تكمن أهمية المباني القديمة والآثارية، بالإضافة إلى المنحوتات والجداريات في أي بلد (بعيداً عن قيمتها الفنية المحدودة) في كونها المحرك اليومي لتفاعل الجماهير، كما أنها تعد أحد عناصر التشكيل البصري لجزء كبير من الشعب، وبالتالي فهي جزء رئيسي ضمن التكوين الثقافي والاجتماعي والسياسي أيضاً، سواء كان هذا بوعي من الجماهير أو من بدونه.
ما يثير تساؤل الكثير من الباحثين والمختصين هو مدى علاقة السلطات الحاكمة بهذه الأعمال، أو ما الذي تريده هذه السلطات منها؟
بما أن هذه الأعمال كما أسلفت تعتبر المحرك اليومي لتفاعل الجماهير، فإن السلطات الحاكمة تسعى لإيصال رسائل معينة عبرها لتستقر في الوعي الجمعي للناس، وتكون في أعينهم ليل نهار، فتصبح هذه الأعمال جزءا رئيسيا من التكوين الثقافي للشعوب.. سأوضح ذلك أكثر من خلال هذا المقال.
في الحقيقة ما دفعني للكتابة عن هذا الموضوع، هو المشهد المؤلم والقاسي الذي رأيته على مواقع التواصل الاجتماعي لنصب تذكاري وحجر أساس بائسين في مكان مبنى مستشفى الجمهورية في بنغازي؛ الذي تم هدمه دون أن أي شعور بالذنب تجاه عمر المبنى الذي تجاوز 100 عام، ودون أي احترام لأجيال بنغازي الذين أبصروا النور في هذه المستشفى العريقة، والمضحك المبكي أن من وضع النصب ومن يقص شريط حجر الأساس لا ينتمون لهذه المدينة ولم يكونوا من بين مواليد ذلك المبنى العريق..!
لن أضيع وقتي هنا في الرد على من يتحدثون عن أن المبنى متهالك أو على من يدعون الحداثة وحلم بناء مستشفى عصري حديث؛ لأنه كان بالإمكان صيانته (بحسب شهادات مهندسين). وبكل بساطة، كما هو معلوم لدى الجميع في بنغازي، لن يبنى مستشفى جديد، وسيظل حجر الأساس في مكانه ينتظر دوره مع باقي أحجار الأساس التي تملأ بنغازي خاصة وليبيا بشكل عام.
قضية هدم المباني العريقة ليس بجديد في بنغازي، بداية المأساة كانت بسوق الظلام (سوق بناه الأتراك) الذي تم هدمه بين ليلة وضحاها، ومبنى دار البلدية المهمل، وفندق البرنيتشي (قصر الجزيرة) الذي قالوا بهتاناً أنه آيل للسقوط وبالكاد تم هدمه، وغيره الكثير من الأماكن
التاريخية بما فيها ضريح المجاهد عمر المختار الذي لم يسلم من التغيير.
ما حدث في بنغازي ليس هو زاوية حديثنا هنا، إنما هو مدخل لطرح هذه الظاهرة التي وجدت في كل بقاع الأرض وفي مختلف العصور، ولمعرفة الأسباب التي تجعل من السلطات الحاكمة تهتم لأمرها بالهدم أو بالعناية، ولنعرف الرسالة التي تريد إيصالها للوعي الجمعي وترغب في تثبيتها وزرعها في المكون الثقافي والاجتماعي لدى الشعوب.
في خمسينيات القرن العشرين حاول الطبيب النفسي الكندي دونالد كاميرون البحث عن طريقة يستطيع من خلالها تغيير أفكار وعواطف وقناعات الإنسان بشكل كامل.. بمعنى البحث عن سبل صناعة إنسان جديد مختلف تماما عن نسخته القديمة.
كاميرون رأى أن أفكار وقناعات الإنسان تأتي من مصدرين، هما ذكريات الماضي وإداراك الحاضر، ولكي يتمكن من صناعة إنسان جديد عليه أن يلغي القديم، بحيث يجعل منه صفحة بيضاء يكتب عليها كل ما يريده أن يتواجد في عقل وثقافة النسخة الجديدة.
