كتاب عربي 21

حماس والثورة السورية.. الظرف الواحد وسوء الفهم

1300x600

(1)
التشوش الذي يطرأ على أيّ قضية أو ثورة نهضت على أساس عادل، لا يخدش في عدالتها، بما في ذلك أخطاء الفاعلين الأصلاء الذين يحملون القضية أو الثورة ويدافعون عنها. وفي حالتنا نحن العربية، ومن ضمنها قضيتنا الفلسطينية، تتداخل الظروف الموضوعية وطول الأمد واختلال موازين القوى مع أخطاء الفاعلين الأصلاء، وبقدر يستحيل فيه فكّ عناصر التداخل عن بعضها.

وهذا ليس تبريرا لأي خطأ، ولكنه تفسير لا بدّ منه للتأكيد الدائم على أصل أي مسألة أو قضية، وحتى نزداد تواضعا في نظرتنا لأنفسنا والعالم، وإلا لعشنا تمركزا مروعا حول الوجع الذاتي، نكون نحن الموجوعين أكبر ضحاياه.

لا يوجد أيّ تعارض أو تناقض أصلي بين القضية الفلسطينية والثورة السورية، ولكنّ التعارضات الظاهرة طارئة بحكم الظرف الموضوعي واختلال موازين القوى واهتراء الدول العربية واحتكامها للشرط الاستعماري. وفي الأساس، هذا سبب وجود قضيتنا نحن الفلسطينيين وطول أمدها، وهذا سبب المأساة السورية وطولها من بعد قيام الثورة العادلة والمحقّة. ومهما كانت أخطاؤنا الذاتية، ومهما كان حجمها، وكيفما عزّزت من مشكلتنا، فإنّها تظل هامشا بالنسبة للظرف الموضوعي المتعلق باختلال موازين القوى..

 

 

لا يوجد أيّ تعارض أو تناقض أصلي بين القضية الفلسطينية والثورة السورية، ولكنّ التعارضات الظاهرة طارئة بحكم الظرف الموضوعي واختلال موازين القوى واهتراء الدول العربية واحتكامها للشرط الاستعماري



الإشكال أنّنا حينما نتمركز حول الوجع الذاتي، لا يغيب عنّا، في نقدنا وعتبنا لغيرنا، الظرف الموضوعي المحيط فحسب، وإنما ظرفنا وتاريخنا الثوري نفسه، إذ يغلب الشعور بالوجع على الظرف الثوري الذاتي.

نحن الفلسطينيين مثلا، حتى بين أبناء التنظيم الواحد، كثيرا ما ترتكس سجالاتنا في وهم اللحظة الراهنة؛ معتقدين أن التاريخ بدأ من عندها، أو ترتكس في واقع التقسيم والتجزئة المناطقية. وكثيرا ما نتوهم أن الشعوب العربية، أو مناطق أخرى داخل فلسطين، هياكل متجسّدة في الواقع من وحدة موضوعية واحدة يمكنها أن تخرج لنصرتنا "بكبسة زرّ". فالمشكلة إذن؛ في غياب وعينا الذاتي بظرفنا وتاريخنا، واستنادنا إلى تصوّرات متوهّمة عن الآخرين والمحيط، وبما يعني من جهة مقابلة عن أنفسنا أيضا. والفهم الخاطئ يعني دائما توقعات خاطئة وسياسات خاطئة وسوء إدارة لمجمل علاقاتنا!

(2)
أخيرا ظهرت تصريحات متتالية لعدد من قيادات حماس فيها توّدد لإيران، وبدت وكأنّ فيها اعتذارا عن دعم حماس الفعلي من قبل للثورة السورية. وبالرغم من تأكيد بعض تلك التصريحات أن حماس خارج سياسات المحاور، وأنّها تحتفظ أو تسعى للاحتفاظ بعلاقات جيدة مع كل الفرقاء المتخاصمين في الإقليم، وأنّها لا تدعم طرفا بعينه في الصراعات الإقليمية أو الأهلية، إلا أنّ تلك التصريحات فُهمت من ناشطين سوريين في إطار الثورة السورية على أنّها غطاء من حماس للسلوك الإيراني في سوريا. وهذا النقد بهذا القدر مقبول، بيد أنّه بلغ حدّ إسقاط حماس مبدئيّا وأخلاقيّا، وهو بذلك يُغفل الظرف الثوري السوري نفسه!

