أشرت في المقال السابق إلى قضيتين أفسر بهما حال المحافظة التي اتسم بها تنظيم الإخوان، سواء في نشأته أو في تطوره، وأشرت إلى عاملين أساسيين: الترييف في البدء والتسليف (السلفية) كتطور نتيجة خروج بعض الإخوان إلى دول الخليج ثم العودة منها في عصر السادات.. كان ذلك وصفا وليس تقويما أو نقدا، وكيف أن التكوينات التي يغلب عليها الطابع الريفي هي إلى حد كبير تتسم بالمحافظة، وأن الروح السلفية التقليدية في مذهبياتها التي تعلقت بدول الخليج، إنما أيضا تجنح نحو المحافظة، ومن ثم فإن هؤلاء الذين تحفظوا وتحدثوا عن مسألة الترييف وأننا قصدنا بها انتقاصا؛ لم يتفهموا حقيقة الإشارة إلى هذه النقطة.. ليس معنى ذلك بأي حال من الأحوال أن غلبة الريفيين على تكوين مثل حركة الإخوان أمرا سلبيا، بل ربما هذا ساعد على بقاء هذا التنظيم فترة طويلة من الزمن، خاصة أن الإخوان يجعلون من عملية التغيير لتكون على نحو بطيء، بحيث لا تختل الأركان التنظيمية في هذا المقام.. فلم تكن هذه الإشارة تلمح بأي حال من الأحوال إلى تضمينات طبقية في هذا المقام، ولم تكن بأي حال من الأحوال تنكر وجود تنوعات في هذا التكوين؛ ما بين المهنيين والموظفين وكذلك بعض من التجار ورجال الأعمال.،
بل إنني أستطيع أن أقول إن الموظفين على وجه الخصوص وكذلك رجال الأعمال، أسهموا بقدر أو بآخر في تلك الطبيعة المحافظة التي تواكب عمليات التغير البطيئة المقترنة بالأساليب التربوية، وهي أيضا لم تكن على خط متسق مع تلك الحالة الثورية بكل معطياتها وموجباتها، بل إنني أستطيع أن أقول، ومن غير تزيّد، إن طبقة التجار التي لم ترق إلى اعتبارها طبقة رجال أعمال أو رأس مال في حركة الإخوان، فضلا عن أن النظام لم يسمح لهم بحركة واسعة ومنفتحة في هذا المجال الاقتصادي، بل كان دائما يقف لهم بالمرصاد متربصا ومقيدا ومحددا مساحات حركتهم، لكن للأمانة، فإن هؤلاء إلى حد كبير قد تحكموا في صياغة الرؤية الاقتصادية لحركة الإخوان، والتي لم تكن بينها وبين الاقتصاد الليبرالي الجديد فارقا كبيرا، فظل هؤلاء يتعاملون مع ذات القواعد من غير نقلات نوعية في الرؤية الاقتصادية، خاصة في ما يتعلق بفكرة العدالة الاجتماعية.
هؤلاء إلى حد كبير قد تحكموا في صياغة الرؤية الاقتصادية لحركة الإخوان، والتي لم تكن بينها وبين الاقتصاد الليبرالي الجديد فارقا كبيرا، فظل هؤلاء يتعاملون مع ذات القواعد من غير نقلات نوعية في الرؤية الاقتصادية
ورغم أن هؤلاء الذين يتبعون المشروع الإسلامي، فهم بحق أولى الناس بأن يعبروا عن فكرة العدالة الاجتماعية والاهتمام بها في قمة أولوياتهم، إلا أنه من الملفت للنظر أن يظل هؤلاء ضمن تلك الرؤية الاقتصادية مع وجود بعض مظاهر محدودة تشير إلى هذه الصبغة الإسلامية ومنها فكرة الصكوك، ولا شك أن تعاملهم في المجال الاقتصادي كان بذات القواعد التي تفرضها الدولة وأجهزتها ضمن سياساتها الاقتصادية على وجه العموم، وإن انتقد بعضهم بعض هذه السياسات في إطار تواصلهم مع الجماهير، خاصة في ما يتعلق بغلاء الأسعار، وكذا ما يتعلق بصعوبة معاش الناس، ولذلك فإننا نستطيع أيضا أن نقول إن هؤلاء الذين مثلوا هذا البعد الاقتصادي ظلوا يتحركون في مساحات أقرب ما تكون إلى المحافظة؛ لا متطلبات الحالة الثورية؟ وإذا كان ما قدمناه في البداية وصفا حول الترييف والتسليف، فإن ما نشير إليه حول هذه الفئة إنما يعبر عن نقد أساسي للوجهة الاقتصادية لحركة الإخوان، خاصة أثناء
الثورة وما بعدها.
كانت كل تلك المكونات إنما تشير إلى مساحات الحركة المحافظة التي شكلت سقفا للحركة في مجملها بالنسبة للحالة الثورية، وهو ما يفسر ترددا في البداية، وإن شاركت في كافة التجمعات السياسية والمجتمعية التي سبقت الثورة، خاصة أن الحركة قد اعتمدت المشاركة في الحياة السياسية كواحد من أهم مسالك الحركة في الممارسة والتأثير، والتي بلغت أوجها في انتخابات العام 2005 حينما علا نجم الإخوان والممثلين لهم في هذه الانتخابات، حتى حصدوا 88 مقعدا في تلك الانتخابات، مع ما قام به النظام في المرحلة الثانية والثالثة من الانتخابات التي حاولت فيها الهيمنة على المسار الانتخابي على نحو مختلف من المرحلة الأولى.
