قضايا وآراء

حادثة القطار.. وموتى على قيد الحياة

1300x600

ويواصل العبيد مطاردة العبيد، هذه هي الرسالة المختصرة لوصف ما فعله كمساري القطار الفاخر (الإسكندرية – الأقصر) يوم الاثنين (28 تشرين الأول/ أكتوبر) مع الشابين محمد عيد وأحمد محمد.. طلب منهما التذاكر فقالا ليس معنا تذاكر، فطلب ثمنها فقالا ليس معنا فلوس، فرد: هاتوا البطاقات الشخصية، فردا: لا يوجد أي أوراق شخصية، فطلب منهما القفز من عربة القطار أو دفع ثمن التذاكر، فاختارا القفز من القطار وهو يسير بسرعة كبيرة. ذهب الكمساري وأحضر مفاتيح القطار من عامل العربة وقام بفتح باب القطار، ومن أعمق أعماق ظلمات نفسه قال لهما: "اتفضلوا"، فقفزا.. فُصلت رأس الأول وقُطعت ساق الثاني ولحق بصديقه بعدها.. ماذا قال الكمساري تعليقا على ما رآه بأم عينه على قضبان السكة الحديد؟ قال: في "ستين داهية".

أركب القطار المكيف كثيرا وأكاد أعرف الكمسارية والعاملين معرفة جيدة، بؤساء وغلابى، ينتمون للمستويات الفقيرة اجتماعيا وماديا، وكان طبيعيا بحكم تشابه المعاناة والعيش تحت خط الخبز الحاف، أن يتعاطف هذا الكمساري مع الشابين المغدورين، لكنه لم يفعل وقرر أن يوقع بهما أي نوع من أنواع الأذى! كان بإمكانه أن يسلمهما لأمين الشرطة في القطار ويستكمل عمله، فقد أدى واجبه كمفتش تذاكر، لكن استبد به سعار الكراهية والانتقام والرغبة في تدوير دائرة القهر، ففعل فعلته التي فعل.

المبلغ المطلوب لإنهاء المسألة كان أقل من مئة جنيه، وركاب القطار الفاخر لم يتقدم أي منهم، مدفوعا بدوافع المروءة والنجدة، لحل المسألة بما يساوى ثمن ساندويتش شاورما. تعالت في داخل كهف الأنانية واللامبالاة التي يعيشون فيها صيحات: ليحترق الجميع بعيدا عني.. وهي الصيحات التي تسمع جلجلاتها الآن في كل مكان وداخل أغلب الناس تقريبا. الخطورة أن خير الناس وأفضلهم يمكن أن يقسو قلبه بتأثير العادة والاعتياد.

* * *

ما أصغر الموضوع في حادثة القطار وسلوك كمساري القطار، فقتلى حوادث الطرق والقطارات يكادون يكونون جزءا من الحياة اليومية للمصريين، لكن هذا الحادث بالذات كان أشبه بورقة عباد شمس وضعت في محلول هو المجتمع لتكشف لنا طبيعة التحولات الاجتماعية العميقة والخطيرة التي تحدث فيه. وهي ما حذر ويحذر منها الكثير من الكتاب والمثقفين من زمن طويل.. وكتاب "وجع المصريين" للدكتور خليل فاضل (الاستشاري النفسي والمثقف المعروف) أحد الكتب المبكرة التي صدرت تحذر وتنذر ومن خلال دائرة واسعة من التغطية لوجه المجتمع وباطنه أيضا وصدره بمقدمه بالغة التأثير قائلا:

 

 

هذا الحادث بالذات كان أشبه بورقة عباد شمس وضعت في محلول هو المجتمع لتكشف لنا طبيعة التحولات الاجتماعية العميقة والخطيرة التي تحدث فيه

".. إلى الغرقى في قاع البحر والنهر، إلى الأشلاء والعظام المعجونة بحديد وزيت المركبات ودم الأسفلت، إلى المحترقين داخل القطارات والمسارح إلى الموتى على شواطئ الهجرة وفي عربات الترحيلات، إلى كل الموجوعين لفقدان هؤلاء، وإلى كل الموتى على قيد الحياة.. أكتب هذا الكتاب".