الظرف الثوري السوري لم يكن منفكّا بطبيعة الحال عن موازين القوى المختلّة، ومن ذلك اضطرار الثورة السورية للداعمين الإقليميين والدوليين، والذين لا يمكن القول أبدّا إن تمويلهم للثورة بالمال والسلاح لم يكن مسيّسا، كما لا يمكن القول إنّ القوى الاستعمارية التي استباحت أمّتنا وسحقت شعوبنا وسفكت دماءنا، ثم شرطت الأنظمة التي نثور عليها اليوم بشرطها الاستعماري، لا يمكن القول إنّها استحالت فجأة إلى ملائكة أطهار في دعمها الثورة السورية، كما أن بعض الدول الإقليمية التي تآمرت على الثورات العربية في تونس وليبيا واليمن ومصر، بل وموّلت سحق الثورة المصرية واستباحة العزّل في شوارع مصر؛ لصالح أبشع انقلاب عسكري في تاريخنا الحديث.. لا يمكن القول إنّ هذه الدول كانت متعاطفة مع مطالب الثورة السورية العادلة، أو متعاطفة مع فكرة الثورة!

 

الظرف الثوري السوري لم يكن منفكّا بطبيعة الحال عن موازين القوى المختلّة، ومن ذلك اضطرار الثورة السورية للداعمين الإقليميين والدوليين، والذين لا يمكن القول أبدّا إن تمويلهم للثورة بالمال والسلاح لم يكن مسيّسا


هذا جانب مما اضطرت إليه الثورة السورية، أو تلبس ظرفها الثوري، وهو جانب لا يخدش في عدالة الثورة وأحقية مطالبها وفكرتها ووجودها، وهو جانب لم ينتقده أحد من مؤيدي الثورة في مجالنا العربي، لإدراكنا جميعا اختلال موازين القوى، وإنما صار هذا الجانب يُستحضر اليوم في مناقشة الخطاب الذي يُسقط فيه بعض نشطاء الثورة السورية حماس مبدئيّا وأخلاقيّا، مستندين إلى اضطرار حماس للدعم الإيراني، أو إطلاق حماس لتصريحات لا تبدو في توددها للإيرانيين أو محورهم مراعية للوجع السوري.

الإسقاط على أساس المبادئ والأخلاق يعني بالضرورة الاستناد إلى أرضية بريئة تماما - ومن كل وجه - مما يُعاب على الآخرين، كالتموّل من مستعمر أو قاتل أو متآمر على الثورات. ولست أدري ما الذي يجعل التموّل من أمريكا مسألة خاضعة للاختلاف السياسي - كما قرأت لبعضهم - بينما التموّل من إيران مسألة خاضعة للنقد المبدئي!

إنّ أي تأويل أو تكييف لهذا السلوك الذي يتلبّس به صاحب الخطاب المبدئي هو التفاف على المبدأ، إذ لا معنى للتفريق بين التموّل والتعويل وإقامة الصداقات والتحالفات، وبين التصريحات التي تثني على المموّل، فإمّا أن النقاش في المبدأ، وإمّا أنّه في التفاصيل التي تُعامل بقدرها ولا تستأهل إسقاط صاحبها أخلاقيّا.

إنّ نشطاء الثورة السورية الذين يسقطون حماس أخلاقيّا ينسون أن هذه الأخيرة تمرّ بظرف لا يشبه ظرفهم الثوري فقط، بل هو أقسى وأصعب حرفيّا، فهي لا تتعرض فقط لحصار محكم في غزّة من النظام المصري الذي موّله بعض مموّلي الثورة السورية، ولكنها فعليّا تتعرّض لحصار اقتصادي كامل، يمتنع فيه من يظنّ البعض فيهم أنّهم أصدقاء لها عن دعمها، في وقت يجري فيه الترتيب لخطة تصفوية للقضية الفلسطينية، ويراد في سياقها إما سحق حماس أو تركيعها وجرّها لهذه الخطّة كما حصل مع عرفات بعد حرب الخليج عام 1991.

