كتاب عربي 21

مصر في زمن الراقصة الروسية "جوهرة"!

1300x600
أول ما يثيره تنازع الاختصاص في أزمة فساد مستشفى سرطان الأطفال في مصر، هو: أين الدولة؟! وبالأحرى: أين السلطة؟ فقد بدت مصر تفتقد للسلطة الحاكمة في هذه الأزمة!

أتذكر بهذه المناسبة واقعة قديمة، إذ كنت أجلس على أحد المقاهي بشارع جامعة الدول العربية مع صديقنا الراحل "صلاح جودة"، الخبير الاقتصادي بعد ذلك، عندما نشب نزاع عنيف بين شخصين في الشارع، حول من صاحب السيارة التي لها أولوية المرور، وكان "جودة" من الذين ذهبوا لفض الاشتباك، وقد علم بأن كلا من المتشاجرين يعمل ضابط شرطة؛ لم يمنع علمهما بعد ذلك بأنهما ينتمين لجهاز واحد من الاستمرار في الشجار. وقد عاد صاحبنا من هناك وهو يضرب كفاً بكف، ويردد أن البلد ليس فيه وزيراً للداخلية!

كان اللواء عبد الحليم موسى، الذي يشغل موقع الوزير، أقرب للدرويش، وكان يستقبل في مكتبه أحد هؤلاء "الدراويش" الذي يراه هو صاحب كرامات منذ أن كان محافظاً لأسيوط، وبعد ذلك أراد أن ينفض عن نفسه غبار الدروشة، فصاح في البرية أنه رجل أمن محترف، وارتكب لإثبات ذلك الكثير من الجرائم، وأدخل الدولة في دوامة العنف والعنف المضاد، لكنه لم يقنع أحداً بأنه وزير قوي، حتى رجاله الذين لم يجدوا ما يردعهم من أن يتشاجروا في الشوارع كالشبيحة، وهم في مأمن من العقاب!

هناك خلاف بين الذين أثاروا قضية الفساد في المستشفى سالف الذكر، والتي أثيرت في وقت واحد في أكثر من صحيفة، على نحو يمكن قبوله بأن هناك جهة ما، تقف وراء عملية النشر المكثف هذا، وقد استعانت بالسيناريست وحيد حامد، وهو وإن كان من كتاب المقالات في الصحف، إلا أنه لم يسبق له في حياته أن تصدى لقضايا الفساد، أو اهتم بالكتابة في الموضوعات التي لا تجوز الكتابة فيها إلا بوجود المستندات المؤيدة في حوزة الكاتب!

ولا يمنع هذا من وجود فساد في هذا المستشفى، وقبل سنوات كان يتحدث عنه زميلنا "أسامة داود"، لكنه كان مجرد كلام لا يوجد دليل على صحته!

وبالسوابق، فنحن نعلم أن إثارة بعض قضايا الفساد في الصحف لا تكون في الغالب خالصة لوجه الله والوطن، بل كثيراً ما استخدم النظام الحاكم قضية مواجهة الفساد في تصفية خصومه، وبالتبعية فإن أجهزة الدولة تتعامل بمنطق دولة المماليك، في هذا الملف فليست مدفوعة غالباً بقيم النزاهة والشفافية!

وعندما تعلم أن قيمة التبرعات السنوية لهذا المستشفى مليار جنيه، وأن ما ينفق على المرضى هو 200 مليون جنيه فقط، سنقف بسهولة على أبعاد المشكلة وتشابكاتها، لا سيما وأن قناة واحدة كقناة "القاهرة والناس" تحصل وحدها على مئة مليون جنيه، قيمة الإعلانات سنويا.. فلماذا هذه القناة بالذات؟!

ولا سيما أيضاً عندما نعلم أن صحفياً شاباً حصل على قرابة الستة ملايين جنيها، لقيامه بتأليف فيلم خصصت المستشفى له عنبرين فارغين لشهرين؛ لتصوير الفيلم وإنتاجه!

وعندما يقوم المجلس الأعلى للإعلام بفرض حظر النشر على قضية الفساد هذه، فلا يمكن قبول هذا بحسن نية وسلامة طوية، لا سيما وأنه قد أساء استخدام سلطته فلم يرتب له القانون أي اختصاص في مجال حظر النشر، المعقود للنيابة العامة في القضايا التي تنظرها وترى ضرورة حظر النشر إلى حين انتهاء التحقيقات، والحظر سلطة تقديرية كذلك للمحكمة.

وليس بالضرورة أن يكون جميع عناصر مجلس الإعلام فاسدين لإصدار هذا القرار، فيكفي واحد فقط يحرض على استغلال المجلس في هذا الإجراء الجريمة، وهناك 800 مليون جنيه يوزعون ما بين مرتبات وإعلانات وخلافه، هذا فضلا عن أن المجالس الإعلامية الثلاثة هي من التشكيل الحر المباشر للأجهزة الأمنية. وفي المجلس الأعلى للإعلام، شاهدنا كيف لموظفين إداريين في دولة مبارك، قد صاروا من قيادات هذا المجلس، وأحدهم كان موظفاً في المجلس الأعلى للصحافة طردته الثورة من وظيفته لأنه رجل الأمن المنفذ للتعليمات، وقد جيء به باختيار أمني عضواً في الأعلى للإعلام!

