تضغط التساؤلات ذاتها على وعي المسلمين مع الجدل المتكرّر الذي يلازم دخول رمضان والعيد من كل سنة. يفترض بعض القوم أنّ "الأمّة الواحدة" ينبغي أن تتوحّد تماما في أيّام صومها وفطرها، وأنها إن افترقت في بدء مواسم كهذه أنّى لها أن تجتمع على شؤونها الأخرى.
تغيب عن هذا الجدل، وما يجرّه من تلاوُم مُزمِن، حقائق متوارية؛ منها أنّ المسلمين جميعا عبر المعمورة لم يكن بوسعهم عبر التاريخ أن يتوحّدوا في أيّام الصوم والفطر إلاّ بأقدار نسبية، لأسباب بعضها واقعي جدا ومفهوم بالطبع في سياق أزمان خلت. لكن مع تلاشي الإحساس بالمسافات ونضوج العولمة الاتصالية؛ بدا المشهد جليا في الافتراق والتشرذم، وصارت أقطار الأمّة وشعوبها ومجتمعاتها وأوساطها وجماعاتها تستشعر وطأة افتراقها الحاصل في هذا الشأن، مع إحساس متعاظم بالعجز عن معالجته أو بانفلات الموقف إلى حالة مستعصية على الضبط.
واقع الحال أنّ مسألة بدء الصوم والفطر تحتمل من تلقائها تعدّد الأقوال والتطبيقات الفقهية والفلكية، وحتى الجغرافية (كما في مسألة اختلاف المطالع، والتقويم الأحادي أو الثنائي عبر العالم)؛ بما تضيق هذه المقالة عن بيانه المستفيض. ثمّ حلّ الواقع الاتصالي المستجدّ سيْفاً ذا حدّين، فهو يمنح فرصة لتعميم اختيارات معيّنة بما يتجاوز نطاقات جغرافية محدودة، لكنه في الوقت عينه يُضعِف مركزية التوجيه وقطبية "القرار الديني" في المجتمعات، بانسياب مؤثرات خارجية تضمحلّ معها مرجعياتٌ وتظهر اختياراتٌ متعدِّدة، لم تكن معروضة للجمهور من قبل ضمن النسق الواحد؛ مذهبيا وفقهيا.
فبعد إعلانات الاستقلال ونشوء "دول وطنية حديثة" وما ارتبط بها من مواقع دينية وهيئات علمائية؛ احتكرت الدولة وهيئاتها المختصة دور مرجعية القرار في دخول رمضان وانتهائه حسب آليّاتها المعتمدة. كان الناس ينتظرون "الخبر" من المذياع والتلفزة فيسلِّم به الشعب تسليما؛ بلا تعقيدات أو اعتراضات غالبا، وإن تسلّل إليهم شكّ في موثوقية الثبوت أحيانا. مضى الأمر على هذا النحو عندما كان الجمهور واقعا في مجال البثّ الذي تباشره "القناة الأولى والثانية" على الشاشة الرسمية، أو مع مدفع رمضان والعيد الذي تحتكره السلطة.
لكنّ الجمهور ذاته انفتح من بعد على ما تضخّه آلاف القنوات بلغة الضاد وحدها وإن تفاوتت في الحظوة، كما يُعايش حالة تشبيك بأجهزته المحمولة التي لا تعترف مضامينها بنطاقات الجغرافيا، وامتلك الفرد المستقلّ بذاته أداة البثّ الجماهيري التي قد تتصدّى لرواية الدولة وهيئاتها وتنحاز إلى اختيارات بديلة؛ كالتي يأتي بها "لوبي الفلكيين" مقابل موقف تحرِّي الرؤية بالعين المجرّدة.
