جدل أثاره انسحاب وفد تركيا برئاسة فؤاد أكتاي، نائب الرئيس التركي، من الاجتماع الدولي الموسع الخاص بالمسألة الليبية بباليرمو الثلاثاء الماضي. وبرر أكتاي الانسحاب باحتجاج أنقرة على سياسة الانتقاء والإقصاء، حيث سُمح لبعض الأطراف بالحضور في الاجتماع الخاص قبيل الاجتماع الموسع فيما لم تكن تركيا من بين المدعوين.
المعيار الإيطالي
بالطبع يثير هكذا سلوك من إيطاليا حفيظة البعض، إذ لا معيار عادلا يحدد من يحضر اللقاءات المغلقة ومن يمنع من حضورها، اللهم إلا معايير فرض الإرادة وقوة الأمر الواقع.
هناك مشكلة تضرب في صميم الموقف التركي من الأزمة في ليبيا، ففي مقابل محدودية دور أنقرة في ليبيا تطالب الأولى بمكاسب كبيرة وحضور رئيسي.
انتهجت تركيا سياسة "الوقوف على مسافة واحدة" من أطراف النزاع في ليبيا، وحرصت أنقرة على أن تتناغم مع "الشرعية" وأن لا تضع نفسها في مواجهة سلطة نافذة محليا ومعترف بها دوليا، وفي هذا تغليب للمصلحة التركية وفق مقاربة حذرة، وهذا ما وقع في الأيام الأولى لثورة فبراير، وتكرر في محطات أعقبتها.
وبرغم الهجمة الشرسة على أنقرة من قبل جبهة طبرق بالعموم، وحفتر بالخصوص، واتهام تركيا برعايتها للإرهاب في إشارة إلى دعم جبهة طرابلس وحتى مجلس شورى بنغازي، فإن الساسة الأتراك حرصوا على أن يحتووا الموقف الحاد ضدهم، وزارت وفود تركية طبرق وكان من بين من التقى برئيس السلطة في الشرق الليبي المبعوث الخاص لأردوغان، أمر الله إشلر، غير أن الموقف لم يتغير والعداء ظل مستحكما.
انتهجت تركيا سياسة "الوقوف على مسافة واحدة" من أطراف النزاع في ليبيا، وحرصت أنقرة على أن تتناغم مع "الشرعية"
بالقطع هناك عوامل تجعل أنقرة أقرب إلى الغرب الليبي منها إلى الشرق، وهناك مؤشرات على ما أسميه غض الطرف عن بعض التحركات الداعمة لجبهة طرابلس ضد جبهة طبرق، لكن ذلك لم يرتق إلى سياسة ثابتة وتوجه محسوم بدعمهم ومناصرتهم سياسيا وعسكريا وإعلاميا.
مصر، على سبيل المثال، كانت حاضرة في الاجتماع الخاص، والسبب لا يتعلق فقط بكونها الأقرب جغرافيا والأكثر تأثرا بما يقع في ليبيا، خاصة القطاع الشرقي منها، بل لأن القاهرة حاضرة بموقف قوي وثابت مرتكز على دعم جبهة طبرق ودعم الجيش التابع للبرلمان وقائده خليفة حفتر بكل قوة.
بالقطع لم يكن السبب الرئيسي لانسحاب الوفد التركي من الاجتماع الدولي الموسع لأن مصر وتونس كانتا حاضرتين، واستثنيت تركيا، ويظل معيار الجوار المباشر والتأثر القوي ذا وزن في تقدير من يحضر ومن يغيب، لكن ما أثار أنقرة التي تسعى للعب دور إقليمي أكبر هو أن تكون فرنسا وروسيا والاتحاد الأوروبي ممثلة فيما تستبعد هي.
وأعود لأشير إلى أن المبرر عندي في فهم الموقف الإيطالي هو تقدير وزن وثقل الأطراف الفاعلة والمؤثرة في الأزمة الليبية، وتحقيق التوازن الذي هو ضروري للتقدم خطوة في اتجاه تسوية النزاع، فالأطراف الدولية التي حضرت لعبت دورا مباشرا في إدارة الصراع الليبي، ولأن روما محسوبة على أحد الأطراف، فإن نجاح مبادرتها يقتضي أن يحضر الآخرون الدوليون المصطفون خلف الطرف الآخر.
سياسة متوازنة
ما كتبته ليس تقريعا لأنقرة على تبنيها سياسة متوازنة كما جاء على لسان أبرز ساستها، وليس مرادي من مقاربتي التحليلية دفع تركيا إلى تغيير موقفها المعلن إلى سياسة منحازة ماديا ومعنويا، وإنما القصد بكل بساطة إظهار ضعف الموقف التركي بانسحاب الوفد من الاجتماع.
أنقرة ظلت على هامش الأحداث برغم أن لها مصالح كبيرة في حل الأزمة الليبية واستقرار البلاد، وبرغم تصاعد منحى التأزيم بدرجة كبيرة وخطيرة في ليبيا منذ العام 2013 م، وبرغم اهتمام القاصي والداني بما يجري في البلاد إلا أن شيئا مهما لم يصدر عن أنقرة يجعلها فاعلة إيجابيا.
لم نشهد مساعي دبلوماسية تركية دولية أو إقليمية لحلحلة الأزمة، ولم يبذل الساسة الأتراك جهدا لجعل عاصمة بلادهم محطة من محطات البحث عن مخرج للأزمة إقليميا ودوليا، ولم يصدر عن أنقرة مبادرة جادة لإنهاء النزاع، الأمر الذي يوصل المراقب إلى خلاصة وهي أن ليبيا ليست ضمن أولويات تركيا في سياساتها الخارجية، وأن قدرات تركيا محدودة إقليميا وبالكاد تؤهلها للعب دور حيوي في محيطها الجغرافي القريب وبالتحديد في سوريا.
وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن أنقرة رضيت بأن تكون على هامش الأحداث واكتفت بأن تكون ضمن المدعوين للاجتماعات الدولية المعنية بالأزمة الليبية، وتعمدت أن لا تقحم نفسها في الملف الليبي عبر فعل مباشر بغرض احتواء الصراع، وبالتالي يصبح غير مفهوم الاحتجاج على استبعادها من أي ترتيبات دولية تشرف عليها الأطراف الفاعلة.
إقرأ أيضا: تركيا تنسحب من مؤتمر باليرمو الإيطالي حول ليبيا