الإنسان ليس إلا نموذجا مصغرا عن الشعوب والأمم، وبالتالي ما ينطبق على الإنسان ينطبق أيضا على الشعوب والأمم، فالسلطات المستبدة استخدمت هذه المقاربة على الناس، حيث عملت على التشكيك في تاريخ وحضارة الشعوب (ذكريات الماضي) وزرع روايات جديد تتماشى مع رغباتها لتعلق في الذاكرة الجمعية للشعوب، أو على أقل تقدير في الجيل الذي يليه، ثم تكون الخطوة الثانية وهي زعزعة إدراك الحاضر، عبر تدمير وإخفاء المنحوتات والمباني التاريخية التي ترمز لعصور سبقتها، لتبني مكانها صروحا جديدة تذكر بالسلطة الحالية، لتحصل هنا على شعب جديد، يحمل ذكريات ماضي منتقاة بعناية، ويتأثر بواقع حديث، يتفاعل معه بصرياً ليخلق إدراكا جمعياً للحاضر، بعيداً عن كل ما يذكره بماضيه.
بشكل بسيط.. هي عملية تسمى بـالإحلال، تاريخ محل تاريخ.. تراث محل تراث .. شعب مكان شعب.. وتنتهي المسألة!
وكما هو متعارف عليه عند تزييف التاريخ والوقائع، يتم تواتر هذه المعلومات المشوهة بشكل مكثف لتكون هي الحقيقة المطلقة الواجب الحديث عنها، بل وحتى التباهي بها.
وكما أسلفت، فإن هذه الظاهرة وجدت في كل البقاع وعبر كل العصور، لعلي هنا استرجع تفاصيل بعضاً منها في الجارة مصر وفي السعودية كونها أهم الدول العربية والتي يتمنى الكثير منا مجاراتها واستنساخ طريقة حكمها..!
القاعدة الخاوية الشهيرة في ميدان التحرير في القاهرة التي كان من المفترض أن يقام عليها تمثال الخديوي إسماعيل في نهاية عام 1949؛ بقيت في مكانها دون التمثال بعد حركة يوليو 1952، لتزيلها السلطات المصرية في التسعينيات القرن الماضي لصالح مشروعات السلطة الحاكمة والمتمثلة في مترو الأنفاق.
أيضاً تمثال الملك فؤاد في ميدان عابدين، والذي لم يُكشف عنه الستار بعد حراك تموز/ يوليو 1952، ويختفي من الميدان وينساه الناس تماماً، وليرتبط فيما بعد ميدان عابدين في ذاكرة الشعب المصري بخطب جمال عبد الناصر النارية.
وعلى نفس المنوال سارت دولة آل سعود.. فمكة شهدت في العقدين الأخيرين، هدم آخر ما تبقى من الرواق العثماني في الحرم المكي بحجة أعمال التوسعة، فيما تم هدم بيت أبي بكر الصديق وغيره من بيوت الصحابة، في سبيل إقامة فندق هيلتون أيضًا..!
في الواقع، إن صراع الهويات الذي تشهده مكة يُقابله على الجهة الأخرى اهتمام ودقة متناهية في تطوير مدينة الدرعية؛ التي تقع جنوب هضبة نجد وتتبع منطقة الرياض.
الدرعية، والتي كانت عاصمة الدولة السعودية الأولى، سقطت على يد الجيش العثماني عام 1818 ويراد لها أن تصير معلما وطنيا يحكي قصة نشأة المملكة بحس قومي وديني.
تطوير الدرعية هو أحد أهم مشاريع الملك سلمان الداخلية حالياً، ورغم أن المملكة تدعي أنها تلتزم بمقررات اليونسكو في تطوير الأماكن الأثرية والقصور، إلا أن عدد من مسؤوليها أقروا بأن هدف هذا الاهتمام هو تسليط الضوء على ظروف تأسيس الدولة الأولى، وتاريخ وإنجازات رجالها الأوائل.