كان مفهوما في ما مضى أن يوافق القرار المُتّخذ في بدء رمضان وانتهائه أوزان الدول واصطفافاتها الإقليمية. كما كان للافتراق السياسي وإظهار التفرّد ورفض التبعية الإقليمية تأثيرات مؤكدة في قرارات بعض الدول خاصة في بعض المراحل، وتبدو حالة ليبيا في عهد القذافي مثالا جليا على ذلك. وبقيت لخصوصيات الجغرافيا والفقه والتاريخ تأثيراتها الواضحة التي تتجلّى في دولتيْن مثلا: عُمان في أقصى الشرق العربي والمغرب في أقصى الغرب.
لكنّ بعض الدول تضعضعت من بعد وتشظّت كياناتها، ولم تَعُد عواصمها وحكوماتها مرجعية المنتفضين عليها والثائرين، الذين ما عاد بعضهم يعترف بأعلامها ولا بشرعية الهيئات الدينية والعلمائية الرسمية فيها. ولّى بعضهم وجهه شطر مرجعيات بديلة في إقليمهم، أو نصّبوا شيئا من ذلك بأنفسهم تحت راية رفعوها تزعم السيادة على فتات من الأرض، فهم يُدرِكون مثل غيرهم أنّ المواقيت "قرار سيادي" وليست اختيارا موضوعيا وحسب.
يصير مفهوما بالتالي أن يفترق قرار بدء الصوم والفطر في جغرافيا تشظّت سياسيا، وما يجري في هذا الشأن يعبِّر عن تمزُّق النسيج الشعبي والمجتمعي في حالات تفكّك الدول وتقسيمها، بمعنى أنّ الافتراق في أيّام الصوم والفطر في هذه الحالات تعيينا هو شاهد على افتراق سياسي سابق عليه؛ وقد يشي بتخندُق شعبي متقابل أحيانا، وفيه ما يُنبِئ بغلبة القطيعة بين رقاع الجغرافيا المفتّتة والمُمسكين بزمامها.
إنّ الاختلاف في بدء رمضان والعيد عبر دول الإقليم الواحد هو انعكاس منطقي لثقافة تضخيم الإحساس بهويّة أوطان التجزئة وفتاتها، وتعظيم شاراتها السيادية واستحواذ صانعي القرار فيها على المشهد بصفة مبالغ بها.
أمّا في مناطق تتجاوز هذه الدول، مثل الأقليات المسلمة حول العالم، فتنتفي سلطة مؤسّسات الشأن الديني في بعضها وتحضُر بأشكال أخرى في بعضها الآخر. في البلقان مثلا؛ تتولّى "المشيخات" الشأن الديني بصفة حصرية أو احتكارية تقريبا، فيأتي قرارها سابغا ومُلزِما إلاّ عند قليل ممّن يُحسَبون على مخالفة الخطّ العام؛ كالمتأثِّرين بالمشرب الموصوف بالسلفية،وهي حالة استجدّت في بعض تلك البلاد منذ تسعينيات القرن العشرين بتأثيرات خليجية عموما وسعودية خصوصا. يتجلّى الدور المرجعي للمشيخات - مثلا - في البوسنة والهرسك ومقدونيا وألبانيا وكوسوفا وإقليم السنجق الواقع ضمن صربيا وغيرها. كما تنهض مواقع الإفتاء المعتمدة في رومانيا وبلغاريا بأدوار شبيهة. أما في روسيا وأوكرانيا؛ فإنّ الإدارات الدينية ومجلس شورى المفتين يحسمان أمر الصيام والفطر بلا مشقّة؛ علاوة على مرجعيات محلية تقرِّر في الشأن ضمن الجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة المنضوية في الاتحاد الروسي؛ مثل الشيشان وداغستان وتتارستان ونحوها.
