نقولها مجددا: "أُكلت يوم اأكل الثور الأبيض"، فالموجة الحالية من المكارثية السيساوية التي تطال فنانين وعلماء ومثقفين وساسة ليبراليين وعلمانيين، رقصوا أو سكتوا من قبل على دماء أشقائهم المصريين الرافضين لانقلاب السيسي، هي امتداد طبيعي للموجة السابقة (والممتدة حتى الآن).
المكارثية، والتي تعني ببساطة شيطنة فريق من الناس بهدف تسهيل القضاء عليهم وشرعنة قتلهم ومطاردتهم، وهي الصيحة التي أطلقها النائب الأمريكي الجمهوري جوزيف مكارثي منذ مطلع الخمسينيات ضد الشيوعيين في بلاده، هي ذاتها التي انطلقت في مصر عقب انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، حين تم شيطنة الإخوان عبر كل وسائل الثقافة والإعلام الحكومية والخاصة الداعمة للانقلاب، وبلغت ذروتها في مذابح الاعتصامات الكبرى (رابعة والنهضة والمنصة والحرس ورمسيس وغيرها)، فكان القتل على الهوية، وكان الذين تلوثت عقولهم بالمكارثية يرقصون على أشلاء الشهداء، وكان هناك من يغني "انتو شعب واحنا شعب".
بموجب حالة المكارثية السيساوية تم قتل الآلاف في مصر، ولا يزال القتل مستمرا، وتم حبس الآلاف ولا يزال الحبس مستمرا، وتم فصل الآلاف ولا يزال الفصل مستمرا، وتمت مطاردة الآلاف ولا تزال المطاردة مستمرة؛ لكل من ينتمي لجماعة الإخوان أو يصنف باعتباره مناصرا أو داعما لها، سواء من القوى الإسلامية الأخرى أو من عموم الشعب المصري.. وبموجب المكارثية شهدت مصر حالات انتقام اجتماعي، فالزوجة الغاضبة من زوجها أو العكس تتهمه بالانتماء للإخوان، والموظف المغتاظ من رئيسه يفعل الشيء ذاته، وكلما وجد مواطنون بسطاء كاميرات لبعض القنوات في الشارع سارعوا باتهام حَمَلَتِها بالاتهام ذاته.
تطورت المكارثية المصرية خطوة باختراع قوائم ما يسمى الكيانات الإرهابية، التي تم إدراج المئات فيها، أي تصنيفهم إرهابيين مع ما يقتضيه هذا التوصيف من حرمانهم من حقوقهم الأساسية
تطورت المكارثية المصرية خطوة باختراع قوائم ما يسمى الكيانات الإرهابية، التي تم إدراج المئات فيها، أي تصنيفهم إرهابيين مع ما يقتضيه هذا التوصيف من حرمانهم من حقوقهم الأساسية، وفصلهم من العمل،
ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، ومنعهم من السفر، حتى لو كان للحج أو العمرة.. تلك القوائم يتم وضعها من الأجهزة الأمنية ثم تأخذ توقيعا قضائيا من إحدى دوائر الإرهاب، دون تقديم أي أدلة أو السماع للمتهمين أو المحامين أو الشهود، وحتى القانون الذي تستند إليه تلك القوائم تم تعديله دون مناقشة أو اعتراض من أحد، فهكذا كانت الإرادة السامية للجنرال.
صحيح أن تلك القوائم استهدفت بالأساس الإخوان وغيرهم من الجماعات الإسلامية الرافضة للانقلاب، إلا أنها طالت شخصيات غير إسلامية، بعضها انتمى سابقا لنظام مبارك، وبعضها تنتمي لحركات معارضة للإخوان أيضا، مثل الاشتراكيين الثوريين أو 6 أبريل. وإذا كانت أعداد المدرجين المنتمين لتلك المجموعات قليلة حتى الآن، فإن
الباب لا يزال مفتوحا لضم المزيد.
