التنظيمات النقابية حول العالم هي حجر زاوية هام بين مؤسسات المجتمع المدني لحشد المجتمع حول مصالحه المشتركة في مواجهة السلطة، وهو الدور الأساسي المعني به المجتمع المدني في ظل الدولة المدنية الحديثة، ليكون معبرا عن الأفراد في مواجهة مؤسسات الدولة، وهو ما يحافظ على التوازن بين قرارات منظومة الحكم وبين حقوق الشعب داخل الدولة.
ولكن الأزمة
المصرية تكمن في أن الدولة العسكرية منذ عقود؛ حوّلت المجتمع المدني بشكل عام إلى ديكور اجتماعي لا يقوم بدور حقيقي، وبالتالي لم يتمكن التنظيم النقابي في مصر من لعب دوره الحقيقي، وترك الأفراد للدهس تحت مقاصل السلطة العسكرية (اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا).
وفي أفضل أحوال التنظيمات النقابية في مصر في التسعينيات من القرن الماضي، لم يسمح لها النظام ذو الخلفية العسكرية حينها (نظام مبارك) بالاستمرار، وفرض الحراسة القضائية عليها لوقف أي دور حقيقي للتنظيم النقابي، وهو ما دفع الملايين من المصريين للعزوف عن المشاركة في التنظيمات النقابية، فشارك الشعب المصري السلطة في تهميش التنظيم النقابي وإخراجه من المعادلة، كحال باقي مكونات المجتمع المدني المصري.
ولكن يبقى السؤال: هل يمكن للتنظيمات النقابية أن يكون لها دور في مواجهة الأنظمة العسكرية؟.. الإجابة حتما نعم، ففي ظل شراسة الدولة العسكرية سيظل التنظيم النقابي هو الحالة الوحيدة المتاح فيها حشد أكبر عدد ممكن من المواطنين، للالتفاف حول مطالب تصنع مواجهات بين الشعب والسلطة العسكرية. فالتنظيمات النقابية، سواء كانت مهنية أو عمالية، تستطيع أن تحشد ملايين المواطنين حول مصالحهم وقضاياهم التي هي بالأساس التكوين الجمعي للمطالب السياسية الأساسية. فالمطالبة بالحريات النقابية هي جزء من المطالبة العامة بإطلاق الحريات في مصر، والمطالب الاقتصادية لكل شريحة نقابية هي جزء من مطلب العدالة الاجتماعية.
وبالتالي، فإن من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها النخبة السياسية في مصر هي الخروج المجاني والطوعي من ساحة النضال النقابي في مواجهة الحكم العسكري، في ظل توقف أي حراك سياسي على أرض مصر تحت الآلة العسكرية القمعية. فحتى إن قرر العسكر وقف الحياة النقابية داخل مصر بالآلة العسكرية، فعلى النقابيين أن يخوصوا معركتهم ويضعوا السلطة العسكرية في موقفها الحقيقي من المجتمع المدني. فالانسحاب من النضال في مساحة
النقابات المهنية يعطي شكلا تجميليا للسلطة العسكرية؛ بسماحها لوجود تنظيم نقابي شكلي يسيطر عليه أتباع السلطة والمستفيدين، ولا تقوم تلك التنظيمات حتى بدورها في الدفاع عن مصالح أعضائها ضد الهيمنة العسكرية في كل المجالات.
لذا، فإنه على المعسكر المناهض للسلطة العسكرية في مصر إعادة النظر من جديد في النضال النقابي داخل مصر وخارجها، وعدم التقيد بالتنظيمات النقابية المسيطر عليها حكوميا، واستدعاء تجارب النقابات المستقلة حتى وإن لم تعترف بها الدولة، وإعلان اتحادات نقابية وعمالية من المنافي تدافع عن حقوق الشرائح الاجتماعية في مصر أمام المنظمات الدولية. فتهيئة المناخ للشرائح الاجتماعية لخوض معارك ضد السلطة العسكرية حول مصالحها الخاصة؛ قد يكون شرارة ملائمة لاشتعال الثورة.