يبدو المشهد على النقيض من ذلك في وسط أوروبا وغربها بما تضمّه من عشرات ملايين المسلمين، حيث ينعكس تنوّع مسلمي الأرض على قرارات المجتمعات المسلمة المحلية بما يُنشئ إحراجات مستمرّة. يعود ذلك إلى اعتبارات منها افتراق الأقوال فقهيا وفلكيا، وكذلك في تنزيل مقتضي الفقهي والفلكي في الواقع، وتأثير الأصول الإثنية للمسلمين على اختياراتهم؛ وهذا - رغم المآخذ عليه - ينبغي احترامه والتعامل معه بواقعية، أخذا بعين الاعتبار السِّمة الإثنية الظاهرة لكثير من المراكز الإسلامية والمساجد لاعتبارات لغوية واجتماعية وجمعياتية وفقهية، ويأتي في السياق كذلك تأثير وسائل الاتصال التي تُزاحم قدرة المؤسسات المحلية على فرض اختيار معيّن. ثمّ يبقى تأثير تقليدي لما يسميه بعض المسلمين "اتِّباع مكّة المكرّمة"؛ وهو اختيار مفتعل ومُقحَم على الملفّ لكنّ تأثيره المعنوي يبقى مهمّا، خاصة مع وجود مراكز في العديد من العواصم مرتبطة في تأسيسها بالسعودية أو بمؤسسات فيها.
إنّ ما يبدو افتراقا في الاختيارات في أيّام الصوم والفطر، له في البيئات الأوروبية الغربية والوسطى وجه بالغ الأهمية يتعلّق بنظرة المجتمعات المسلمة المحلية إلى ذاتها عبر المراحل التاريخية؛ أتكون مجتمعات لها هويتها وكيانيّتها ضمن بلدانها الأوروبية؛ أم سترضخ لمفهوم "الرعايا المغتربين" بصفة عابرة للأجيال بما يُعيق مطلب تعزيز التجذّر في أوطان جديدة؛ وهو تجذّر لا يقضي من ذاته بالتنكّر لأبعاد مركّبة في الهوية المسلمة ضمن بلد أوروبي ما.
لا يغيب عن النظر أنّ مفهوم "الرعايا المغتربين" تُغذِّيه مؤثِّرات تقليدية ومعنوية؛ منها الحنين إلى أوطان سابقة أو إلى منشأ الآباء والأجداد بالأحرى، والرغبة بالوفاء لأواصر ثقافية واجتماعية منعقدة مع المنابت السابقة، علاوة على تأثيرات منهجية تمارسها دول على "مواطنيها في الخارج" من خلال هيئات وملحقيات و"وداديات" (بعثات ثقافية اجتماعية بالمصطلح المغاربي) وتجمّعات ومؤتمرات ونحوها، وهي أدوار متفاوتة الحضور والتأثير في هذا الشأن عبر المراحل ارتبطت بدول مثل المغرب والجزائر وتركيا وباكستان ومصر وتونس مثلا.
لا تغيب تجارب ومحاولات للمعالجة في هذا الصدد، لعلّ من أبرزها "المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث" الذي تأسس عام 1997 وظلّ منتظما منذ ذلك الحين في هياكله وأعماله ودورات انعقاده. وضع المجلس نصب عيْنيْه الاشتغال على معالجات فقهية مختصة بالواقع الأوروبي؛ منها حثّ المسلمين على الاجتماع في أيّام الصوم والفطر، وانتقل من اعتبار الرؤية الموافِقة للحساب الفلكي (أي الأخذ بالحساب في نفي الرؤية غير الممكنة فلكيا) إلى اعتبار الحساب الفلكي في إثبات دخول رمضان والعيد. سعت هذه التجربة المهمّة عبر أكثر من عقديْن من الزمن إلى توجيه المسلمين في المجتمعات الأوروبية على أمل اجتماعهم على هذا الخيار؛ خاصة إن توافقت معه هيئات ومجالس محلية في الأقطار الأوروبية، لكنّ التجربة واجهت تحدِّي الواقع وتعقيدات الحالة وتنوّع المشهد عبر قارّة بحيالها تضم أكثر من أربعين دولة، يشتمل كثير منها خصوصيات مسلمة متعددة في داخلها. أدّى هذا الواقع إلى تجاوب متفاوت المنسوب مع قرارات المجلس في مسألة بدء الصيام والفطر؛ لكنّ هذا الخيار آخذ في الترسّخ في الواقع مع اضطراب الخيارات التقليدية البديلة في اتِّباع ما تقرِّره دول متفرقة الاختيارات والأهواء في العالم الإسلامي.
