الرقم جدير بالتدوين، لأنه قياسي بالفعل وضمن اعتبارات شتى، جيو ــ
سياسية وتاريخية وثقافية: منذ أن اتخذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرار التدخل
العسكري المباشر في سوريا، لإنقاذ نظام بشار الأسد من سقوط وشيك؛ التقى مع رئيس
دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو 15 مرّة، هي الأعلى عددا للقاءات بينهما
خلال فترة زمنية قياسية بدورها.
ويقتضي السياق تبيان حقيقة أولى كبرى، مزدوجة على نحو ما، تمحورت
حولها جميع، وليس فقط معظم، المشاورات بينهما: كيف يمكن أن ينخرط الاثنان في
شراكة، محفوفة بالمخاطر عسكريا، تنقذ الأسد؟ وكيف، في الآن ذاته، يتمّ التوافق على
سلسلة من الخطوط الحمر ترسم حدود الدور الإيراني في عملية الإنقاذ إياها؟
وخلال
هذه اللقاءات الـ15 تمتع نتنياهو، والحقّ يُقال، بمعاملة من نوع خاصّ تماما، لعله
كان أقرب إلى «الدلال» منه إلى الترحاب وحسن الوفادة بين «دولتين صديقتين»؛ ولعلّ
الذروة الدراماتيكية التي تكفلت بتجسيد تلك المعاملة، على صعيد المادة والمجاز معا،
تمثلت في الهدية التي قدّمها بوتين إلى نتنياهو، صيف 2016: دبابة إسرائيلية كان
الجيش السوري قد غنمها في سهل البقاع اللبناني، سنة 1982، وأهداها النظام إلى متحف
سوفييتي، ليعيد بوتين تسليمها إلى دولة الاحتلال.
ومؤخرا، خلال زيارته إلى موسكو الأربعاء الماضي، حظي نتنياهو بروحية
تسامح فائقة من سيّد الكرملين؛ لأنه طلب تأجيل الموعد الأوّل للزيارة بسبب مشكلة
التحالفات الحزبية الجديدة ضدّ «الليكود»، ثمّ طلب اختصار الزيارة لأنّ المدّعي
العام الإسرائيلي أفيشاي ماندلبليت قد يفرج في أيّ وقت عن توصياته في إدانة
نتنياهو بالرشوة والفساد.
يصعب،
بالطبع، أن نعثر على مقدار استثنائي من السذاجة المعلنة يمكن أن يسمح للبعض بأيّ
وجه من المقارنة مع سلوك بوتين حين يلتقي الأسد، سواء في موسكو أو سوتشي أو قاعدة
حميميم؛ أو، في المقابل، سلوك المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي والرئيس الإيراني
حسن روحاني، مع رأس النظام خلال زيارته الأخيرة إلى طهران.
وفي الأساس، ليس ثمة عنصر واحد، من أيّ نوع أو محتوى، يتيح وضع علاقة
نتنياهو مع موسكو، أو العالم خارج دولة الاحتلال إجمالا؛ مع علاقة الأسد بعالم
خارجي اختُصر، بعد انتفاضة الشعب السوري ربيع 2011، إلى دولتين لا ثالثة لهما،
روسيا وإيران، فضلا عن استقبال دكتاتور السودان عمر حسن البشير. هذا على مستوى
الشكل والمراسم والبروتوكول، وأمّا من حيث مضامين اللقاءات، جيو ــ سياسية كانت أم
عسكرية وأمنية، فإنّ الأمر عندئذ يتجاوز نهائيا فكرة المقارنة، بل يصبح واجبا
انتفاء مفاهيم الفارق أو الاختلاف!
بشاشة
بوتين في لقائه مع نتنياهو يتوجب أن تحمل دلالة خاصة، ضمن نطاق «الدلال» ذاته؛
لأنها تبدّت على محيا الرئيس الروسي بدل حدّ أدنى من «تجهم» منتظَر مردّه أنّ هذه
هي زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأولى بعد واقعة إسقاط الطائرة الروسية «إيل
20» فوق الساحل السوري، في أيلول (سبتمبر) الماضي، ومقتل 15 عسكريا روسيا كانوا
على متنها.
صحيح أنها سقطت بمضادات النظام السوري، إلا أنّ وزير الدفاع الروسي
سيرغي شويغو حمّل سلاح الجوّ الإسرائيلي مسؤولية واقعة «لا تعكس روح الشراكة
الروسية ــ الإسرائيلية»، وأنّ موسكو تحتفظ بالحقّ في الردّ بخطوات مناسبة». وكما
هو معروف، كانت بعض تلك الخطوات قد تمثلت في نشر صواريخ «إس ـ 300»، الروسية المتطورة
في بعض مناطق الساحل؛ الأمر الذي لم يمنع الطيران الحربي الإسرائيلي من استئناف
عمليات القصف الجوي في العمق السوري.
