كثيرا ما نسمع في
مصر المثل القائل: "إن فاتك الميري؛ اتمرغ في ترابه".. وترجع قصة المثل إلى عصر الاحتلال الروماني لمصر؛ حين كان يُنقل محصول القمح "المير" إلى روما، وكان المصري الذي يتأخر عن موعد نقل الغلال من المخازن إلى السفن لا يأخذ نصيبه، وفي هذه الحالة لم يكن أمامه إلا أن يتمرغ "يبحث" في التراب أمام المخازن علّه يجد قمحا!
هكذا تحكي لنا قصة المثل الشهير؛ الذي حُرف عن أصله فحُول "المير" إلى "الميري" وأصبح دالا على حب المصريين وتقديسهم للوظيفة الحكومية.
لكننا ونحن ننقب في تاريخنا المصري القديم، فوجئنا بأن المصريين قد تعلقوا بالوظيفة منذ بداية عهدهم، بل قد أوصوا أبناءهم بالحرص على الوظيفة الحكومية وسعوا دائما أن يورثوها إياهم، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها ذلك النموذج الذي ظهر أمامنا جليا خلال عصر الأسرتين الرابعة والخامسة، أي منذ ما يقرب من 4500 عام.
ففي عهد الملك "شبسس كاف" مع نهاية الأسرة الرابعة ظهرت شخصية عجيبة؛ شخصية أدت دور الموظف الحكومي خير أداء، إنها شخصية "بتاح شبسس"، الذي اعتز بوظيفته أيما اعتزاز، وظهر ذلك واضحا من خلال مذكراته الشخصية التي تركها لنا، والتي نعرف من خلالها أنه عاش طويلا، فأصبح من أكبر المعمرين في زمنه؛ لدرجة أنه أفنى ستة فراعنة خلال عمره، بعد أن عمل معهم ثمانين عاما، كان فيها نعم الموظف والمطيع.
اتسم "بتاح شبسس" بشروط الوظيفة لأقصى درجة، وزاد على ذلك أنه لم يكن يحسب للمبادئ أي حساب. فقد كان يسعى دائما إلى ما يحقق له المنفعة الشخصية قبل أي شيء آخر، لدرجة أنه وبالرغم مما كانت تربطه من علاقة بالبيت الحاكم خلال الأسرة الرابعة، إلا أنه سرعان ما سعى للعمل تحت إمرة ملوك الأسرة الخامسة، رغم أنهم كانوا مغتصبين للعرش منه. فقد كان "بتاح شبسس" متزوجا من ابنة الملك "شبسس كاف" الذي لم يرزق بولد ليتولى العرش من بعده؛ وكان من الممكن أن يصل "بتاح شبسس" للحكم، لكنه لم يكن مهيأ إلا ليكون موظفا حكوميا لا أكثر! ورضي بأن يتقاضى مرتبا كبيرا تحت إمرة أي ملك، حتى ولو كان مغتصبا للسلطة!
يقول في سيرته الذاتية؛ إنه ولد في عهد الملك "منكاو رع" وتربى في بيته مع أطفال الملك؛ وكان مقربا منه أكثر أبنائه، واستمر الحال كذلك في عهد الملك "شبسس كاف" بن "منكاو رع" الذي اهتم به أيضا وقربه منه، بل وزوجه كبرى بناته "معات خع". وكان مقربا من كبير كهنة منف "وسر كاف"، وخدم الملك "ساحو رع" بوظيفة أمين سر له في كل أعماله، وكان أنيسا له. أما الملك "نفر إر كا رع" فقد اقترب منه أكثر لدرجة أن الملك رفض بأن يُقبل "بتاح شبسس" التراب من تحت قدمه كما يفعل الآخرون، وإنما اكتفى بأن يقبل أقدام الملك فقط. وقد اعتز "بتاح شبسس" بذلك كثيرا، وكان يعلنها دائما أمام كل الناس بأن الملك لم يرضَ بأن يُقبل التراب من تحت قدمه، وإنما ميزه عن كل المقربين منه وجعله يقبل قدمه فقط! وكان هذا موضع فخر سجله على مقبرته بمنطقة أبو صير بالجيزة.
وقصة الموظف "بتاح شبسس"؛ لا تنفي أن المصري كان متمسكا بالعادات والتقاليد والأخلاق التي ورثها عن آبائه، لكن هذا لم يمنع من وجود أشخاص بإمكانهم أن يتنازلوا عن هذه الأخلاق، وخاصة في الوظائف الحكومية التي كان الترقي فيها يجعل البعض يتخلى عن تلك الموروثات. وهذا ما قد حدث بالفعل مع شخصيتنا هذه التي ضحت بالغالي والثمين من أجل الوظيفة. وقد لا يكون قد مر على مصر خلال الأربعين قرنا الماضية من تمثّل فيه هذا التخلي عن المبادئ مثلما فعل "بتاح شبسس"، كما يقول المرحوم الدكتور سليم حسن في موسوعته عن مصر القديمة، بل وأطلق عليه لقب "عميد الموظفين" في مصر.