شاركت في كافة التجمعات السياسية والمجتمعية التي سبقت الثورة، خاصة أن الحركة قد اعتمدت المشاركة في الحياة السياسية كواحد من أهم مسالك الحركة في الممارسة والتأثير
وشكلت الحركة
الشبابية داخل الإخوان حالة مفروضة رغم تحفظ بعض التنظيميين على حركة الشباب الواسعة، سواء ما مثلته في مظاهرات واحتجاجات في الشارع أو في الجامعة. وظل الشباب يفرض طريقته وسمته في حركة التغير وعمليات الاحتجاج، فضلا عن أن بعض الشباب لم يجد مساحات الحرية الواسعة والكاملة في التعامل المستقل مع المواقف تحت دعوى أن هذا الشباب ربما ينفلت أو ينفرط عقده. أيضا من الملاحظ أن بعض الاحتجاجات والتظاهرات ظلت تقوم بها حركة الإخوان كطقوس خاصة بها، فكأنها كانت تدعو لاحتجاجات تخصها من دون اندماج كامل مع الحركة الاجتماعية الاحتجاجية، رغم أنهم، وللأمانة الكبرى في هذا المقام، قد شاركوا في كثير من الاحتجاجات، ولكن ظل الأمر الذي يتعلق بحجم مشاركتهم في مثل هذه الاحتجاجات قرارا تنظيميا، حتى كانت بعض هذه المشاركات محدودة ورمزية ولا تعبر بأي حال عن قدرة الإخوان على الحشد والتعبئة. كان ذلك مؤشرا على التحكم التنظيمي العالي من بعض القيادات الإخوانية لإدارة عموم المشتركين في هذا التنظيم من الشباب، مما أشعر الشباب في هذا التوقيت بهذا القدر من التحكم، رغم أنهم أرادوا أن تكون لهم حرية حركة أكبر في التعامل مع المواقف بما تتيحه المجالات المختلفة والساحات المتنوعة، سواء تعلق الأمر بساحة الجامعات أو بنشاطات النقابات.
من الواضح أن هذه الفجوة الجيلية والعقدة التنظيمية قد أحدثت تصورا للحركة داخلها حول علاقة الحركة بالمجتمع، وتصورت المجتمعات المختلفة، لا وفقا لقواعدها ومعطياتها، ولكن غلبت عليها الإملاءات التنظيمية، ليعبر ذلك عن مؤشرين:
بعض الشباب لم يجد مساحات الحرية الواسعة والكاملة في التعامل المستقل مع المواقف تحت دعوى أن هذا الشباب ربما ينفلت أو ينفرط عقده
الأول، هو مؤشر تحكم التنظيم الهرمي الإخواني داخل الحركة، حتى لو مثل ذلك أنشطة في الحركة النقابية أو في الحركة الطلابية.
الأمر الثاني يتعلق بالخوف من الانفلات من قواعد التنظيم، خاصة من أجيال الشباب الذين مثلوا بشكل غير مباشر حركة ضاغطة في هذا المقام، لا سيما في مواصلة العمل الاحتجاجي، مع ما يقتضيه ذلك من تنسيق تفرضه الظروف قد يصل إلى التحرر من قواعد التنظيم ذاته.
لم يكن ذلك إلا قصورا في الإدراك من جانب القيادات التنظيمية لمقتضيات العمل والنشاط، طلابيا كان أو نقابيا
مثّل ذلك تحديا تنظيميا ومجتمعيا لقيادات الحركة إلا من بعض القيادات الوسيطة التي استطاعت بحق أن تلتحم مع فئة الشباب، والتي بدت في عرف الحركة مؤشرا على بوادر تحريض للشباب للخروج على القواعد التنظيمية. وفي حقيقة الأمر، لم يكن ذلك إلا قصورا في الإدراك من جانب القيادات التنظيمية لمقتضيات العمل والنشاط، طلابيا كان أو نقابيا، وما يتطلبه من خصوصية في الحركة والممارسة، فبدا وكأن هذه القيادات تمارس بشكل أو بآخر بعض أشكال التمايز والانفصال عن حركة المجتمع، مما أبرزها وكأنها تنفصل عن معظم اعتبارات حركة المجتمع ومعطياته.
ربما يثير ذلك قضية فجوة التنظيم على أعلى مستوى، ذلك أن فجوة الجيلية شكلت في حقيقة الأمر في عقدتها بعض التأشيرات على تلك العقدة التنظيمية التي ما فتئت تتحرك ضمن مسالك السمع والطاعة ولزوم الجماعة وضرورة الالتزام الحركي، بينما كانت مقتضيات هذه الساحات عمل مستقل تفرضه طبيعة الحركة الطلابية الجامعية، كما تفرضه أصول المطالبات في الحركة النقابية والمهنية، وهو ما يفترض ليس فقط انخراطا كاملا وواسعا، بل وإمكانات حركة مستقلة تجعله منخرطا ضمن هذه التكوينات المختلفة، وضمن حركة واسعة طلابية كانت أو نقابية.. ولحديث التنظيم بقية نتابع فيه هذه القضية.