تبدو صعوبات التطبيق الجماعي الموحّد لبدء دخول رمضان والعيد في التجربة الأوروبية مفهومة إذن؛ بمفعول روافد وتأثيرات متعدِّدة تحكم اختيارات الوجود المسلم، وكذلك بتأثير ضعف فرص التوجيه المركزي له في الشأن الديني.
بالوسع الافتراض أيضا أنّ جمهرة المؤسسات والأئمة، خاصة من ذات الخلفية العربية، تخشى أحيانا ضعف تجاوب جمهورها مع اختيارات "غير مألوفة"؛ باعتبار وقوعه تحت التأثيرات سابقة الذكر. أمّا مرجعية القرار في الصوم والفطر لدى التجمّعات من الخلفيات التركية والبلقانية في أوروبا الغربية والوسطى، فمعزّزة أساسا بقرار مؤسسات مركزية توافق ما هو مقرّر في هذا الشأن في بلدان المنشأ؛ أي تركيا والبلقان، التي تعمل بالحساب الفلكي عموما، وهو امتياز لا تحظى به الخلفية الإثنية العربية التي تفترق أوطانها السابقة على نحو بيِّن في أيام الصوم والفطر.
ما تجدر ملاحظته في هذا الصدد، أنّ قرارات "المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث" توافقت عمليا في أيّام الصوم والفطر مع ما عليه الحال لدى مسلمي الخلفية التركية والبلقانية في حضورهم الأوروبي الغربي وفي أوطانهم الأصلية، وهو ما عزّز خطّ "الحساب الفلكي" الذي استجدّ عمليا على أوساط مسلمة عدّة لم تألفه من قبل، دون أن تنتفي معضلة جمع المسلمين في حيِّز جغرافي واحد على قرار جامع وحاسم. وظلّ بعض المسلمين، مع ذلك، يشقّون محاولات متفرقة في الرؤية بالعين المجرّدة من مناطق مرتفعة، أو بالتواصل المستقلّ مع المراصد الفلكية المحلية، أو عبر تبنِّي أقوال واجتهادات متعدِّدة في هذه المسألة المثيرة للجدل والافتراق.
لا تنشغل هذه المقالة بالمفاضلة بين الخيارات الفقهية والفلكية ذات الصلة بما فيها من مباحث؛ لكنّ الحاجات الواقعية التي تعزِّز الأخذ بالحساب الفلكي في الأقطار الأوروبية تشمل أبعادا شتى ضاغطة، منها ما يتعلّق بترتيبات أيّام إجازة العيد مع السلطات والهيئات التعليمية وأرباب العمل، وكذلك بحجز قاعات الصلاة الجامعة قبل مواعيد محددة، وتوحيد موقف المسلمين مع هذه الجهات قدر الممكن. أمّا تعدّد الأقوال فيضغط بالطبع على الحياة الاجتماعية للمسلمين في المدن والأحياء وفي المسجد الواحد؛ وأحيانا ضمن الأسرة الواحدة، وهو ما يتسبّب بحرج وجدل في كل موسم.
للمعضلة التي يواجهها مسلمو أوروبا في هذا الشأن ما يُناظرها في الأمريكيتين وفي بيئات تضمّ "أقليات" مسلمة تشكِّل في مجموعها قرابة ثلث مسلمي الأرض، وبعضها شعوب ومجتمعات قائمة بذاتها بالأحرى؛ ضمن دول ليست مصنّفة "إسلامية". يُعبِّر المثال الهندي عن ذلك بصفة قد تبدو مفاجئة،بافتراق مسلمي "الديمقراطية الأكبر على وجه الأرض" على ثلاثة أيام في بدء الصوم والفطر أحيانا، تبعا لخصوصيات مناطقية في بلاد شاسعة، وبتأثير تعدّد مذهبي وفقهي وتقاليد مدرسية دينية متنوِّعة.