الالتزام بمقرارت اليونيسكو لم يظهر في المملكة حين تم هدم قلعة أجياد التاريخية المطلة على الحرم لبناء برج الساعة مكانها، رغم بُعدها كل البعد عن شبهة التبرُّك بالقبور التي أتت على كل ما هو تاريخي بمكة.
حجج واهية هنا وهناك، والسبب الرئيس يبقى واحد في كل الحالات والأمثلة التي جئت على ذكرها، ألا وهو "الإحلال"..
من أسس لتمثال الخديوي كان يبحث عن تثبيت إرث تاريخي يذكر الحاضر والمستقبل به، فجاء من بعده من يزيل هذا الإرث ويعمل على تكوين إدراك جمعي جديد يُنسي الجماهير ما سبق، ويذكرهم بما هو حالي فقط..!!
هُدمت قلعة أجياد لينسى الناس حقبة العثمانيين، ويحل مكانها في إداركهم الحاضر فقط (برج الساعة الذي أينما وليت وجهك في مكة شاهدته)، وسُويت بيوت الصحابة بالأرض في الوقت الذي تم ترميم قصور مؤسسي الدولة السعودية الأولى في الدرعية، ليحصر تاريخ أرض الحجاز في آل سعود لا غير.
بنغازي منطلق حديثي في هذه المقالة بات التغيير والإحلال فيها أسهل من غيرها من المدن، فقد أتت الحرب التي اندلعت فيها عام 2014 على أبرز معالمها التاريخية، ومسح من الخريطة مركز المدينة الذي كان يضم أقدم وأعرق مبانيها، ومع "إعادة الإعمار" (المتصارع عليه) ستشكل هوية جديدة في بنغازي، ويتم إحلال إدراك جمعي جديد للجماهير، ومع مرور الوقت سيكون هو التاريخ والحاضر وربما حتى المستقبل، إن لم يأت من يزيله ليخلق واقعاً جديداً ويستمر هذا العبث التاريخي..!
الدولة لا يمكنها أن تصنع تاريخها من خلال فيلم أو متحف أو نصب تذكاري، وعبر تزوير حقائق التاريخ لفرض واقع جديد، على الدول أن تعترف بواقعها القديم وتبني عليه لتصنع مستقبلها، بدل الالتفات إلى الماضي من أجل تغييره ومحو الذاكرة الشعبية، وإحلال ذاكرة جديد لا تستند إلى الواقع التاريخي للدولة، فلا ضير في تداخل الحضارات، ولن ينقص من قدر الدولة وجود علاقة تربطها بتاريخ من حكم قبلها، بل حتى مع الدول الأخرى، وهو الأمر الذي لا يمكن فصله والهروب منه مهما حاولت السلطات الحاكمة.
الدول الراشدة هي التي تعترف بالتاريخ وتعمل على جعله مصدر قوة لها وانسجام، بدل من الخوف منه وجعله كعنصر خلاف وانفصال، هي الدول التي تنفتح على ماضيها لتصنع ذاكرة حقيقية لا تُقصي الآخر بل تقترب منه، فمن ليس له ماضٍ فلا حاضر ولا مستقبل له.
لست من المهوسين بنظرية المؤامرة كما سيعتقد البعض، لكنني لا أنفي وجودها بشكل مطلق، وما أعتقده هو أن على المرء أن يكون بين هذا وذاك في تفكيره ورؤيته.
إن أردت أن تلغي شعباً، ما عليك إلا أن تهز ثقته في ذاكرته، ومن ثم تلغي ثقافته القديمة وتختمها بتدمير ومسح أماكنه التاريخية، بالتالي تكون قد نجحت في شل الماضي وتعطيل الحاضر، ثم تكتب له تاريخا آخر وتعطيه ثقافة مغايرة وتبني له مباني وصروحا جديدة، لتكون المحصلة النهائية شعبا مختلفا تماما عمن سبقه..!
لا يوجد أسوأ من أن تنسى الجماهير تاريخها، هي جريمة نكراء في حقها..
عندما يغفل الشعب عن ماضيه الحقيقي ويستبدل بتاريخ مزيف مخالف، حينها سينسى الشعب من هو، وكيف كان، والطامة الكبرى هي أن العالم سينساه أيضاً.