قضايا وآراء

في ذكرى يوليو.. الملكية و"مصر الكبرى"

1300x600
كانت التغريدة التي كتبها الأربعاء الماضي (24 تموز/ يوليو) المفكر الكبير د. إبراهيم البيومي غانم، الأستاذ في المركز القومي للبحوث وصاحب أشهر رسالة دكتوراة عن "الوقف"، تغريدة مثيرة وباعثة على الكثير من الألم والحسرة.. ماذا قال د. غانم في تغريدته؟ قال: في تموز/ يوليو 1952 كانت مساحة أراضي الأوقاف الزراعية المصرية 950 ألفا و582 فدانا (خمسمئة واثنين وثمانين ألفا وتسعمئة وخمسين فدانا زراعيا). وفي يوليو 2019، فإن إجمالي هذه المساحة قد نقص إلى 144 ألف فدان (مئة وأربعة وأربعين ألف فدان)، فلماذا نقصت تلك المساحة؟ وأين ذهب الفرق بين ما كان سنة 1952 وسنة 2019م؟

سيكون هاما أن نعرف أنه وبعد 51 يوما على حركة الضباط الأحرار (يوليو 1952م).. كان مجلس قيادة الثورة قد أصدر قرارا بقانون رقم 180 لسنة 1952م؛ يقضي بإلغاء الوقف الأهلي وتنظيم قسمته على المستحقين فيه، وعدم جواز الوقف على غير الخيرات.. كانت هذه الأوقاف تنفق على المستشفيات والمدارس والملاجئ، والأهم أنها كانت تعطي المؤسسة الدينية (التعبير الروحي الأكثر فاعلية للأمة) استقلالا كاملا عن السلطة التنفيذية.

نظام الوقف الذي يعود الى 14 قرنا مضت؛ أجهزت عليه ثورة يوليو تماما.. ويكون سؤال العلامة د. غانم قد فتح بابا كبيرا لسؤال أكبر: لماذا بادرت الحركة بهذا القرار وبعد مدة وجيزة جدا من التحرك، وكانت أمامها من المعارك وصراعات السلطة ما يجعل موضوع الأوقاف هذا في آخر اهتماماتهم؟ ابحث عن المجتمع القوي.. هكذا تقول الإجابة.. كان الزعيم الخالد وحركة الضباط الأحرار يطلقان صوتا واحدا: لا شيء يعلو فوق الدولة، حتى ولو كان المجتمع ومؤسساته الأهلية.. والدولة في فهمهم ليست المؤسسات والهيئات.. الدولة في فهمهم هي: أنا.. وكل شيء تمكن التضحية به على مذبح "أنا".

كان الملك فاروق (1936-1952)، وهو آخر من حكم مصر قبل حركة الضباط، يحلم بتكوين "مصر الكبرى" ذات التأثير الإقليمي الواسع، خاصة بعد غياب رابطة الخلافة عام 1923.. وكان عبد الرحمن باشا عزام، والذي أصبح أول أمين عام للجامعة العربية، يقول له إن قوة مصر وسلامتها أمر ضرورى لتوفير الحد الأدنى من الحصانة العربية للإقليم كله، فاستقبل رؤساء وملوك سبع دول عربية في مصر عام 1945م، معلنا قيام جامعة الدولة العربية، واستقدم خبراء عسكريين ألمان لإعادة بناء الجيش بعد هزيمة 1948 م.. وحقق مجانية التعليم ما قبل الجامعي بنسبة 100 في المئة، وأسس جامعة الإسكندرية وعين شمس وأسيوط.

كان الملك ونظامه يدركون أن قوة مصر الإقليمية تكمن في قوة أبنائها وريادتها تكون في ريادتهم وكان طبيعيا ان يكون التعليم هو الطريق لتلك القوة وتلك الريادة.. فتضاعفت ميزانية التعليم في عهد فاروق ست مرات وانتهت إلى تحقيق مجانية ماقبل التعليم الجامعى تماما كما ذكرنا وانشأ عيد العلم سنة 1944 وقال في خطابه بهذه المناسبة: ".. ياشباب النيل إن مصر تدّخركم لها فلا تدّخروا فكرة ولا عاطفة ولا طاقة في سبيلها.. لا نعرف ما تدخره لكم الأيام، ولا تعرفون ماذا تهيئ لكم الأيام، ولكن الذي نعرفه وتعرفونه هو أن تكونوا دائما مؤمنين بربكم وحقوق بلادكم، مخلصين في وطنيتكم ومعتزين بمصريتكم..).