 

نشطاء الثورة السورية الذين يسقطون حماس أخلاقيّا ينسون أن هذه الأخيرة تمرّ بظرف لا يشبه ظرفهم الثوري فقط، بل هو أقسى وأصعب حرفيّا


وقد وصل الأمر ببعض هؤلاء النشطاء إلى اعتبار حماس في صفّ أعداء الثورات العربية، في مبالغة واضحة في التمركز حول الذات تختزل كل الثورات العربية في الثورة السورية. فالثورة المصرية سحقت بأموال بعض داعمي الثورة السورية، ولم يجعل أحد منّا الثورة السورية، أو حتى فصائلها المتمولة من ذلك البعض، أو المرتهنة له، في عداد أعداء الثورات العربية!

(3)
ما يمكن قوله في هذا السياق كثير، كاستهداف حماس بهذه الحدّة من الانتقادات دون دول أضرّت بالثورة السورية وتملك من الممكنات ما يجعلها أكثر قدرة على مواءمة مصالحها مع مبادئها المدعاة أو مع دعمها للثورة السورية، لكن هل نقول إن حائط الفلسطيني أوطأ إذ لا ضرر من اعتلائه؟! فانتقاد الفلسطيني وشتمه وإسقاطه لن يمنع وظيفة عن ناشط، ولن يطرده من عمل، ولن يحول دون مروره من هذه الدولة أو تلك، بل في هذا الظرف تحديدا، ولا سيما إن تعلق بحماس، هو جواز مرور!

حسنا، الكثير يمكن قوله في هذا الصدد، لا سيما في مناقشة ما يطرح من مقارنات بين القضية الفلسطينية والثورة السورية، أو بين العدوان الإيراني على الأمة وبين المشروع الصهيوني الذي باتت ترتهن إليه اليوم وبشكل مكشوف دول أساسية في المنطقة، مما يجعل من هذه المقارنات محض حماقة لا معنى لها، وغير ذلك مما يدور في هذه السجالات. لكن مما يجدر التنبيه له؛ هو ذلك الإلحاح على الافتراض فيما لو أن الثورة السورية تحالفت مع "إسرائيل" في سياق انتقاد علاقة حماس بإيران.

بصرف النظر عن الخطأ الفادح في هذا الافتراض، والكثير مما ينبغي قوله حين مناقشته، فإنّ هذا الافتراض يسيء لفصائل الثورة وناشطيها، ولن نقول للثورة؛ لأننا من البداية قلنا إن جوهرها العادل لن يخدشه شيء مما يطرأ عليه.

 

يفترض أن النظام الذي قامت عليه الثورة، ليس أكثر عداء للمحتل الأجنبي من الثورة نفسها، ويُفترض أن قوى أساسية في الثورة تشكك في مصداقية عداء النظام لـ"إسرائيل" وتتهمه ببيع الجولان

فبمنطق التقسيم والتجزئة الذي نعاني منه جميعا، تحتل "إسرائيل" أرضا سورية، ويُفترض أن النظام الذي قامت عليه الثورة، ليس أكثر عداء للمحتل الأجنبي من الثورة نفسها، ويُفترض أن قوى أساسية في الثورة تشكك في مصداقية عداء النظام لـ"إسرائيل" وتتهمه ببيع الجولان. وبمنطق الثورة نفسها، فإنّها قامت على النظام القديم، وعلى كل الظروف والأوضاع التي أوجدها، أو أوجدته، وبداهة فإنّ النظام العربي برمته، والسوري منه، من أسباب ضياع فلسطين، ونحن اليوم في ذكرى هزيمة العام 1967؛ ينبغي أن نذكر بأنه لم يكن حينها للفلسطينيين لا دولة ولا جيش هُزم في تلك الحرب!

إننا إذن، نحن المستضعفين وأصحاب القضايا العادلة، ضحايا الظرف نفسه؛ إجرام العالم، ورداءة الحالة العربية، واختلال موازين القوى، وإن هذا الظرف نفسه يخلق بيننا تناقضات ثانوية طارئة وغير أصيلة، ويضطرنا إلى سياسات نعيبها على غيرنا ولا يختلف فيها إلا التفاصيل والعناصر، وحينئذ ينبغي أن نبدع خطابا نقديّا لا يغفل ذلك، فإدراك هذا الظرف لا يعني صوابية سياسات حماس ولا غيرها، ولكنه يعين على وضع مثل هذه السياسات في إطارها الدقيق، وبالتالي نقدها بشكل صحيح.