قضايا وآراء

"العلوم السيسية"!

1300x600
أعتذر بداية لأستاذي الدكتور سيف الدين عبد الفتاح الذي نحت هذ المصطلح، ليصف مآل علم السياسية في ظل عهد السيسي، ولكن الإبهار الدائم الذي يحمله إلينا سيادة المشير وسّع من نطاق المصطلح. فبعد سلسلة من إبداع الخطاب، اتضح أنّ "العلوم السيسية" قفزت إلى خارج علم السياسة لتحطم جُدُر علوم راسخة مثل الاقتصاد وفرعيه التنمية الاقتصادية ودراسات الجدوى، وقبل ذلك الطب وغيره الكثير من الابداع السيساوي.

بدأ الإبهار بتقديم السيسي للواء عبد العاطي، والذي قدمه بنفسه (إلى جوار عدلي منصور) إلى الشعب المصري، باعتباره صاحب اختراع سيقضي على مرض الإيدز وفيروس سي، وذلك قفزا على ما تعارفت عليه الإنسانية من خطوات للأبحاث العلمية والتجارب المعملية بدرجاتها المختلفة، ودونما تقديم أي اعتراف أو تصديق من جهات متخصصة للاختراع المزعوم.

وتوالى الإبهار عبر سؤال السيسي عن تكلفة الفرصة البديلة لوضع النقود في مشروع أياً كان نوعه أو في البنك، وعن تفضيله الشخصي لوضع الأموال في البنك عن القيام بمشروعات.

ثم جاء الدور على التنمية الاقتصادية، وفي القلب منها المشروعات الصناعية، والتي قال السيسي إنه لا يحبذها لطول فترة العائد منها وعدم استيعابها لعدد كبير من العمال، بالإضافة إلى حاجتها لرؤوس أموال كبيرة وتكنولوجيا غير متوافرة.

وأخيراً، كانت المعجزة التي لم تخطر علي قلب بشر، وهي اعترافه أمام حشد أفريقي بأنه وإدارته لا يعتمدون على دراسات الجدوى التي كانت ستعطل  75 أو 80 في المئة من الإنجازات لو تم الاعتماد عليها. والغريب أن الكلام كان في سياق دعوة السيسي لتخطيط جمعي أفريقي لمشروعات بنية أساسية تتكلف (وفق تقدير الزعيم) حوالي 150 مليار دولار. ولم يوضح الزعيم كيف يمكن الجمع بين عدم اعتبار دراسات الجدوى والتخطيط للمشروع الجديد؟

الحقيقة أن السيسي لم يبتكر "العلوم السيسية"، وإنما نسبت إليه لأنه فضحها، وعرى طرق تفكير العسكر الذين يعتبرون أنه لا مجال للعلم كي يناطح أفكارهم وآرائهم، والتي يرون أنها الأصح والأنسب والأوفق في تحقيق مصالح الشعب.

استخدم السيسي مصطلح الإنجازات في الخطاب الأخير، واستخدمته من قبله الحكومة في الترويج لكتاب الإنجازات، واستخدمته وسائل الإعلام في الإلحاح على المواطن لكي يسمع ما لا يشعر به ولا يراه. والسؤال الذي يطرح نفسه: بأي معيار يمكن اعتبار أي مشروع إنجازا؟ فالمعيار الوحيد المتعارف عليه هو دراسة الجدوى التي توضح الإمكانية القانونية والهندسية والتسويقية، وأخيرا الجدوى المالية، ولكن مع الاعتراف بغياب دراسة الجدوى، من يقرر أنها إنجازات؟

الحقيقة أن المشروع لكي يعتبر إنجازا يجب أن يحتوي على شيء خارق للعادة، فحفر التفريعة في عام واحد في نظر السيسي إنجاز، ولكن تهافت عوائده المالية، وتضاعف تكاليفه، واضطرار هيئة القناة للاستدانة ثلاث مرات متتالية، ينفي عنه صفة الإنجاز، إلا من وجهة نظر العسكر فقط.

كما أن مشروعات الطرق والكباري على امتدادها، لم تكن داخل إطار خطة اقتصادية واجتماعية شاملة، بل ولم تكن استجابة لتوسع تجاري أو سكاني أو خلافه، بل حتى في الدلتا القديمة لا تزال الطرق بين القرى والمدن الصغيرة على حالها المخزي، والذي جعل مصر فيها أكبر نسبة وفيات ناتجة عن حوادث الطرق في العالم. وحتى الطرق الجديدة (على افتراض جودتها)، كان يمكن تأجيل بعضها، عملا بمبدأ الأولويات ولكنه لم يحدث.

ما حدث فعلا أن الزعيم، ولأسباب بعيدة كل البعد عن المناهج العلمية التي ينكرها، اتخذ قراراً بأن هذه إنجازات، وعلى الجميع أن يذعن ولا يناقش وإلا أصبح مارقا يستوجب فتح المجاري الإعلامية على شخصه.

جربت هذه المرة أن أذعن لنداء الزعيم، واجتهدت في تفسير المتن، لأجدني مضطراً أولاً، أن أعتذر لكل طلابي الذين درسّت لهم علم دراسة الجدوى عبر عشرين عاماّ كاملة، ولكل عملائي الذين قمت بإعداد دراسات الجدوى لهم؛ لأني (كما قال الزعيم) عطلت إنجازاتهم.

كما أنني مضطر لأناشد السيد وزير التعليم العالي، والسادة رؤساء الجامعات المصرية، والسادة عمداء كليات التجارة وإدارة الاعمال والاقتصاد، إلغاء مقرر دراسة الجدوى لأنه يعطل الإنجازات.