في عهده، وتحقيقا لحلمه، أنشأ معهد الدراسات الإسلامية بمدريد، والمجلس الأعلى للبحوث العلمية والصناعية (المركز القومي للبحوث)، ومعهد بحوث الصحراء.. وأنشأ وزارات جديدة تتوجه للمجتمع والناس (وزارة الشؤون الاجتماعية/ وزارة التموين/ وزارة الاقتصاد/ وزارة الصحة/ وزارة الشؤون القروية- المحلية).. وأنشأ ما عرف بـ"مجلس مكافحة الفقر والمرض والجهل"، وذهب بنفسه الى مجلس الوزراء عام 1946 (وزارة النقراشي باشا) ليخبر الوزراء بذلك.

وبدأ الإصلاح الزراعي بتوزيع خمسة أفدنة على الفلاحين بقرية "كفر سعد" من الأراضي المستصلحة، دون المساس بملكية الآخرين.. وأنشأ مشروع فاروق لإسكان الفقراء وبنك القاهرة واتحاد الغرف التجارية، وأغلق منجم السكري للذهب عام 1948؛ ليكون ثروة مدخرة للأجيال القادمة، حتى يعلموا أن أجدادهم لم يفرّطوا في ثرواتهم، كما قال.

وأنشأ الجهاز المركزي للمحاسبات (ديوان المراقبة)، وجهاز الكسب غير المشروع (من أين لك هذا؟)، وقانون محاكمة الوزراء، وديوان الموظفين (الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة).. وأنشأ مجمع التحرير، وقانون استقلال السلطة القضائية، والقانون المدني المصري، ومجلس الدولة. وتم في عهده إلغاء المحاكم المختلطة..

في عهده تم توقيع وإلغاء معاهدة 1936؛ التي أعطيت بموجبها لمصر سلطات أكثر على أراضيها، وانتقلت معظم القوات البريطانية إلى مدن القناة كخطوة أولى نحو الجلاء، وتم تقليص امتيازات المندوب السامي البريطاني.

ومن علامات، التاريخ أن الملك فاروق رفض التخلي عن السودان أثناء توقيع معاهدة صدقي- بيفن (تشرين الأول/ أكتوبر 1946)، والتي كانت ستتيح جلاء الإنجليز خلال ثلاث سنوات عن مصر وكافة الأراضي التابعة لها.. ثم جاء الضباط الأحرار وفرّطوا في السودان، ولم يرمش لهم جفن أو يتحرك لهم ضمير أو يندى لهم جبين، كما يقال.

فى عهده تم إنشاء الكلية البحرية والكلية الجوية ومدرسة المهندسين العسكرية في مسطرد، ومدرستي أركان الحرب وضباط الصف، وأنشأ المصانع الحربية، وأصدر قانون كادر البوليس وقانون تنظيم هيئات الشرطة ومجلس أعلى للشرطة، وأنشأ مصلحة الأرصاد الجوية، ومشروع كهرباء خزان أسوان.

في عام 1949، بدأت شركة قناة السويس في حفر قناة فاروق (تفريعة البلاحة) لزيادة عرض وعمق القناة وتيسير حركة مرور السفن فيها.. كان عقد امتياز القناة سينتهى بعد عشرين عاما (1969م)، دون مسرحيات الرفاق.

وتم في عهدة تأسيس أهم النقابات: نقابة المحامين عام 1939، ونقابة الصحفيين، ودار الحكمة عام 1941؛ الذي أصبح مقرا لنقابة الأطباء، وتم إنشاء نقابة المهن التمثيلية، وافتتح نادى القضاة. وواضح أنه كان هناك تيار فكري منظم ومتكامل يقف خلف كل ذلك.

هذه هي مصر التي تسلمها الضباط الأحرار صبيحة 23 تموز/ يوليو 1952، ولك أن تتخيل ماذا لو مددنا الخط على استقامته امتدادا لما ذكرناه سابقا!

ليست لدينا أشواق ملكية ولا غير ذلك، ولسنا ضد حركة التاريخ، إذ ليس بإمكان أحد أن يوقف حركته وتطوره.. ومن المؤكد أن الملك فاروق زال ملكه؛ حيث انطبقت عليه سنن التاريخ في قيام وسقوط الدول والممالك وذهاب الملوك والحكام.. وهي السنن التي لا يتعلم منها أحد من بني البشر. وويل لمن تأتي منه العثرات.