد أعلن ساندرز صراحة بأن انتقاده لإسرائيل يساعد على إضفاء الشرعية عليها، وليس على إزالتها، كما يدعي اللوبي الصهيوني زورا:

"أعتقد أنه من المهم للغاية بالنسبة إلى الجميع، ولا سيما بالنسبة إلى التقدميين، الاعتراف بالإنجاز الهائل المتمثل في إقامة وطن ديمقراطي للشعب اليهودي بعد قرون من النزوح والاضطهاد... لكن هنالك شعبا آخر في أرض فلسطين يرى أن إقامة دولة إسرائيل قد تسبب بنزوحه المؤلم. ومثلما يجب على الفلسطينيين الاعتراف بالمطالب العادلة لليهود الإسرائيليين، يجب أن يفهم مؤيدو إسرائيل لماذا ينظر الفلسطينيون إلى إقامة إسرائيل من هذه الزاوية. إن إدراك هذه الحقائق لا "يزيل الشرعية" عن إسرائيل، كما أن الاعتراف بالوقائع والأحداث التي تم تأسيس الولايات المتحدة عليها لا تزيل الشرعية عن الأخيرة. إنها خطوة ضرورية للحقيقة والمصالحة من أجل معالجة أوجه عدم المساواة التي لا تزال قائمة في مجتمعينا".

ولكن على الرغم من هذا السجل المؤيد للإمبريالية والمؤيد للصهيونية والذي لا تشوبه شائبة، إلا أنه يتم اتهام ساندرز زورا بأنه معاد لإسرائيل وبأنه شيوعي أحمر. وفي استمرار لتاريخ اللاسامية المشين، يتم إقران يهودية ساندرز بشكل غير مباشر عبر التلميح بتبنيه شيوعية متخَيَلة مؤيدة للاتحاد السوفييتي، وهو ما يجعله يشكل تهديدا قوميا لأمريكا الإمبريالية والرأسمالية، كما يوحي مقال نشرته مؤخرا صحيفة نيويورك تايمز الليبرالية. ففي عام 2016، وكجزء من حملة التشهير بساندرز كشيوعي، تم وصف الكيبوتس الذي أقام فيه في عام 1963 من قبل بعض المحافظين الأمريكيين على أنه كيبوتس "ستاليني". ومع ذلك، فإن المزاعم الليبرالية عن ساندرز (بصفته اشتراكيا مؤيدا للاتحاد السوفييتي أو اشتراكيا ساذجا على الأقل، تم استخدامه من قبل السوفييت في "أجندتهم الشائنة" المتمثلة في السيطرة على الولايات المتحدة) هي التي تواصل التقليد المعادي للسامية المتمثل في ربط اليهود بالشيوعية الموالية للسوفييت، وهو تقليد بدأته الدعاية الروسية القيصرية البيضاء المعادية للسامية التي حاربت الثورة الروسية الشيوعية في عام 1917.

بدءا من استخدام أصول ماركس اليهودية، فإن نظرية المؤامرة المعادية للسامية وللشيوعية تزعم بأن الشيوعية في جميع أنحاء أوروبا، والبلشفية على وجه التحديد، كانت دائما جزءا من "مؤامرة يهودية" لتقويض "الحضارة الغربية". وفي حين أن الزعم المعادي للسامية بأن الشيوعية والبلشفية هما "مؤامرتان يهوديتان" عادة ما ينسب إلى النازيين الذين استوردوه بالفعل من دعاية الروس البيض الداعمين للقيصر وأدخلوه إلى أوروبا الغربية، إلا أن في حقيقة الأمر كان وينستون تشرشل هو أول من وصف الشيوعية باعتبارها "مؤامرة يهودية" للسيطرة على العالم. وقد كان تشرشل يكره ما وصفه "باليهود الدوليين"، ووصف الشيوعية بأنها "مؤامرة عالمية من أجل الإطاحة بالحضارة". وكان ليون تروتسكي، قائد الجيش الأحمر السوفييتي، هو مَن اتهمه تشرشل بالتخطيط لإقامة "دولة شيوعية عالمية تحت سيطرة اليهود."