الشراكة
الروسية ــ الإسرائيلية مستمرة، إذن، ولم يعكر صفوها حادث طائرة «إيل 20»، ولهذا
فقد أدلى نتنياهو بتصريحات لا لبس فيها أو غموض حول السمت العريض لزيارته الـ15
إلى موسكو: «إيران هي التهديد الأكبر على استقرار وأمن المنطقة، وسنفعل ما بوسعنا
لإبعاد هذا الخطر».
من جانبه لم يردّ سيّد الكرملين إلا بعبارة فضفاضة، تحتمل كلّ اللبس
وكلّ الغموض: «من المهم جدا مناقشة المسائل المتعلقة بأمن المنطقة»؛ وهذا يشمل،
أوّل ما يشمل كما للمرء أن يرجّح، أمن دولة الاحتلال في ضوء بندين حملهما رئيس
الاستخبارات الإسرائيلية الذي رافق نتنياهو إلى موسكو: مخاطر إطلاع الضباط
الإيرانيين في سوريا على أسرار صواريخ الـ»إس ــ 300» الروسية، ومخاطر أوسع نطاقا
ناجمة عن الحضور العسكري الإيراني المتزايد في قلب المعادلة السورية.
ولقد
كان لافتا تماما تصريح نتنياهو بأنّ الشراكة الروسية ــ الإسرائيلية في سوريا
تقوم، أيضا، على اتفاق بين موسكو وتل أبيب حول «خروج القوات الأجنبية» من البلد؛
وفي هذا استعادة لتصريح مماثل كان بوتين قد أطلقه في أيار (مايو) الماضي، حين كان
رأس النظام السوري يقف إلى جانبه في سوتشي: «الانتصارات الملموسة للجيش السوري في
محاربة الإرهاب وانطلاق المرحلة النشطة من العملية السياسية سيليها بدء انسحاب
القوّات الأجنبية من أراضي سوريا»؛ قال بوتين، وهو لا يصنّف القوّات الروسية في
باب الأجنبية، وكذلك لا يُدرج الاحتلال الإسرائيلي في الجولان ضمن هذا التصنيف.
كان الغمز يعني إيران أوّلا، حتى إذا كان يشمل أمريكا وتركيا، ولهذا
لم يتردد أمين مجلس الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، فأعلن أنّ إيران لن تنسحب
من سوريا رغم الضغوطات التي تتعرض لها.
وحين
ينطوي الأسبوع ذاته على زيارة من نتنياهو إلى موسكو، وأخرى من الأسد إلى طهران؛
فإنّ حكاية التنافس الروسي ــ الإيراني على الأرض السورية تصبح تحصيل حاصل منطقيّ
الاتساق، يجوز أيضا البحث عن عناصره الفرعية الميدانية.
على سبيل المثال، معظم قتلى الأسابيع الأخيرة ضمن صفوف جيش النظام لم
يسقطوا في القتال مع المعارضة المسلحة أو «النصرة» أو «داعش»؛ بل خلال المواجهات
المسلحة الضروس بين ميليشيات إيران والنظام وكتائب الفرقة الرابعة من جهة،
وميليشيات سهيل الحسن، الملقب بـ«النمر»، وكتائبه التي تدعمها القوات الروسية، في
ريف محافظة حماة ومنطقة الغاب، من جهة ثانية. وهذه حروب صغيرة، قد يقول قائل،
لكنها ليست البتة بعيدة عن الانقلاب إلى رافعة صراع داخل مجموعات النظام ذاته،
أوّلا؛ وفي عمق ما تبقى له من جبهة موالاة في العمق الشعبي للطائفة العلوية، ثانيا؛
فضلا عن الانشطارات المستجدة التي تزداد تبلورا، واكتمالا، بين الاستقطاب الروسي
(كما تمثله اليوم شخصية «بو علي بوتين»، على صعيد القِيَم والعصر و«العلمانية»)،
والاستقطاب الشيعي، أو التشييعي على وجه الدقة (كما أخذ ينحسر عن شخصية خامنئي، أو
حسن نصر الله)، ثالثا.
بين
العناصر الميدانية الأخرى اجتماعات اللجنة العليا السورية ــ الإيرانية المشتركة،
التي عُقدت في دمشق قبل أسابيع قليلة وتمخضت عن 11 اتفاقية مختلفة؛ بينها واحدة
حول التعاون الاقتصادي الاستراتيجي طويل الأمد، اعتبرها إسحاق جهانغيري النائب
الأول لرئيس الجمهورية الإيرانية أوّل إسهام في «مرحلة إعادة الإعمار».
وليس خافيا أنّ مشروع التدخّل العسكري الروسي في سوريا يتوخى الثمار
السياسية والعسكرية والأمنية الإقليمية والدولية، ولكنه أيضا يقرنها بثمار
اقتصادية ذات صلة بإعادة التعمير المقبلة والعقود الفلكية لاستثمار الخراب السوري؛
وثمة، هنا، منافس جدّي وغريم كبير اسمه إيران.
ومن
هنا فإنّ من الإنصاف إقرار الخلاصة التالية: نتنياهو في موسكو، والأسد في طهران،
شتان بين الدلال والإذلال!
عن صحيفة القدس العربي