يقول المؤلف: هكذا نحن المصريين نتطبع مع الواقع المر المعاش تدريجيا حتى نعتاده، مثل الذي اعتاد رائحة العفن فزكمت أنفه ولم يعد قادرا على الشم!!

يصف الشارع الذي انتشر فيه التسيب والقبح والكلمات الصدئة، راصدا فقد المصريين لأغلى ما امتلكوه وأشهر ما عرف عنهم، وهو الاقتراب من الآخر ومبادلته المشاعر الصادقة، والذي حل محله الخوف والفساد الأخلاقي، والتربص الاجتماعي والنفور والتوجس، وسلوكيات الآكل والمأكول.

"يمشي المصريون منهكون يتساندون على بعضهم البعض يتكئون على أكوام من الروشتات وأوراق التحاليل والأشعة، يحملون كدهم وهمومهم فوق رؤوسهم وعلى جباههم، يتكدسون على عتبات المستشفيات وخارجها ينتظرون الفرج والشفاء أو ينتظرون موتاهم".

أوجاع أجساد المصريين من الموضوعات الهامة التي تناولها المؤلف (فهو طبيب في النهاية) عارضا بعضا من أمراضنا.. الجهاز المناعي.. التلوث.. مرض السكري.. أمراض القلب، موضحا أن الصحة ليست الخلو من الأمراض، بل إن من يعتبرون أنفسهم أصحاء ليسوا كذلك، وبعض من يعانون من أمراض معروفة يعدون أصحاء نسبيا. فالصحة ليست تلك الأعضاء السليمة أو الأفكار المعقولة، لكنها مصطلح شامل يتعلق بالإنسان ككل، فالصحة في رأيه تعني صحة النفس والجسد والوجدان.

ويصرخ المؤلف مؤكدا أن الحكومة لم تتخذ إجراء واحدا يشير إلى أنها استجابت لنداء "الاستثمار في الصحة" من أجل مستقبل آمن لملايين المرضى، ولكنها في كل صغيرة وكبيرة قد استجابت لخصخصة المرض والعلاج، بل المرضى أنفسهم، ويتناول أزمة التأمين الصحي وبارونات الدواء، ويتحدث عن "الصحة النفسية"، مؤكدا من موقعه كطبيب نفسي أنه لا أحد محصن ضد الجنون، ولا مناعة لأحد ضد انهيار أو انكسار نفسي. بمعنى أن في أعماق كل منا نواة الاضطراب النفسي التي إذا توافرت لها الظروف نبتت وتفجرت، وإذا كمنت ظهرت في صور وأشكال مختلفة ومتباينة. ويرى أن نفسية المصريين قضية أمن قومي توجب الاهتمام بها جيدا دون هوادة أو استخفاف، خاصة في ضوء ارتفاع نسبة الإصابة بالاكتئاب لدى المصريين، وهو مرض نفسي قد يتطور للجنون.

أيضا يناقش الكتاب ظاهرة الأب الحاضر الغائب، متحدثا عن الأب "حبة اللقاح" الذي ليس له وظيفة أسرية سوى بذر بذرة الحمل من أجل ذرية صالحة أو طالحة.. يبدأ أبوته قبل ولادة أطفاله وبعدئذ ينهيها، مؤكدا أننا أصبحنا مجتمعا يفتقد إلى الأب بمعناه الأرحب والأشمل، مجتمعا يفتقد إلى الحضور النفسي والتربوي والوجداني والمادي للأب مقارنة بأجيال مضت.

يؤكد أيضا أن المراهقين في مصر قنابل موقوتة (انتبهوا الى قضية راجح الذى قتل زميله محمود البنا من أسبوعين)، فما هو متاح في عصر العولمة والإنترنت لا يُحتمل.

ويتحدث عن المثقف "الإليت" (elite)، ذلك المصطلح الذي تحول عبر سخرية المصريين إلى "الأليط" أي المثقف المتعالي، قائلا: "إن البأس كل البأس في ألا يطابق المثقف بين ما يضمر وما يعلن، ألا يسمي الأشياء والمواقف بأسمائها فلا يزايد أحد على أحد، ولا أظن المصريين إلا من الذكاء بحيث يمكنهم من التعرف على المثقف الأليط من المثقف العضوي الذي تعنيه بلاده وطموحاتها وهزائمها بقدر ما تعنيه طموحاته وهزائمه، من زاوية أنهما شيء واحد. وكما نرى جميعا، فإن نموذج الأليط يسود الحياة السياسية والثقافية حولنا، إذ يمكن فرز نخبة لم تجن مصر ولا المصريون من نخبويتهم شيئا".