من المجازفة أن يتسرّع بعضهم، إذن، بافتراض إمكان حسم مسألة بدء الصوم والفطر في بلدان معيّنة أو عبر مسلمي الأرض بمجرد إصدار قرارات رسمية أو إبرام توافقات مؤسسية، فالمشهد ينبغي أن يُقرَأ بعناية وأن تُدرَك الحالة بتشعّباتها وتفاصيلها وتعقيداتها الظاهرة على السطح والمنطوية في الثنايا.
ثم إنّ رفع سقف التوقعات بصفة غير واقعية كفيل بأن يهوي به فوق الرؤوس في الاختبارات العملية. ولا يخفى واقع الحال التاريخي؛ فلمّا امتدّ حضور المسلمين في الآفاق تعذّر اجتماعهم على بدء الصوم والفطر، ولما ناهزت الأمّة مليارا ونصف مليار نسمة، صارت تعبيرا عن العالم أيضا؛ في انبساطه وتنوّعه وتعدّده وتشعُّب ظروفه وأحواله ومشاربه والتأثيرات المتفاعلة فيه.
لا تملك الجهود الساعية إلى "جمع كلمة المسلمين" في أيّام الصوم والفطر إلا مواصلة مساعيها بجدارة مرجوّة منها؛ لكنّ الرهان على "إنجاز المهمة" يبقى افتراضا حالما متعاليا على الواقع، بما في ذلك التأثير المؤكد للقرارات السياسية في هذا الشأن، رغم المحاولات المتضافرة للوصول إلى توافقات في بعض الأوساط الفقهية والعلمائية.
من المساعي المهمة التي جرت في هذا السياق، ما جسّده"مؤتمر توحيد التقويم الهجري الدولي"، الذي التأم في اسطنبول في خواتيم أيار/مايو 2016، عندما جمع أطيافا مسلمة من حول العالم، واستند في أعماله إلى رصيد متراكم من قرارات سابقة، كالتي صدرت عن مؤتمر مجمع البحوث العلمية عام 1966، ومؤتمر الكويت عام 1973، ومؤتمر اسطنبول عام1978، ومؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الدولي، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عام 2009، ومؤتمر رابطة العالم الإسلامي عام 2012.
انتهت تلك المؤتمرات التي سبقت انعقاد اسطنبول 2016 إلى مجموعة من المبادئ والمعايير الأساسية، ومن أهمها أنّ الأصل في ثبوت دخول الشهر هو رؤية الهلال سواء تمّت بالعين المجردة أو بالاستعانة بالمراصد والأجهزة الفلكية الحديثة، وعدم الاعتراف باختلاف المطالع. ثمّ خلص مؤتمر 2016 إلى "اختيار التقويم الأحادي ليكون التقويم الهجري الدولي المعتمد، وبذلك يكون أمام العالم تقويم هجري واحد، وقد اعتمد التقويم على إمكانية الرؤية في العالم سواء كانت بالعين المجردة أم بأجهزة الرصد، دون الاعتداد باختلاف المطالع كما هو المعتمد لدى جمهور الفقهاء ومعظم المجامع الفقهية وعلى المعايير الفلكية والضوابط الفقهية المعتمدة، بحيث لا يتعارض مع أي نص شرعي أو قاعدة فلكية قطعية".
ثمّ انفضّ الجمع من هذا المؤتمر وعادوا إلى دولهم "ذات السيادة"؛ دون تأثير جوهري لمقرراته على واقع الحال في السنوات اللاحقة؛ وإن تزحزحت بعض القناعات والقرارات عن مواضعها.
