أعلنت الإدارة الأمريكية عن موقف يدعم سياسة الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي المحتلة وحاولت إكسابها شرعية دولية زائفة. فبعد خمسين سنة من الإدانات الدولية لهذه السياسة صرّح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو (18 تشرين الثاني/ نوفمبر) أنّ مستوطنات الاحتلال لا تتعارض مع القانون الدولي.
لهذا الموقف معناه. فالولايات المتحدة –راعي عملية السلام- تؤكد الآن أنها تخلّت عن قيام دولة فلسطينية، وأنها تدعم سيطرة الاحتلال إلى الأبد على أراضي هذه الدولة الموعودة التي بقي لها فتات ممزّق لا يحتمل استقلالاً ولا سيادة.
إنها نهاية مأساوية لوعود "عملية سلام الشرق الأوسط"، يسقط معها مغزى "اتفاق أوسلو" ويتقوّض مشروع "الرباعية" - تضم الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة - التي وضعت "خريطة طريق" من أجل الوصول إلى "قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة تعيش في أمن وسلام مع دولة إسرائيل" بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عن هذا التوجّه سنة 2002.
لكنّ الواقع مضى منذ ذلك الحين في مسار عكسي استمرّ فيه الاحتلال الإسرائيلي واستشرى فيه الاستيطان ومصادرة أراضي الفلسطينيين وتمزيق التواصل الجغرافي بين التجمّعات السكانية الفلسطينية.
بعد التبشير الحالم بدولة مرتقبة وخذلان شروط قيامها في الواقع؛ حسمت إدارة دونالد ترمب الموقف، فأعلنت أنّ القدس "عاصمة لإسرائيل" ونقلت السفارة الأمريكية إليها وهو ما لم يجرؤ الرؤساء الأمريكيون السابقون عليه. أرادت واشنطن بهذا قطع الطريق على مصير القدس الذي تركته "عملية السلام" لمفاوضات "الوضع النهائي".
كما أعلنت الولايات المتحدة أنّ هضبة الجولان السورية المحتلة هي إسرائيلية أيضاً، ثم جاءت تصريحات بومبيو عن الاستيطان ضربة قاضية لـ"حل الدولتين" الذي اتّضح أنه وَهْم كبير تم تسويقه للفلسطينيين طوال ربع قرن.
معنى هذه الانزلاقات أنّ "ترمب يريد شطب فلسطين من الخريطة"، كما كتبت صحيفة "لومانيتيه" الفرنسية (20 تشرين الثاني/ نوفمبر). أي أنّ "اللعبة انتهت" فالمعروض على الشعب الفلسطيني الآن هو الاختيار بين أشكال متعددة من العيش الأبدي تحت الاحتلال، وقد يأتي ذلك بإطلاق أسماء جديدة على واقع الحكم الذاتي المحدود مثلاً لمنح انطباع بالوصول إلى "الحل النهائي".
ينبغي التذكير بأنّ كلّ ما تحقق حتى الآن بموجب الاتفاقات الموقّعة في سنتي 1993 و1994 كان "مرحلة انتقالية" لا أكثر، وكان يُفترض أن يتمّ بعد خمس سنوات منها (1999) التفاوض على المرحلة النهائية. لكنّ معظم الفلسطينيين أبصروا النور تحت سلطة انتقالية ترفع العلم الفلسطيني وتعمل تحت الاحتلال، مع أجهزة أمنية فلسطينية مكلّفة بخدمة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بإخلاص لا مثيل له تحت عنوان مخادع اسمه "التنسيق الأمني".
تبدو الحالة مريحة لسلطة الاحتلال، فهي تخفف أعباء كبيرة عنها، وتتصدّى بطرق متعددة لأي انتفاضة جديدة أو أعمال مقاومة. إنها نتيجة كارثية لأي حركة تحرير وطني، لكنّ قيادة السلطة الفلسطينية لا ترغب بنقاش علني مع شعبها عن واقع تورّطت به. أعلنت القيادة الفلسطينية الرسمية أنّ المفاوضات خيارها الوحيد، ونشأت خلال ربع قرن طبقة سياسية وبيروقراطية وأمنية واقتصادية متنفِّذة ترى في الواقع القائم مصلحة وجودية لها مع امتيازات خاصة تنعم بها دون شعبها.
ثمّ إنّ الذين أبرموا هذه الاتفاقات الكارثية مع الجانب الإسرائيلي تحت رعاية أمريكية في حينها؛ ما زالوا يمسكون بالقرار الرسمي الفلسطيني، يتقدّمهم محمود عباس شخصياً الذي يُوصَف بـ"مهندس الاتفاق"، وهو الذي وقّع عليه يوم "المصافحة التاريخية" في البيت الأبيض في 13 سبتمبر/ أيلول 1993. إنه يتحاشى المساءلة الشعبية عن هذا الصنيع وما آل إليه اليوم، ويخشى إجراء الانتخابات الرئاسية منذ انتهاء ولايته دستورياً في يناير/ كانون الثاني 2009.
وجدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في هذه القيادة الفلسطينية الضعيفة والمأزومة فرصة ذهبية لمواصلة برنامج فرض الأمر الواقع على الأرض، خاصة بعد التخلص من الزعيم التاريخي ياسر عرفات بطريقة غامضة. تنشغل السلطة حالياً بتأمين ميزانيتها بالاعتماد على "المانحين الدوليين"، وتبدو عاجزة عن بحث خيارات استراتيجية بديلة.
ينبغي الاعتراف بأنّ أوروبا شاركت بدور جوهري في تسويق الوهم للفلسطينيين وتكبيلهم عبر ربع قرن، وهي تواصل منح الانطباع بأنّ "دولة فلسطينية قابلة للحياة" هي في الطريق حقاً عبر مزيد من الانتظار. لكنّ أوروبا التي عارضت إقامة جدار الاحتلال على أراضي الدولة الموعودة وواصلت انتقاد الاستيطان المتسارع وهدم منازل الفلسطينيين؛ لم تمارس ضغوطاً على الجانب الإسرائيلي الذي يحتفظ باتفاقات تعاون وعلاقات شراكة متعددة المستويات مع الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء.
تبدو النتيجة واضحة بعد ربع قرن: فالولايات المتحدة تخلّت عن وعود "عملية السلام"، و"لا يوجد شريك" في الجانب الإسرائيلي لمثل هذه العملية، وتنعدم على الأرض فرص تنفيذ مشروع "الدولتين"، أما "مهندس الاتفاق" فيواصل الانشغال في خصوماته الداخلية في الساحة الفلسطينية بما يصرف الأنظار عن المأزق الجوهري القائم.
تنهار الوعود الكبرى على مرأى من العالم، ولا ترى الأجيال الفلسطينية الغاضبة في ما جرى خلال ربع قرن سوى أنها لعبة تضليل كبرى خدعت قيادتهم وتلاعبت بقضيتهم واستدرجتهم إلى المصيدة. "انتهت اللعبة" وصارت نتيجة "العملية" محسومة، لكنّ الأطراف لا ترغب في المصارحة بالفشل الاستراتيجي خشية انقداح شرارة الغضب الفلسطيني في اليوم التالي.
(ترجمة خاصة لـ"عربي21" عن "ميدل إيست آي" البريطاني).