 

يكاد يكون مثقفو مجتمعنا عبر ما يقرب من خمسة عقود يعملون لحساب أنفسهم!! فلم نسمع أو نر واحدا منهم ضحى بغال أو ثمين، بل أقصى ما سمعناه منهم مداورات ومحاورات عن التعايش مع "المؤسسة"، أي السلطة

وهذا الجرح تحديدا لم يشأ د. خليل أن يطيل فيه بما يساوي خطورته، تحسبا لصداقات أو ما شابه ذلك، أو لأنه هو نفسه ممن يلقون بأفكارهم من خلف جدران زجاجية، لكنه بالفعل يكاد يكون مثقفو مجتمعنا عبر ما يقرب من خمسة عقود يعملون لحساب أنفسهم!! فلم نسمع أو نر واحدا منهم ضحى بغال أو ثمين، بل أقصى ما سمعناه منهم مداورات ومحاورات عن التعايش مع "المؤسسة"، أي السلطة، أي الدولة، متخذين من الراحل نجيب محفوظ نموذجا مثاليا في ذلك، وكان شغفهم بالحياة "الهنية" والصعود الاجتماعى أكبر من حبهم للوطن والإنسان والحرية.

يتناول المؤلف أيضا مشاكل الزواج في مصر والعنوسة (15 مليون عانس) والطلاق (حالة كل دقيقتين)، والأسباب التي تدفع بالمرأة المصرية لطلب الطلاق أو الخلع معلنة "ضل حيطة ولا ضل رجل!!".. معلنا أن الشجار المزمن بين شركاء العمر مجرد واجهة لأمور أخرى، وأن السبب الأهم، بل ربما يكون السبب الوحيد، هو غياب أي وقت للتواصل الحميم والافتقاد إلى دفء عش الزوجية. وتحدث عن أطفال الطلاق والطريقة الحادة التي تناولها المصريون واعتمدوها في صراعاتهم الزوجية من منع رؤية الأطفال أو تشويه الطرف الغائب، وهي الطريقة التي أدت إلى ظهور جيل من الشباب "مأكول الحواف فاقد الثقة بنفسه مشوش وغير واضح المعالم".

التعليم (بئر الضياع العميق).. يصفه بأنه في محنة، وأزمة متفاقمة تصيب مثلثا متساوي الأضلاع (المدرس والطالب والأهل)، ويتحدث عن العنف المدرسي، موضحا أن المدرس يتعرض للقهر ويمارسه على الآخرين في ذلك الهرم الوظيفي، مما يحدونا إلى العودة لمصطلح تدوير القهر، أي أن كلا منا يقهر الآخر فيخرج غضبه وكبته، وحنقه وغيظه، ويصب ما في جعبته على الآخرين.

ويفتح د. فاضل ملف المدارس الأجنبية في مصر وخطورة تواجد مؤسسات ثقافية وتعليمية أجنبيه على أرض الوطن، حيث تغزو المناهج الغربية الطلاب المصريين في بيئتهم، والتي تخرج اجيال تكره مجتمعها وتستعلى عليه. ويصف مشكلة الإدمان بأنها أكبر وجع للمصريين، حيث يصل حجم الإنفاق السنوي على المخدرات بمصر إلى 25.6 مليار جنيه (هذا الكلام كان من عشر سنوات)، ويذكر أن هناك سبع مواد إدمانيه ظهرت في سوق إدمان الفقراء..

هذا الكتاب الذي طبع ثلاث مرات وصدرت أول طبعاته من عشر سنوات.. كتاب هام للغاية لكل المهمومين والمهتمين بالعمل الإصلاحي، ويكشف عن عورات كثيرة وكبيرة في بنيان العلاقات الأساسية داخل المجتمع المصري؛ وبين طبقاته وفئاته وقواه المختلفة.