كتاب عربي 21

لا نفرق بين أحد من رسله

1300x600
في كل سنة، ومع احتفالات "الكريسمس" من قبل إخواننا المسيحيين، يذكّرنا البعض ممن يدعون العلم بأن هذا العيد ليس عيدا إسلاميا، وأنه "لا تجوز" تهنئة أصحابه به حتى لو كانوا جيرانا لنا، أو زملاء في العمل، أو شركاء في الوطن!!

يفعلون ذلك وهم يظنون بكونهم يحسنون صنعا. فاعتقادهم راسخ بأن الاحتفال بأعياد غير المسلمين شرك، وتقويض للهوية، وخضوع للاستعمار، وهدم للأوطان.. لهذا يوهمون أنفسهم بأن التصدي لمثل هذه العادات واجب مقدس، وأن التخلي عنه قد يوقع صاحبه في معصية كبيرة.

لا يحتاج هذا الأمر إلى رد فقهي يتم خلاله العودة إلى نصوص مناقضة لما يدعون، لأنهم يعرفونها جيدا ويعلمون مدى صحتها، لكنهم يؤولونها على غير منطوقها ومقاصدها. إنما الأهم من ذلك هو البحث عن الأسباب الخفية والعميقة التي تدفع بالبعض نحو تعميق الهوة بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى. لقد أصبح هذا الهدف شغلهم الشاغل وبمثابة اللعبة المفضلة لديهم. يظن هؤلاء بكونهم كلما تفننوا في تعميق التناقض مع أتباع الأديان الأخرى إلا عززوا مكانة الإسلام، ورفعوا من شأن المسلمين، وضمنوا لأنفسهم مكانا متميزا في الجنة.

صحيح أن المؤرخ التونسي العظيم عبد الرحمن بن خلدون قال في "مقدمته" الشهيرة إن "المغلوب مولع بتقليد الغالب"، وذلك عندما لاحظ بأن دورة حضارية جديدة قد أطلت بمؤشراتها، وعبّر عنها بأسلوبه العميق "وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر الإجابة"! إلا أن عصر ابن خلدون هو عصر الانهيارات الكبرى ومن بينها مأساة الأندلس، لكن اختزال مقولته في تعميق الفجوة بين أبناء أهل الأديان هو تسطيح لفكرة عميقة وجبّارة بشر بها هذا العالم الاستثنائي منذ بداية انهيار الحضارة الإسلامية. فعقل الرجل مختلف تماما في تركيبته ومنهجية تفكيره عن عقلية هؤلاء الذين ضيّقوا النظر بدل توسيعه، وحجبوا أشعة الشمس بدل فتح الأبواب والنوافذ لاستقبالها، وعزلوا أنفسهم وأنصارهم ويريدون عزل الأمة بأسرها بدل الانفتاح على العالم والانتصار للوحدة الإنسانية بكل معانيها ومقوماتها.

صحيح أن ابن خلدون أضاف إلى جملته السابقة بعض الكلمات التي لها علاقة بالعادات والتقاليد حين قال إن "المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده"، لكن ذلك لا يعني تغذية الحقد الديني، والانخراط في صراع الحضارات كما دعا إلى ذلك هنتنغتون وأمثاله. إنما الرجل يعاين تطور العلاقات في أشكالها وتعبيراتها بين الغالب والمغلوب، ولا يتوقف ذلك فقط على المجال العسكري وإنما سشمل أيضا مختلف المجالات الحيوية للحضارة.

الظاهرة الجديدة التي لم يدركها ابن خلدون لكي يحللها ويتفهم طبيعتها هي العولمة. هذه الظاهرة الحديثة التي هي في الأساس اقتصادية وتقنية، لكنها انعكست بشكل قوي على المجالات الثقافات والاجتماعية. فالعولمة بدأت نتاجا غربيا بحكم الهيمنة واختلال موازين القوى، لكن سرعان ما أدت العولمة إلى صعود الخصوصيات في كل مكان تأكيدا من الثقافات على أنها لن تموت وتندثر، وهو ما أدى إلى تغيير أشياء كثيرة في المجتمعات الغربية نفسها التي انتقلت من مجتمعات مغلقة ومتحكم فيها ومصدرة لنمط واحد من الثقافة المهيمنة؛ إلى مجتمعات مفتوحة ثقافيا وتعددية في مكوناتها الأساسية. وبقدر ما كانت في مرحلة سابقة مجتمعات تصنع الأفكار والأذواق والبضائع وتقوم بتصديرها إلى الآخرين، إذا بها اليوم تتعرض لغزوات مستمرة ومتنوعة من جهات عديدة، وهو ما أثرت كثيرا في الثقافة الغربية وفي أذواق الغربيين.

التأثير اليوم متبادل وإن كان لا يزال متفاوتا، كما أن مفهوم القوة والضعف تغير وأصبح الأمر نسبيا إلى حد ما. فكما تأثرت الصين بما أنتجه الغرب من تكنولوجيا وأنماط حياة، يستعد هذا المارد حاليا إلى أن يتحول إلى القوة الاقتصادية الأولى في العالم، رغم أن القرن الحالي لا يزال قرنا أمريكيا بامتياز.

الصراع الدائر اليوم ليس صراع أديان وإنما صراع اقتصادي وتكنولوجي وتجاري. من هنا تكتسب القمة الإسلامية المصغرة أهمية كبرى في دلالاتها، والتي نظمت في كوالالمبور، ودعا إليها مهاتير محمد، وجمعت بعض الدول المهمة مثل ماليزيا وتركيا. ومن أهم ما أسفرت عنه التأكيد في بيانها الختامي على ضرورة أن تتعاون الدول الإسلامية فيما بينها من أجل اكتساب الحد الأدنى من القوة في المجالات السبعة التالية، والتي سماها المجتمعون "الدعائم"، وهي: التنمية المستدامة، والنزاهة والحكم الرشيد، والثقافة والهوية، والسلام والعدالة والحرية، والسيادة والأمن والدفاع، والتجارة والاستثمار، والكنولوجيا والإدارة. هذه هي مجالات القوة والحصانة والفعالية في هذا القرن، فكل دولة لا يتوفر لديها الحد الأدنى من التمكين في هذه القطاعات ستبقى تابعة وفاقدة لروح العصر.

عودة إلى عنوان المقال الذي هو جزء من الآية الكريمة رقم 285 من سورة البقرة، والتي تؤكد على أن وحدة الأنبياء تكمن في وحدة رسالاتهم، وتمنع الفرقة والتطاول والتمييز بينهم، وذلك من أجل عدم تشتيت الجهود، وحرمة تغذية العداوة بين المؤمنين بمرجعية واحدة، حتى وإن اختلفت هذه المرجعية في بعض عناصرها وفي صيغها من دين لآخر، لكن تبقى وحدة الدين دليلا على وحدة الإنسانية.