وقد تم استخدام هذا التقليد المعادي للسامية بشكل جيد في الولايات المتحدة، عبر الاستهداف الرسمي للشيوعيين اليهود الأمريكيين كجواسيس للسوفييت. وقد مثلت محاكمة وإعدام جوليوس وإثيل روزنبرغ عام 1953 نجاحا باهرا لهذه الحملة. فعندما أشار يهود يساريون إلى إعدام الزوجين روزنبرغ على أنه يمثل ما يمكن تسميته بـ"قضية درايفوس" الأمريكية، اعترض اليهود والمسيحيون الأمريكيون الليبراليون على هذا الوصف وانضموا إلى الحكومة الأمريكية في إدانتهم للزوجين. في الواقع، وكما هو متوقع، لم تتفوه إسرائيل ببنت شفة احتجاجا على إعدامهما (وقد أرسل الحاخامات الإسرائيليون، باستثناء الحاخام الأشكنازي الرئيس في إسرائيل، نداء إلى الرئيس ترومان ناشدوه فيه فقط بالرأفة بالزوجين روزنبرغ، رغم أن بعضهم عبروا لاحقا عن أسفهم بأنهم قد وقعوا على العريضة). وكان "جيه. إدغار هوفر"، رئيس "إف بي آي"، قد وصف ما قام به الزوجان روزنبرغ بـ"جريمة القرن."

ولكن ربط اليهود بالشيوعيين كان قد أدى أيضا إلى مذابح في المجر في عام 1956، عندما تم تهريب الفاشيين المجريين والهتلريين إلى بودابست عبر الحدود النمساوية بواسطة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أثناء حكم نظام إمري ناج، حيث قاموا بذبح اليهود الشيوعيين المجريين وبذبح اليهود المجريين بوصفهم "شيوعيين". واعتبر اللاساميون كل اليهود المجريين شيوعيين حيث أن أول أمينين عامين للحزب الشيوعي المجري، الذي وصل إلى السلطة بعد الحرب العالمية الثانية، كانا يهوديين. ظلت إسرائيل وغيرها من اليهود الصهاينة صامتة بشأن هذه المذابح كما هو حالهما حتى اليوم. وفي أواخر سبعينيات القرن العشرين، كان ذات الاتهام قد طال اليهود اليساريين في الأرجنتين الذين اختطفهم النظام الديكتاتوري العسكري دون عودة، لكن اليهود الصهاينة الأرجنتينيين وإسرائيل تبرأوا منهم، وحافظت إسرائيل على تحالفها الوثيق في حينه مع النظام العسكري الأرجنتيني.

لكن معظم هؤلاء كانوا بالفعل يهودا شيوعيين ومناهضين للإمبريالية، ولم يكونوا يهودا إمبرياليين وصهاينة مثل ساندرز! ومع ذلك، وبسبب كلمات ساندرز المتعاطفة مع الضحايا الفلسطينيين للعنف الإسرائيلي، قام اللوبي الأمريكي القوي المؤيد لإسرائيل بشراء إعلانات على فيسبوك تلقي باللوم على "المتطرفين في الحزب الديمقراطي" لـ"فرض سياساتهم المعادية للسامية ومعادية لإسرائيل على الشعب الأمريكي". وكما لاحظت صحيفة هآرتس الإسرائيلية البارزة، "لم يكن من الصعب معرفة أي معسكر للمرشحين كان هؤلاء المتطرفون جزءا منه".

وفي ما بين الاتهامات اللاسامية والكارهة للشيوعية التي تتهم ساندرز بالتعاطف مع الشيوعية السوفييتية من قبل الليبراليين والمحافظين الأمريكيين، وبين اتهامات منظمة اللوبي الصهيوني "إيباك" بأن أول مرشح رئاسي يهودي محتمل من قبل حزب سياسي رئيسي في تاريخ الولايات المتحدة هو "معاد للسامية"، فإن الحرب الدعائية ضد ساندرز لا تكل. لكن، وفي سبيل الدفاع عن ساندرز ضد هذه الاتهامات المجحفة التي لا أساس لها من الصحة، لا بد من الإشارة بوضوح إلى أن لا دعم ساندرز للرعاية الصحية الشاملة ولا تعبيراته المتواضعة تجاه الفلسطينيين قد خففا من وطأة مواقفه المؤيدة للإمبريالية والمؤيدة للصهيونية قيد أنملة. ومع ذلك، يبدو أن تاريخه الطويل في دعم الإمبريالية الأمريكية والصهيونية الإسرائيلية لم يشفع له (نتيجة دعمه للرعاية الصحية الشاملة وكلمات التعاطف المتواضعة مع الشعب الفلسطيني)، رغم أنه يجب وينبغي أن يشفع له.