"مكرم محمد أحمد" رئيس المجلس له وعليه، ويؤخذ منه ويرد، لكنه في النهاية صحفي كبير، بيد أن من دونه من هم بلا قيمة مهنية أو غير ذلك، وهم من أصحاب القامات المنخفضة، فيأتي اختيارهم لتمكين الأجهزة الأمنية من إدارتهم!

وهذه الأجهزة لا يمكن أن تكون بعيدة عن هذه القضية، سواء بالنشر أو بالحجب، وهناك تنازع للاختصاص بين هذه الأجهزة، منذ الانقلاب العسكري. وعندما نعرف الجهاز الذي يحمي الفساد في المستشفى المذكور، يمكننا معرفة الجهاز الذي يقف وراء النشر، ليتدخل الجهاز الآخر بحظر النشر، فيتدخل من سمح بالنشر بحماية قراره، ولا يمنع من استغلال صراع الأجهزة في تحقيق مكاسب للفريق المنفذ للتعليمات هنا وهناك، وعلى قاعدة "طباخ السم.."!

وهذا الصراع يذكرنا بصراع الأجهزة في واقعة الراقصة "جوهرة"، التي تم إلقاء القبض عليها لأنها تمارس عملها بدون ترخيص، وأنها ترتدي بدلة رقص غير مطابقة للمواصفات، وهو ما نشر في عموم الصحف والمواقع!

لكننا فوجئنا بجهة تتطلق وتطلق سراحها، وترد لها الاعتبار بتمرير كلام دفاعها بأنها لم تخالف القوانين، مما استفز الجهة الأولى، فصدر قرار ترحيلها من مصر، لكن هذا القرار ألغي ليسدل الستار على هذه القضية، ولا نعرف إن كانت القضية مفتوحة أم أغلقت، فقد أصبحت "جوهر" من مراكز القوى في مصر، وهو نمط للحكم لا تجده إلا في ظل الحكم الاستبدادي العسكري!

بعد أيام من صدور قرار المجلس الأعلى للإعلام، صدر بيان النائب العام الذي يضع النقاط فوق الحروف، من حيث إعلانه انحدار قرار المجلس لمرتبة العدم، مشيراً إلى أن الحظر من اختصاص السلطة القضائية والتنفيذية، وإن كنت لم أفهم ما يقصده بـ"السلطة التنفيذية" هنا؟.. فهل يقصد أن تبعية النيابة العام لوزير العدل؟.. وإن كنت أرى أن هذا الاختصاص تمارسه النيابة من حيث اختصاصها القضائي، وليس لكونها تتبع لوزير هو عضو في السلطة التنفيذية!

في هذا الخطاب التوضيحي استدعى النائب العام مكرم محمد أحمد للمثول أمام نيابة أمن الدولة، ورد مكرم على البيان ببيان، وقال إنه وإن كان سيمثل أمام النيابة، فإنه يرى أن حظر النشر من سلطته، بموجب السلطة التقديرية التي منحها له القانون!

ليس للمجلس الأعلى للإعلام اتخاذ هذا القرار، ولو بموجب السلطة التقديرية، التي هي القدر من الحرية الذي يتركه المشرع للإدارة كي تباشر وظيفتها الإدارية على أكمل وجه، فوظيفة المجلس هي الحفاظ على حرية الصحافة وليس النيل منها!

وتنازع الاختصاص هذا لا بد أن يطرح السؤال المهم: "أين السلطة الحاكمة"؟.. والسؤال بطريقة أخرى: هل كان يمكن أن يحدث هذا في عهد مبارك مثلا؟!

في تقديري أن الرئاسة لم تكن لتسمح بوصول الخلاف إلى الصحف بين مؤسسات الدولة، لأن حدوثه ينال من هيبة الحكم، ويؤكد أن مصر بلا رئيس، وهنا تكمن المشكلة!

فالسيسي هو النموذج الموضح لحكم الفرد، ولأن الدول أكبر من أن تكون قبضة شخص واحد، فهذا ينتج عنه حكم "المماليك". فكل جهة تتغول على الجهات الأخرى، وكل جهاز يسعى لفرض إرادته، عندما يكون النفوذ مهماً لتقاسم "كعكة الفساد"، بينما يظن الحاكم أنه سلطان زمانه، وهو الحاكم الناهي، ولا يعلم أن سلطته تلاشت إلى حد الانكشاف، كما حدث في موقعة الراقصة "جوهرة"!

إنه صراع الأجهزة، وليس صراع الأجنحة!