من المستبعد، إذن، بموجب هذه الخبرات والمحاولات، إحداث تغيير جوهري سابغ، طالما أنّ الإرادة السياسية الجماعية غائبة عبر دول العالم الإسلامي التي تتذرّع بخصوصياتها واعتباراتها، علاوة على أنّ آليّات العمل العربي والإسلامي المشترك، مثل جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والمنظمات والهيئات المنبثقة عنهما، تبقى ضعيفة ومترهِّلة على النحو المشهود. أمّا تفكّك بعض الدول وتمزّق بعض الشعوب، فيزيدان من وطأة الافتراق القائم في هذا الملف. وتبقى المكوِّنات المسلمة المحلية حول العالم، الواقعة خارج نطاق الدول ذات الأغلبية المسلمة، معنيّة بصفة خاصّة بتضييق الفجوة القائمة في هذا الصدد في حيِّزها الجغرافي والمجتمعي المباشر. فإن بدا الافتراق في دخول رمضان والعيد قابلا للاحتمال مع التباعُد في الجغرافيا؛ فإنّ وطأته تشتدّ ضمن الرقعة ذاتها ومع النسيج المجتمعي الواحد.
من المرجّح أن تستمرّ الحال على ما هي عليه سنوات أو عقودا لاحقة، بما يتطلّب سعة الصدر في التعامل معها واحتمال اختلاف "الاجتهادات" فيها. فإن افترق المسلمون في بدء صومهم وفطرهم؛ فإنّ ذلك لا يبرِّر تحويل هذه الحالة غير المثالية إلى موسم متكرِّر لجلد الذات وتشديد النكير على واقع المسلمين عموما، بلا خريطة طريق مُتاحة للفكاك الواقعي منها. صحيح أنّ هذا الملف يقتضي مزيدا من المحاولات الإصلاحية والمعالجات الجادّة والقرارات الحاسمة والبناء التراكمي على الجهود المبذولة حتى الآن؛ لكنّ المردودات ستبقى جزئية على الأرجح، ومن المهمّ في الأحوال جميعا الترفّق في التعامل مع الموقف، كي لا يصير حلول رمضان والعيد من بعده؛ موسما للجدل الساخن والتلاوُم الحادّ وازدراء الذات.
للمسألة وجوهها الأخرى أيضا. فهذا الافتراق الحاصل، أو "الفوضى" بتعبير بعضهم، يثير سؤال "المرجعية" في أوساط المسلمين، وهي قضية معروضة منذ زمن في الفضاء السُنِّي العريض للأمّة؛ بخلاف الفضاء الشيعي بمرجعياته المُبرَمة في الشأن الديني بسماتها الطبقية. وحتى في الفضاء السنِّي ذاته؛ تطوّرت صيغ مرجعية رسمية أو شبه رسمية مع وزارات الأوقاف ورئاسات الشؤون الدينية والمشيخات ودور الإفتاء في بعض البلدان، بينما حاولت تشكيلات علمائية مستقلّة عن الدول أو تابعة لها، النهوض بأدوار في هذا الصدد، علاوة على مواقع مثل شيخ الأزهر أو "الإمام الأكبر" ونحوه.
مما ينبغي التنبّه إليه في هذا الشأن؛ أنّ مسألة "المرجعية" إن طُلِبت لبعض وظائفها وثمراتها، ومنها حسم الموقف وجمع الكلمة في الصوم والفطر، على افتراض إمكان ذلك؛ فإنّها مؤهّلة في الوقت عيْنه لأن تُستعمَل أداة سلطوية وبابا للهيمنة أيضا في دول المسلمين وخارجها، بما يفرض احتراسا واحترازا من النزعات الاحتكارية التي تحاكي الطبقية الكهنوتية، وهي قضية ملحّة في سياق ما يُعرف بإعادة تنظيم "المجال الديني"في العالم الإسلامي وفي دول تضمّ مكوِّنات مسلمة خارجه. والمسألة في هذا الباب تتطلّب تناولا وافيا وفحصا عميقا في مقام مستقلّ، يتجاوز رمضان والعيد إلى شواغل أوسع نطاقا وأشدّ وطأة.