قضايا وآراء

ربيع عربي أم خطوات في "فراغ عدمي"؟ (2)

1300x600

لما تلاحقتْ الثورات العربية في نهاية عام 2010 وبداية 2011م، لا ينسى كاتب هذه السطور كم المقالات المختلفة على امتداد دول الثورات العربية حول الانفجار المحتوم للجماهير العربية هنا وهناك، وحتمية التغيير وضرورته التاريخية بعد صبر طويل للشعوب الثائرة.

كما لا ينسى كاتب هذه الكلمات أنه مع تأخر "نجاح" الثورة السورية، مثلما نجحت "التونسية" و"المصرية"، علتْ أصوات إعلامية مصرية أكثرها ما يزال يُدوي حتى الآن بأكثر من نفس النبرة الخادعة؛ يومها قالت أغلب برامج "التوك شو" المصرية الساهرة حتى الصباح: وما ذنب المصريين إذا كان جيشهم وطنيا انحاز إلى ثورتهم.. ولم يكن الجيش السوري كذلك؟!

كذلك لا ينسى صاحب هذه الكلمات تأكيد الناشطة اليمنية، الحائزة على جائزة نوبل للسلام فيما بعد، في برنامج "بلا حدود" على شاشة "الجزيرة" في أوج اشتعال الثورة اليمنية: نحن لن نستخدم آليات قاصرة مثلما فعلت الثورة المصرية.. بل سنظل في ميدان التحرير حتى يتم تحقيق جميع مطالبنا.. ولن نغادر تلك الميادين بمجرد الاستجابة الظاهرية السريعة وخلع رئيس الجمهورية!

كانت الناشطة تظن، ومن بعدها ملايين التونسيين والمصريين واليمنيين والسوريين، أنه بمجرد اندلاع شرارات الرفض وانتقالها من عاصمة عربية إلى الأخرى؛ أن "الحلم العربي" تحقق، وأن المارد الذي طال انتظار إفاقته خرج من قمقمه، وكأن النخب العربية الثائرة في أربع دول صارت هي الدول الأربعة نفسها، وإن كانت نسب الثوار لا تزيد عن 10 في المئة من كل دولة.

..وكأن جميع الثوار تم توعيتهم فكريا وتزويدهم بصلاحيات وآليات التفكير المفيد لوطنهم.. وكأن سنوات الاحتلال الأجنبي التي ولدتْ حكام تابعين للمحتل الراحل في الأغلب الأعم من الوطن العربي، بل كأن مئات السنوات من التخلف وعدم القدرة على التفكير الصحيح أو السوي قد زالت بمجرد خروج ملايين من مئات الملايين إلى الشوارع وتحقق استجابة ظاهرية لمطالبهم حتى حين. وبالطبع لم يبق شعب في الشارع كما أرادت الناشطة اليمنية، ولا تحقق لشعب جميع أو بعض ما يريد.

وفي خضم هذا التصور للربيع العربي، نسي كثيرون أيضا أن شعوبا عربية أخرى رغبت في الثورة، لكنها لم تستطع كما استطاعت الشعوب الأربعة، أو لم تستمر في الثورة لأيام حتى.. من مثل العراقيين والموريتانيين.

والشاهد أن الشعوب التي حاولت الثورة لم تكن نخبها الممثلة لعشرها فحسب مؤهلة للثورة فضلا عن حكم بلادها، عدا عن أن شعوبا أخرى كانت  تحلم بالثورة لم تستطع تجاوز حصار أنظمتها المفروض حولها.

والنتيجة النهائية المعاشة الحقيقية لكل ما سبق، وبمنتهى المرارة في الحلق والروح، أن النخب الفاسدة المنهزمة المتولية أثناء الانتفاضات (لا الثورات) العربية استطاعت خلال أشهر لملمة أنفسها والإسراع للانقضاض على الحكم مجددا، وفرض آليات أكثر قسوة من التي انتفضت لأجلها الملايين، وبعض تلك النخب الفاسدة تحالفت مع قوى داخلية، وأخرى مع قوى خارجية.. والنتيجة أن القوى المنتفضة، أو حتى التي اختارت في الصناديق بعد محاولات الثورات، لم تكن إلا قوى ناعمة تمتلك حق رفع الشعارات، ما سُمِحَ واُستجيب لها، ولكنها لا تقوى على الثبات في وجه المحن، ولا الزيادة عن المعارضة الاحتجاجية.. وبالتالي فلا قدرة لديها على قيادة الدول أو التصدي لطوفان التحديات على أرض الواقع بعيدا عن الشعارات والكلمات الجوفاء!

لا ينكر منصف وجود مفكرين تفهموا الصورة مبكرا وآخرين حذروا من الانتكاس وخطره وشر الهزائم، لكن عددهم كان قليلا ولم يكونوا مؤهلين لقيادة الجموع بحال من الأحوال.

فإن جئنا اليوم وقارنا حال الشعوب العربية المحاولة للثورة بالثورات الفرنسية أو الإنجليزية أو الأمريكية، غفلنا عن نقاط مهمة. فمع تعرض هذه الثورات لموجات مد وجذر، وتقدم وتراجع في محاربة القوى الرجعية، فإن قوى المجتمع كانت تغالب بعضها بعضا في سبيل غد يحقق شيئا تدريجيا من الطموح الشعبي، أي أن الشعوب كانت في حالة استنفار تبحث عن التقدم والنهضة والانبعاث.. وتكاتف هذا مع محاولة الحضارة الغربية النهوض ومع غروب حضارتنا الإسلامية.

وإن القول بأن الربيع العربي مزدهر خلال سنوات قليلة؛ يخالف أول ما يخالف الحتمية التي تفرضها وقائع حياة الشعوب العربية الحالية، وعدم وجود بادرة للتغيير لديها، سواء أكانت ثائرة أم غير ذلك، ويكفي أن نلقي نظرة على حال بعض العرب ونخبهم المنفية في تركيا، على سبيل المثال، لنعرف مقدار بعد مثقفينا المفترضين عن الغد الحضاري.

الكلمات الأخيرة والفقرة السابقة لا ينفيان أن الأمل مقبل وقادم من وجه الله، الذي إن أراد هيأ الأسباب والعمل بها، ولكن ذلك يستوجب وعيا وتحضرا يغيبان بازدهار أماني خادعات وتطلعات أقرب للأوهام، ويكفي ما مر من سنوات "محلك سر" في تاريخ الأمة والأفراد، وإن البدء من جديد لأولى بالنخب العربية المحاولة للثورة اليوم شريطة نفض الركام من الأفكار والأقوال والأفعال والبداية بالتضحية بالذات فعلا قبل قولا.. والتمترس حول قضايانا المصيرية!