القوائم استهدفت بالأساس الإخوان وغيرهم من الجماعات الإسلامية الرافضة للانقلاب، إلا أنها طالت شخصيات غير إسلامية، بعضها انتمى سابقا لنظام مبارك، وبعضها تنتمي لحركات معارضة للإخوان أيضا،
كثيرة هي قوائم الإرهاب التي ضمت مئات المصريين حتى الآن، (واحدة فقط ضمت 1500 بقيادة الكابتن أبو تريكة)،
وأحدث القوائم أقرتها محكمة النقض قبل أيام ضمت 187 معارضا، بينهم عدد من الإعلاميين مثل معتز مطر، ومحمد ناصر، وحمزة زوبع، وأيمن عزام، ومحمد القدوسي، وهيثم أبو خليل، ومحمد عقل، واسامة جاويش، وكاتب هذه السطور. وكما يظهر من الأسماء، فإن الغالبية العظمى لا تنتمي للإخوان، بل إن بعضهم في حالة خصومة فكرية مع الجماعة. والغريب أن تكون التهمة الموجهة لهؤلاء هي انتماؤهم لحركة "حسم" المصنفة كيانا إرهابيا، رغم أن جميع هذه الأسماء معروفون باعتدالهم، ونبذهم للعنف والإرهاب، لكنها المكارثية المقيتة التي تريد شيطنتهم بسبب أدوارهم الإعلامية، ومواقفهم السياسية الرافضة للحكم العسكري، والداعمة لاستعادة المسار الديمقراطي في مصر.
أحدث موجات المكارثية تتركز حاليا على شخصيات كانت جزءا من نظام السيسي ذاته، مثل
عالم الفضاء عصام حجي (المستشار العلمي السابق للرئيس المؤقت عدلي منصور)، بسبب انضمامه لحملة إعلامية للقنوات المعارضة بالخارج بعنوان "اطمن إنت مش لوحدك"، والفنانين
عمرو واكد وخالد أبو النجا، بسبب مشاركتهما مع نشطاء مصريين آخرين في جلسة نقاشية في الكونغرس الأمريكي حول حالة حقوق الإنسان والديمقراطية في مصر.
لم يكن غريبا أن يحيل النائب العام بلاغات هزلية ضد محمد البرادعي للتحقيق، ولم يكن غريبا إحالة علاء الأسواني إلى القضاء العسكري بتهمة إهانة السيسي الذي شبهه يوما بعد انقلابه بالزعيم الأمريكي أيزنهاور، وليس غريبا أن يزج السيسي في سجونه بشخصيات أخرى ساندته من قبل، مثل الدكتور حازم عبد العظيم،
لم تهدأ برامج القنوات المصرية منذ ظهور الفنانين في إحدى قاعات الكونغرس، وكان الاتهام بالخيانة والعمالة هو الأسرع لشيطنة تلك الشخصيات، وبالتالي لم يكن غريبا أن يسارع أحد المحامين الموالين للنظام بتوجيه إنذار لوزير الداخلية يطالبه بسحب الجنسية المصرية من هذه الشخصيات، ومن الإعلاميين والمواطنين المدرجين في قوائم الإرهاب، ولم يكن غريبا أن يحيل النائب العام بلاغات هزلية ضد محمد البرادعي للتحقيق، ولم يكن غريبا إحالة علاء الأسواني إلى القضاء العسكري بتهمة إهانة السيسي الذي شبهه يوما بعد انقلابه بالزعيم الأمريكي أيزنهاور، وليس غريبا أن يزج السيسي في سجونه بشخصيات أخرى ساندته من قبل، مثل الدكتور حازم عبد العظيم، أحد أركان حملته الانتخابية في 2014، ومثل رئيسه السابق الفريق سامي عنان، وشخصيات أخرى، مثل السفير معصوم مرزوق ويحيي القزاز وعبد المنعم أبو الفتوح ورائد سلامة ويحيي حسين، إلى جانب عشرات الآلاف من السجناء الإخوان وغير الإخوان.. فالمكارثية حين تنطلق لن تفرق بين معارض وآخر، فكل من يمثل خطرا على النظام مكانه السجون إن لم تكن القبور.
تنتفش المكارثية مجددا في مصر مصاحبة لتحركات النظام المحمومة
لتعديل الدستور بما يسمح للسيسي بالبقاء حتى العام 2034، وبما يسمح للجيش بالإشراف وتنظيم العملية السياسية والتدخل عند اللزوم لضبطها، وكل من يعارض هذه التعديلات هو خائن وعدو للوطن، وهو عميل لدول وقوى خارجية ينبغي التخلص منه. وحين بارك أو صمت البعض من قبل عن شيطنة معارضين مصريين آخرين، فهاهم اليوم يتعرضون للمصير ذاته، وغدا سيلحق بهم آخرون، طالما لم يتصد الجميع لهذا الوحش الكاسر، وطالما لم يتحد الجميع للخلاص من هذا النظام.