الحبور والسعادة اللذان عَلَوَا جباه سفراء عرب، حضروا خطابي ترامب ونتنياهو للإعلان عن "
صفقة القرن"، تكشفان كثيرا من المواقف المفضوحة لبعض النظام الرسمي العربي، في الممارسة المستمرة في لعبة "الذكاء والفهلوة العربية" التي يصفها الأمريكي والإسرائيلي بأنها عظيمة الجرأة، ليس بالاقتراب من منصة حفل إشهار الصفعة في وجه الحقوق
الفلسطينية، بل في جرأة الانحياز للعقل الصهيوني وتبني أساطيره التلمودية والتوراتية، وجرأة تقريع الفلسطينيين لعدم القبول بهذه الفرصة الآتية بعد "منّة دعم أبناء القضية والنكبة"، والذي يقال عنه أنه أرهق سياسات الأنظمة وأخر كثيراً المضي بها نحو حضن تل أبيب.
صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تواجه فيها قضية الشعب الفلسطيني تحديات كبيرة وخطيرة، لكن التحديات القائمة الآن هي من طبيعة تكاد تكون مختلفة، خصوصاً بعد جرف الأرضية اللازمة لهذه التحديات وتعبيدها أمام الاسرائيلي والأمريكي ببلدوزر القتل والقمع والاضطهاد الممارس طيلة عقد مضى، وطيلة عقود من التآمر والطعن بأصحاب الأرض، مما أتاح تحقيق تفكيك الروابط التي تجمع هذه الأنظمة مع الشوارع العربية. فلأول مرة يسري التحدي الداخلي في نسغ الجسد العربي، بطريقة جعلته من نوع جديد يكون هو ذاته العنصر الفاعل في جعل ذلك الجسد فاقداً لهويته العربية التي تكونت عبر قرون عديدة.
استراتيجية التحديات السابقة، التي دأبت أنظمة تحمل لواء المقاومة والممانعة على تبنيها وإطلاقها في كل مناسبة، تعرضت لأقسى أنواع الاختبار، جر بعضها في استخدام مخزون النظام التسليحي والأمني لتجريد شعبه من مكامن القوة، وهي مكامن لا يريدها هذا النظام أو ذاك إلا في تقوية نسله أو أبده المنطوي على استمرار الوظيفة التي تحدد وجوده.
وهذا الاختبار خضعت له أيضاً نخب السياسة والثقافة والفن والأدب. فمن اليوم التالي للإعلان عن الصفقة تجرأ "مثقف الكاريكاتير" بوضع الفلسطينيين في قالب واحد ينز عنصرية وحقد، لا يختلف بذلك عن رهط المصفقين والمحبورين بسعادة ورطة القضية، فهي تخصهم وحدهم مع "الشوك المتفرع عنها". ولا تكشف ردوده عن النزول نحو درك السفالة فقط، بل عن أقنعة كثيرة، من صدمة الأخلاق والضمائر المزيفة.
لكن تلك الاستراتيجية، لم تفلح في الفترات السابقة من تحقيق جوهر ما تهدف إليه، إلا أنها تنجح اليوم بفعل ما أحدثته وحشية وسياسات أنظمة في تدمير انتماء العقل الجمعي العربي لقضاياه. وكل ما حدث منذ اندلاع الربيع العربي، ومؤشراته ومطالبه في المواطنة والكرامة والحرية والعدالة والتداول السلمي للسلطة، هي نقائض لأي صفقة، وهي الخزان المنفجر بوجه كل المشاريع في الحاضر والمستقبل الذي يراهن عليه الأمريكي والإسرائيلي.
كل البيانات الرسمية التي صدرت من وزارات الخارجية العربية، على صفقة القرن لطمس الحقوق الفلسطينية، تحمل إشارة "تثمين للدور الأمريكي في دفع عملية السلام" نحو الأمام، مع أن المطروح إعلان استسلام صريح لمنطق الغطرسة والتنكر لكل الحقوق، والقفز على كل القرارات الدولية التي تصون وتحفظ جزءا منها.
في كل هذا المشهد العبثي يخفي حبور بعض النظام العربي غطرسة الإسرائيلي والأمريكي، اللذين يشبهان وظيفة ما يقوم به الحاكم العربي من الاستهانة بكرامة وطنه وشعبه، فكيف يعقل أن يندد نظام مستبد وقاتل لشعبه ورافض للامتثال لأي قرار ومطلب يحفظ كرامة البشر، وأن يعلن رفضه ومقاومته لمشاريع التصفية، وهو أتقن وتفوق بتصفية نصف شعبه، وآخر يتفنن ببناء منظومته الأمنية والقمعية التي تسهل تمرير الصفقات والصفعات، فلا يرى الحاكم العربي المستبد والطاغية أية مخاطر من هكذا سياسة إسرائيلية أو أمريكية طالما هي تحفظ كرسي ونسل الأبد، وطالما يتلقى ثناءه على ما يقوم من حفظ أمن المحتل، فتلك مؤشرات تبعث على السرور لا القلق.
المداد العربي لصفقة القرن دمٌ سال بفعل براميل الأسد المتفجرة، وأغلال السيسي، وعصابات ومليشيات عربية وغير عربية، تساند الطغيان والإرهاب في دمشق وبيروت وبغداد وبنغازي وأبو ظبي والبحرين.. المداد العربي لصفقات الاستسلام مداوته روسية وأمريكية وأوربية، فكل حبر سري يكتب صفعات للأمة مفضوح ومتعرٍ، لكن ممحاته تبقى في عقول وصدور وسواعد عربية لم ولن تقبل هوانا يراهن على ديمومته محتل وطاغية.